موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب        صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاتحادُ الاشتراكي فكرةٌ للإنجاز أم تركةٌ للاقتسام؟
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 21 - 07 - 2015


رحلة في الذاكرة وتأمل في الواقع
المناسبة:
زارني يوم 26 رمضان بعض الأعزاء المشاغبين، فاستدرجوني للحديث في موضوع صُمتُ عن الخوض فيه دائما على مضض. اقْتَحموا قلعتي بأسئلة استفزازية عن شخصيات اتحادية أصابها الدوار من حركة المركب. وهي شخصيات كبيرة كنتُ أنتصرُ لها على الدوام. وعندما لا حظوا أن حديدي باد بارد من هذه الناحية؛ وأن موقفي يكاد يطابق موقفهم، قالوا: إذن مات الاتحاد! وقعتُ في الفخ، فأطلقتُ لساني في مسارات عديدة بلا حرج. وعندما علموا أني أفرغتُ حقيبتي وبدأتُ أكرر وقفوا منصرفين، وقالوا: ما جئنا لنشرب الحريرة! أنت مُخير بين أمرين إما أن تصوغ ما قُلته وتنشره، وإما أننا سننسخه حرفيا وننشره. فسجلتُ ما يَحتمله المكتوبُ، وتركتُ ما سوى ذلك مما تشوبه عيوب.
الرحلة على هامش الاتحاد
عِشتُ على هامش الاتحاد: لا داخله بمعنى الكلمة، ولا خارجه بمعنى الكلمة إلا في المرحلة الأولى من زمن الطلبة والعسكر: أختفي عند الطمع، وأحضر عند الفزع. أدخل وأخرج حسب هواي من الاستقلال إلى اليوم. لذلك فلا تَصْدُق علي صفة الحزبي الملتزم مهما نظَّرتُ، ومهما ادعيت أنْ لا سياسةَ خارج الأحزاب. أقول هذا لأريح من سيأتي، ويقول: لَمْ يكن فلان قطُّ حزبيا منتظما. فأنا أتحدثُ من الهامش.
وعُموماً فإن الانتماء إلى الاتحاد، من أواخر الخمسينيات إلى أواخر الستينيات، لم يكن خيارا فرديا لأحد من أحرار المغرب، بل كان قدرا مقدورا. كل الأحرار كانوا اتحاديين في وقت من الأوقات، أو قريبين من الاتحاد، على يمينه أويساره، اشتراكيين وإسلاميين...الخ.
هل تعرف لماذا؟
لأن المخزن لم يكن يترك للأحرار خيارا آخر. كان الاتحاد بالنسبة لي وللكثيرين من جيلي فِكرةً واضحة ورجال كالأعلام الراسية في قلب الصحراء. كان فكرة تهفو إليها النفوس، فكرة الكرامة في مواجهة النزوع القروسطي للمخزن.
صنع المخزن الأحزابَ على أساس عنصري "حقيقة"، و على أساس وسطي ليبرالي "مجازا" (من باب تسمية الأعمى بصيرا)، إلى أن طمع في صنعها من الإسلاميين واليساريين ففعل. واستلَّ الرجالَ من صفوف الاتحاد، ولكن الفكرة لم تذهب معهم، بل بقيت في مكانها حتى صارت تتلخص في كلمتين: الدولة المدنية بملكية برلمانية، ثم تُلخصُ في كلمة واحدة: "الكرامة"، كلمة خفيفة على اللسان، ثقيلة في الميزان. هذه هي الوديعة التي على من يدعي أنه اتحادي أن يحملها بثمنها ويبلغها مأمنها. هذا الكلمة بدأت بكلمة أخرى: "وثيقة دستورية" بشروطها الكونية. اليوم حقوق الإنسان بشروطها الكونية.
سُجنَ الاتحاديون وقُتلوا ونُفوا فتحول الزعماء إلى شهداء لا يباعون ولا يشترون ولا يوسخون. ولأنهم شهداءُ قضيةِ وطنٍ وشعب، فكل من مَدَّ يده في اتجاههم بسوء حلتْ به اللعنة، وسِيمَ الخَسَفَ، وأصابه الصغار، من أوفقير إلى الدليمي والبصري إلى ناكح الجثث.
أساس النزاع
إلى ما قبل المؤتمر السادس كان خلافُ الاتحاديين على المنهجية النضالية: بين يمين نقابي ( يقال نقاباوي خبزي!) ويسارٍ ثَوري (يقال انقلابي مغامر) ووسطٍ حائر بينهما، بل ضائع أحيانا (يقال بيروقراطي إصلاحي). الوقوف في هذا الموقع الوسط. وقوف في قلب العاصفة، كان عبد الرحيم بوعبيد في هذا الموقع الصعب كقبة الميزان حتى سقط تحت ضغط لا يطاق بين مناضلين كانوا كبارا، ثم أخذ بعضهم طريق الانزواء والضمور، وأخذ البعض الآخر الهبوط والانحدار حتى استهلك رصيده التاريخي، والتصق بالكراسي والمواقع والحقائب حتى تيبس. وتفرقت الطرق بالباقي في رهان على المستقبل.
رغم الضربات والكدمات التي أصابت الاتحاد في "زمن الطلبة والعسكر" (الحركة الماركسية والانقلابات وقضية الصحراء والإضرابات والانتفاضات، والاغتيالات) ظل رقما صعبا، بل لا عبا لا يمكن ممارسة اللعبة معه دون تكسير رجليه ويديه.
لماذا ظل الاتحاد مرعبا
رغم كل ما أصابه؟
كان مرعبا لسببين: أولهما أنه كان نهرا عميقا جارفا يرتمي فيه كل مظلوم، ويرتمي في تنظيماته النقابية والثقافية والجمعوية كل من لا حَيْثِيَةَ له ولا واسطة من أبناء البوادي والأحياء المهمشة الذين كانت المدارس تقذف بهم إلى معترك الحياة مجردين من كل سلاح. (ومع الأسف كان يرتمي في هذه البيئات أيضا عدد، ولو قليل، من الانتهازيين والمغامرين). أكاد أحكي لك عن حياة عشتُها. ولذلك فحين تسمعُ عبارة "الأسرة الاتحادية" ينبغي أن تفهم المقصود. فقد كان في هذا الاتحاد (الذي يَطمعُ في بيع جلده اليوم من هب ودب) أولياءُ الله الصالحون. حكايةُ الوادِ الاتحادي والأسرة الاتحادية حكايةٌ طويلة.
هذا عن قوة الاتحاد الذاتية، الشعبية، أما على المستوى الخارجي فقد كان الاتحادُ مُزعجا بامتداده القومي الاشتراكي، ثم صار مخيفا إن لم أقل مرعبا ببعده الحقوقي بعد انتهاء مهمة المخزن في الحرب الباردة.
كانت الدبرة الحقوقية تؤلمُ الملك الحسن الثاني، غفر الله له، لأنهُ كان يَوَدُّ العيشَ في انسجام صعب مع بذلته العَصرية. كانت ألسنة الصحافيين الفرنسيين تجرح كبرياءه أحيانا بالملف الحقوقي والاعتقال السياسي. ولذلك فأهمُّ نجاح حققه المخزن بعد التناوب المرتب (يسمونه خطأ التوافقي) هو نجاحه في تصدير بعض همومه (بعد الربيع العربي تحديدا) إلى الأصوليين الدينيين بشكل صريح.
وهذا الملف هو الذي يخنقهم بدورهم ويسببُ لهم الحرج تِلْوَ الحرج، فلا يجدون من جدار يختبئون وراءه غيرَ ترديد ما كان المخزن يداري به استبداده، وهو عدم جاهزية الشعب المغربي. أو التخويف من خروج الشعب: عدم الجاهزية يقولها السيد رئيس الحكومة لمن يستقبله من الأوروبيين، والتخويف من خروج الشعب يقوله لنا هو ووزير العدل.
وورقة الحقوق هذه وإن كانت لا تستقطب الجماهير المشغولة باليومي الاستهلاكي فإنها الورقة السياسية الأقوى في العصر الحديث. لا يمكن للسياسي، حتى ولو لوح بذلك، أن ينزل الجماهير الشعبية للتظاهر مع كل أزمة، أما تنظيمات المجتمع المدني فيدها على الزناد مع كل نازلة. وليس أمام من يحكم اليوم من الدينسيين في البلاد القليلة الثروة مثل المغرب خياراتٌ كثيرة: أمامه المنظمات الحقوقية الدولية، أو الداعشية، أي الهلاك.
استمرار الرعب؟
هذه مقدمات توضيحية اقتضاها واقعٌ عجيبٌ ألاحظه اليوم من الخارج، واقع يتجلى في حالة نفسية انتشرت كالوباء في مساحة واسعة، تعبر عن نفسها تعبيرا ينطوي على مفارقة: جهات أربع كبرى (تحذوها السلطة والمال والدين ومواقع المنافع) تقول جميعا وبحزم: مات الاتحاد الاشتراكي! وتُؤجِّر النائحاتِ لتلطم خدودها بالنعال، وتطلي وجوهها بزبل البقر تعبيرا عن الحزن! وتقرب الميكروفون من بعض أهل الدار ليقول لها: "غادرتُ الاتحاد وهو جثة هامدة"! بل وصل الطمع بالبعض أن رسم قبرا للاتحاد الاشتراكي، ليقنع الورثة بالإسراع في قسمة التركة، وهو غير وارث لا بالفرض ولا بالتعصيب.
يمتد جمهورُ هذا الخطاب/الأُمنية من تيوس الشابكة (النيت) المأجورين والمغرر بهم الذين لا يُركِّبون جملة مفيد واحدة خالية من الأخطاء الدالة على تيوستهم إلى المناضلين الكبار الذين وضعوا أولى خطواتهم نحو المجد في حِجْر الاتحاد، والثانية على ظهره، والثالثة يضعونها اليوم على نعشٍ أعدوه له ليرتفعوا نحو الهاوية.
وقد وجد الصحافيون المقاولون في المناضلين المتعَبين، وفي ما يحكونه من تاريخ الاتحاد مقلعا ينبشون فيه كلما طلب منهم النبش، دون أن ينزعوا شارة الحداثة عن أكتافهم. بل منهم من جعل إلقاء الحجارة على الاتحاد، والجراءة على رموزه، نهاية مرحلة وبداية مرحلة تكون فيها الصحافة هي المعارضة الحقيقة المتبقية. خدعة يخدعون بها السذج الذين يريدون التمتع بكل ثمار الحداثة دون تحمل عناء الوصول حتى إلى مكاتب التصويت: جمهور الشواطئ والمهرجانات...الخ. (ينبغي فتح ممرات مع هذا الجمهور الذي يختبئ وسطه شباب قلقون مندفعون يعرقلون السير بسلوكات متطرفة مستفزة من حيث يعتقدون أنهم يتقدمون الجميع).
ونحن نفهم أين تسير هذه المعارضة الصحافية المزعومة بمقارنتها بأمها، أو جدتها، في مصر التي تجاوزتْ ما عندنا من ترقيع (بريكولاج) إلى العمل الاحترافي الذي يستعمل الفضائيات في الاستقطاب الواسع وصناعة الرأي: ترفع وتضع في أسابيع. وأنا مقتنع أن حملة أكثرهم عل الاتحاد ليس قناعة شخصية، بل مهنة اضطرارية تحولت إلى محتوى المثل الإنجليزي: من يؤدي للزمار يختار اللحن.
من المعلوم أن دخول الصحافة المستقلة في الحربَ المعلنة على الاتحاد بدأت مع تولي الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي مهمة تدبير مرحلة محددة صعبة، مرحلة اللقاء التاريخي بين مسارين متعارضين: مسار الاتحاد والمتعاطفين معه (وكانوا موجودين في كل مكان)، ومسار المخزن ومخلوقاته المشوهة والمتحولة. فتم تدبير المرحلة بنجاح من قبل الاتحاد لصالح الوطن، ومن أجل الوطن، ولكن الاتحاد ترك فيها جلده إلى إعلان آخر: خرج منها جريحا يطمع النمل في تصفيته. هل ستصمد القيادة الحالية في الخروج من المؤامرة الحالية بأقل الخسائر، أم سيتطلب التعافي سنوات؟ الله أعلم.
حين نتحدث عن دخول الصحافة في الحرب على الاتحاد لا نُخمِّن، بل نُحيل هنا على كوالس جريدة لوجورنال التي صارت مطروحةً على جنبات الطريق. فحين حاول طاقمها الخروج من المستنقع تركوا فيه هم الآخرون جلودهم، وتفرقوا في الأرض قِددا. ولا نزيد. لقد كان الغرض في ذلك الوقت كَسْفَ لَون الوردة الفاقع. فَأنْ يحتلَّ حزب بذلك الوزن التاريخي المرتبة الأولى، في ذلك السياق، هذا إنذار جدي! لا بد من كسفه وتلطيخ تاريخه، واتهام رجاله بكل التهم، والتشكيك في شهادة شهدائه، ثم صارت اليوم إلى محاولة إقناع أبنائه والمنتمين إليه بأنه مات، لينصرفوا عنه. وحَتى لا يترددوا أمام السؤال: أين سنذهب؟ سَتُنْصبُ لهم خيمة في العراء، وعندما يستقرون تحتها سيُطيرها أيُّ ريح، والتاريخ بيننا.
لا يصدقون
إلى حد الآن لا غرابة في الموضوع، فهذا طبعُ عينات من البشر! الذي استفزني هو أن هؤلاء جميعا اتخذوا القبر الذي حَفروهُ منذ زمان كَعبةً، وبنوا عليه مَزاراً: يزورونه ليلا ونهارا، لا ليترحموا على الفقيد الذي دفنوه، ويطلبوا له السكينة، بل ليتأكدوا من أنه مات فعلا، ولن تعود إليه الروح! وأكثرهم صار يشك في أن يكون الاتحاد هو ما دفنوا! كيف يكون هو هو وهم يرون الجماهير تجتمع في الأقاليم، وفي المقرات، وتدعي أنها تراه رأي العين؟
البديل بلا دليل
استمعتُ بعناية كبيرة، وبتركيز شديد، لحديث مناضلين تَعرَّفتُ عليهم في ظروف صعبة (1978 1981)، وآخرين قاسمتهم لحظات نقابية وطلابية ساخنة (68 19 1973, 1981 1999)، وآخرين لم أسمع بهم من قبل، فوجدتُ منظومة حججهم لا تخرج عن الصراع على المواقع: مواقع ضاعت، وأخرى قادمة ستضيع، والتزامات بتمثيلية خارج الصناديق لم تُحترم، بل سمعتُ الخوفَ من عدم الحصول على التزكيات، وأسوأ من ذلك سمعت الحديث عن تغيير الخريطة البشرية للحزب، (ولم أسمع، لحسن الحظ، الخوف من تغيير الخريطة الجينية رغم أن هذا الخوف قائم)، وسمعتُ الحديثَ عن الاتحاديين الحقيقيين وغير الحقيقيين. ولم أسمعْ فكرًا أحسنَ من فكر، ولم أَرَ رجالاً ونساءً أحسنَ من رجال ونساء، ولا شباباً أحسنَ من شباب. ومسحت ما دون ذلك من ذاكرتي.
استرجاع:
لنعد قليلا إلى الوراء: بعد المؤتمر السادس للحزب اتصل بي بعضُ الأصدقاء الأعزاء، ممن أكن لهم حبا وتقديرا لا حدود له، وسيدوم مهما كان، وجلسنا نتناقش ليلة كاملة. كان سؤالهم: هل ترى إمكانية نجاح حزب جديد يصون تاريخ الاتحاد ومبادئ الاتحاد. وكان جوابي من البداية إلى النهاية: لا. مادام الفراق ناتجا عن خلاف تنظيمي فمعنى ذلك أنه لا توجد فكرة، ومعنى المعنى لا يوجد حزب. وما زلتُ على هذا الرأي، والتاريخ لا يجامل أحداً. وقلتُ قبل المؤتمر لِمَنْ تحدثوا عن "إرهاصات جديدة": تلك فتن جديدة، لقد حَلَّ موعدها، فلا تكونوا من أدواتها. وهذا منشور في عدد من أعداد النشرة، وفي موقعي على الشابكة.
وقبل ذلك بسنوات، عندما كان الإخوة في 23 مارس يُعدون لإنشاء منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، جاء قيادي من الحركة إلى فاس لمحاورة بعض قدماء الجبهة الماركسية، كنت من بينهم، قضينا نصفَ يوم صعوداً وهبوطاً في الشارع الرئيسي، وكانت خلاصة جوابي هي: كان الخروج من الاتحاد من أجل القيام بعمل ثوري، إذا استنفذ هذا الخيار إمكانياته فلا أحسن من العودة إلى الدار الكبيرة. فهي مؤثثة ومفروشة، وسيد العشيرة في صدراتها.
افترقنا على الذي لا يُفسد للود قضية. ودارت الأيامُ وعاد المناضل المذكور إلى الاتحاد مع العائدين، ولكنه كان من المتأخرين كما بلغني. (انتهى الاسترجاع).
مغزى الاحتشاد
بعد هذا الاستطراد التاريخي، نقول: لفهم مغزى الاحتشاد الأصولي المتعدد الألوان حول جنازة المرحوم الزايدي من خصوم الاتحاد قبل الاتحاديين الذي هُمشوا في الجنازة ومنعوا من التأبين، ينبغي تأملُ ردِّ فعلِ السيد بنكيران (ومن كلفوا بتسميع صوته) حين اتجهَ مناضلو الحزب لخلق أسطورة حولَ المرحوم عبد الله باها ظانين أن ذلك سيخدم الحزب. لقد رفض صناعة أسطورة تشوش على عمل الحزب، وتسمح مستقبلا بظهور حركة "رفاق الشهيد"، أو مقارنة ما سينسبونه له من حكمة بما لا يملكه الزعماء الواقعيون في الميدان: حيث ستطغى صورة "الحكيم" الميت على صورة الزعيم الحي.
لقد سعوا إلى تكبير صورة المرحوم أحمد الزايدي لتغطي صورة الحزب، وهم يعدون العدة لسحب الرمال التي أقاموا تلك الصورة التمثالِ فوقها. سيفعلون ذلك عندما تستوفي مهمتها. بل لم ينتظروا طويلا حتى بدأوا ينشرون وثائق ماليه تشكك في ذمة المرحوم بدون أي تحرًّ أو تثبت.
قد يقال: الاتحاد أعطى كل شيء، لماذا سيظل مقلقا، أو رقما صعبا؟
الجواب على هذا السؤال مفتوح. ولو صدَّقوا أن مهمتَه انتهت ما أصروا على العكوف عند قبره، لقد شيدوا ضريحا في قلوبهم ضدا على ما تقودهم إليه عقولهم.
قناعتي هي أن الناس لا تخاف الأموات. مازال الاتحاد العمود الفقري لليسار، والحليف المنتظر للفكر الليبرالي الناشئ. وما زال الاتحاد هو، الدعامة المأمونة للحركة الحقوقية والنقابية. وما يُعبَّر عنه أحيانا من مواقف شخصية معادية للاتحاد ممن هم على يساره مُجردُ مراهقة متأخرة. فمشكلة اليسار ليست في الطهرانية، بل في الوصول إلى الجماهير من نفس النافذة والحصول على مقاعد، وتشريفها عند الممارسة، والتجربة في هذا المجال غير مشجعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.