اطّلعتُ على جُل ما قيل في حق الراحل هذا الصباح... وتأكدت تمام التأكيد بأنني لم أكن مخطئاً في حق الرجل... قرأت مقالات وشهادات لأجد الرجل الاستثنائي، الرجل المسالِم صاحب المواقف الشجاعة، الأمين المؤمن، النزيه الصادق، رجل الحوار الموضوعي، السياسي النظيف، المتواضع النبيل، القنوع الفاضل، المستقيم الملتزم، المهني المناضل، الصديق حلو المعشر، المتفاني في العمل، المتحرك بالاهتمامات المتعددة، القوي الهادىء، الطيب الرزين، الرائع، الهرم الكبير... الشامخ... الأيقونة، والمفرد بصيغة الجمع... وهلمّ اعترافاً... طمأنت نفسي إذن، والحالة هذه، بأن الرجل كبير حتّى في تواضعه... تحدثوا عن رثائه، ورثوه في أحاديثهم بلسان نبيل وأقلام بالحِبر النّقي... أضعناه، وأَيّ رَجلٍ أضعنا؟ تحدثوا عن الإعلامي... عن السياسي... عن الدبلوماسي... عن الكاتب... عن المثقف... عن المفكر... عن المؤرخ... عن الإنسان... هذاك الإنسان، عْلى زين فيك! غمرتني فرحة عارمة مرّتين حين تعييني عضو لجنة الدعم السينمائي ذات عام، لأن اللجنة ترَأّسَها السيد المحتَرم محمد العربي المساري... تعيينه رئيساً لم يدع أي مجال للتساؤل أو المساءلة، عكس ما وقع لرؤساء من قبله، ومن بعده... هناك إذن، إجماع على استقامة الرجل، ولا مجال للشك أو التشكيك في المصداقية. كنت أعرف الرجل عن بُعد، واحترامي له يفوق الاحترام... رجل يوحي بالصِّدق والنزاهة، والطيبوبة خُضرة فوق طعام... كانت الاجتماعات تنطلق في الساعة التاسعة والنصف صباحاً لمناقشة السيناريوهات المقترَحة للدعم... وكان ثاني مَن يحضر إلى المركز السينمائي المغربي يُخبر الآخرين بأنّه وجد مسيو المساري موجوداً في قاعة الاجتماعات... يحضر أحياناً قبل أن يصل الموظفون بالمركز الذين يتولّون مهمة لجنة الدّعم... وهذا تحصيل حَصَل... مناقشة كل سيناريو على حِدَة، بالتدقيق والعمق، ولو بقينا النهار بكامله... لن نُضَيّع أي مجهود بذله صاحب السيناريو... فالأمانة على عاتقنا... ومن البديهي أننا قرأنا كل الأعمال دون استثناء... أنا شخصياً، خصّصت وقتاً طويلاً لقراءة كل المشاريع، فهذه مسؤولية، وكل مِنا مسؤول عن مهمّته... هكذا جادت قريحته صباح أول اجتماع... يكتفي في البدء بذكر عنوان السيناريو وإسم المخرج، ليعطيَ الكلمة للأعضاء ليبدي كل منهم برأيه. وليدافع عن قراءته. الكل يستعمل التعبير اللغوي الذي يرتاح فيه... عربية أم فرنسية... المهم، أن يأخذ وقته كاملاً للتعبير بكامل الحرية... يستَمع الأستاذ المساري إلى الجميع، وأمامه ورقة يسجّل عليها ما يُسجِّل... نعم، يستمع أكثر مما يتكلّم... وحين يشعر بلحظة إرهاق الأعضاء... يمنح دقائق معدودة للتنفّس، أو لإشعال سيجارة (كنا أربعة من المدخّنين)... لحظة الحسم في المشاريع المدعّمة تطول، والكلام للأعضاء... قد يختلف معك في وجهة نظرك حول هذا السيناريو أو ذاك، لكنّه يُصِرّ على تعميق رؤيتك والإدلاء بأدلة وحجج من داخل العمل المكتوب... رزانة... قوة الاستماع... عمق الإنصات... وكل هذا بالبشاشة من فضلكم! علّمنا في الواقع مسألة الديمقراطية بأنبل وجوهها... علّمنا احترام الرأي الآخر، والإنصات إلى الوجه المعاكس... علّمنا بأن المسؤولية مروءة... علّمنا بأن الطيبوبة والبشاشة هما علامتَان من علامات الكبار الأقوياء... أصحاب العمق في التفكير والتحليل... وحين يجلس على مائدة الغذاء داخل المركز السينمائي، يختلط الجدّ بالهزل... ويجالسنا كصديق حميم يسأل ويجيب... ننسى السيناريوهات لنقتحم ولو للحظة وجيزة عالم التاريخ والأدب والسياسة والإعلام واللغة، وقِس على ذلك! وها هنا، ينتقل الأعضاء إلى مستمِعين... إلى مستفيدين من تجربة الرئيس في هذا المجال أو ذاك الحقل... وبعد سنة، أخبرونا بأن السيد العربي المساري سيغادر رئاسة لجنة الدّعم السينمائي إلى مهام أخرى... قَضّينا السّنَة الثانية بدون رجلٍ أحببناه... احترمناه... قَدّرناه... والسنة الثانية لم تكن الأولى بحال... فقد فقدنا خلالها طعم اللقاءات والمناقشات الحيوية الجميلة... وها هو يغادرنا مرّة أخرى إلى غير رجعة... فالشموخ لا يموت، سيبقى السي العربي حاضراً معنا بِصيغة كان...