من المفارقات الغريبةان بعض رجال ونساءالتعليم العمومي,الذين يشاركون في بناء التعليم الخصوصي ، يفقدون الثقة بأنفسهم ويسجلون أطفالهم بالتعليم الخصوصي . فمن جهة هم شركاء في أزمة التعليم العمومي ، ومن جهة شركاء في إنقاذ التعليم الخصوصي ، الذي تظهر داخله المفارقة صارخة ، فمعظم المدارس الخصوصية تعتمد على شغيلة تعليمية من العمومي ، ليطرح السؤال :لماذا هذا المدرس يحقق «الجودة» هنا ولا يحققها هناك؟ بل كيف له أن يحققها وهو يعمل لساعات طويلة ؟ المغرب من الدول التي يتعرض فيها التعليم لأنواع من الأزمات ،لدرجة انه أصبح حقا مهدورا ،الكل يعترف به على صعيد التنظير ، لكن على مستوى التطبيق تتجسد المأساة...ورغم وجود أنواع من التعليم بالمغرب : العمومي ، الخاص ، تعليم البعثات...فإن حق التعليم مازال بعيد المنال بالنسبة لشرائح واسعة من أبناء الشعب المغربي... فما هي الأطر المرجعية القانونية المنظمة للحق في التعليم ؟ وما هو التعليم المجسد فعليا للحق في التعليم : هل هو العمومي أم الخصوصي؟ وكيف ندافع عن دوام هذا الحق للأجيال المتجددة؟ الحق المهدور صورة التعليم العمومي يتصف تعليمنا العمومي بالاكتظاظ ، والخصاص في الموارد ، وهزالة البرامج ، والبطء في العمل والتطور و مقاومة التغيير والتجديد ،مع كثرة الإضرابات وضعف النتائج ،وتشوش صورة التلميذ(ة) المتخرج منه ...تعليم يتابعه أكثر من 6 ملايين متمدرس(ة)، منتشر بمجال ترابي شاسع (المدن والقرى والبوادي والمد اشر والجبال..)، ويفتقر الى الحد الأدنى من التجهيزات في معظم الأحيان. تعليم عمومي يغيب فيه دور الأسرة ويقدم فيه الآباء والأولياء والأمهات استقالتهم عن طيب خاطر...الإداري فيه فاقد لحرية الاختيار إذ يشتغل مع طاقم لا يختاره، ويسير المؤسسة بعقلية الخسارة(عقلية الإدارة العمومية المكرسة عندنا). هذه صورة يرسمها الغاضبون على التعليم العمومي ، ويحكمون عليه من خلالها بالكساد. ويرى البعض الآخر ان التعليم العمومي يصل إلى جميع الشرائح والطبقات الاجتماعية ، وهو الذي خرج آلاف الأطر المغربية الجيدة التي تسير دواليب الإدارة والمؤسسات بالمغرب حاليا..و جسد دمقرطة حقيقية وإنصافا ملموسا للحق في التعليم..يلح هؤلاء على ان المدرسة العمومية هي «الوجه الحقيقي المحدد لمعنى الحق في التعليم «،لأنها تضمن العدالة في إيصال هذا الحق للجميع وبدون تمييز، بشكل متدرج ومنذ الاستقلال حتى الآن. ورغم ما قدمه التعليم العمومي من تضحيات ، خصوصا من طرف هيئته التربوية ،فإنه ظل مستهدفا من طرف خصوم لا يرون فيه (الإنتاجية المادية)،ويريدون تحويله إلى سلعة لها ثمن مادي ملموس ، بعد ان ظل «سلعة مهدورة الثمن أو بخسة». من خلال هذا التوصيف العام لصورة تعليمنا العمومي نتساءل :هل تعليمنا العمومي يحدد معنى الحق في التعليم؟ من حيث الشكل, فإن المغرب يوفر ترسانة من القوانين والتدابير التي إن اطلع عليها أي متتبع ظن بأن تعليمنا مضمون كحق و متجذر في واقعنا. ولكن من حيث الواقع فإن «إنفاذ الحق في التعليم «وإنزاله إلى الميدان تعترضه عدة عراقيل موضوعية وذاتية ، وأهمها : العجز عن تحقيق الشعارات والأفكار المذكورة في المرجعيات الدولية والوطنية ، مثل : التعميم ،الجودة ،الإلزامية ، القضاء على الهدر ، توفير الشروط الضرورية للنهوض بالتعليم ماديا وبشريا.. لهذا نقول : إن التعليم العمومي بسبب الحملة الخطيرة التي تحاك ضده ، وبسبب مشاكله البنيوية في تعالق مع الأزمة المركبة للمجتمع ،يظل عاجزا عن تمثيل الوجه المحدد لمعنى الحق في التعليم.... صورة التعليم الخصوصي في مقابل صورة التعليم العمومي السابقة ، يروج البعض لصورة خاصة بالتعليم الخصوصي ، إذ يربطونه بالنتائج الجيدة ، وحسن اثقان اللغات والتيكنولوجيا ، وانعدام الإضرابات ، وجودة التجهيزات ،مع غياب الاكتظاظ(24في مقابل 53 بالعمومي)،ومساهمة الآباء كشركاء في العملية التربوية ، مع تمتع الإدارة بحرية اختيار طاقمها الإداري المنسجم ،و حكامة التسيير المالي والمادي(عقلية الربح/عقلية الشركة). ولكن ننسى ان التعليم الخصوصي لا يتابعه سوى نصف مليون تلميذ(ة) ، ويتمركز بالمدن ، ولا تستفيد منه سوى نخبة محددة (الميسورون)، و»الحق في التعليم» في هذا السياق يصبح : بضاعة او خدمة مدفوعة الثمن ،ومن هنا يبتعد التعليم الخصوصي عن أن يكون شريكا للتعليم العمومي في تثبيت معنى الحق في التعليم، وذلك لأمرين: ا/ لأنه يعتبر نفسه عبارة عن مقاولة تستفيد من تسهيلات ضريبية وتسهيلات في القروض ، وتستثمر في مجال حيوي (لكنه غير منتج بالمعنى الحقيقي للإنتاجية حسب زعمها ، ومحفوف بالمخاطر)،لتحوله الى بضاعة من حق من يدفع ثمنها .( وهي بضاعة لازالت تتأرجح بين الرداءة والجودة). ب/ لأنه لا يمكن آن يكون شريكا في أمر غير موجود أصلا (او وجوده ناقص ومبتور).فالتعليم العمومي عاجز عن ان يكون ممثلا للوجه المحدد لمعنى الحق في التعليم. هل من بديل ممكن؟ في ظل إنكار أن التعليم العمومي - في صورته القائمة-هو الوجه المحدد لمعنى الحق في التعليم ، وانكار شراكة التعليم الخصوصي له في ذلك ، نكون قد رسمنا مشهدا مأساويا وعدميا لواقع تعليمنا ، وهذا ليس هدفا في حد ذاته ، بل المطلوب هو البحث عن بدائل ممكنة ، ومقارنة تجربة المغرب بتجارب أمم أخرى أصبح فيها التعليم قاطرة للتنمية ،سواء كانت متقدمة أو في طريق النمو...وكل ذلك من اجل محو الصور السلبية لتعليمنا ، وتغيير ترتيبنا المتأخر في المحافل الدولية. إن التفكير في تعليمنا من اجل جعله حقا فعالا وفعليا وكاملا بدا منذ عقود( بداية بلقاء المعمورة 1958، مرورا بمناظرات :1964و1980و1994، ووصولا إلى الميثاق 1999..)، ولكن بدون فعالية تذكر ،وبدون تحقيق نتائج ايجابية ...ولهذا لابد من الانتباه إلى بعض الأمور لتحقيق تعليم عمومي يجذر الحق في التعليم ويجعله قاطرة للمعرف المنتجة ، ومنها : 1 -القطع مع مظاهر التقليد في مضامينه وبرامجه ومناهجه وطرق تسييره وتنفيذه، وذلك يحتاج لقرار سياسي جريء ومبني على رؤية استراتيجية رصينة. 2 -القطع مع ثقافة الكم والشحن والتلقين البائس ... 3 -ضمان تكوين حقيقي وعلمي للإداريين والأساتذة والعاملين بالمجال التربوي. 4 -تحصين التعليم ضد المزايدات السياسوية الديماغوجية ،وتغليب منطق المعرفة العلمية ومصلحة المتعلم(ة) . 5-العناية الفعلية والجدية بهيئة التدريس والتأطير باعتبارها شريكة في تحقيق الحق في التعليم. 6-اعتماد الحكامة الحقيقية في تدبير الشأن التعليمي ماليا وماديا (تخصص له ميزانية ضخمة :51مليار درهم ، سنة 2012، 70في المائة منها للأجور). 7-تشجيع البحث الميداني العلمي في المجال واستثماره لحل المشاكل المرصودة. 8-رد الاعتبار للمدرسة العمومية ماديا ومعنويا . 9-تأسيس حق الخواص في التعليم على ضوابط محددة تضمن المشاركة الحقيقية في التشغيل وتطوير التعليم ، بعيدا عن منطق الربح السريع. 10- تفعيل توصيات وقرارات المنظمات الدولية المهتمة بالموضوع ،مثل اليونسكو ، والاستفادة من خبراتها المتوفرة ، خاصة انها تشتغل على الحق في التعليم منذ سنوات ، وخصوصا على : مراقبة إنفاذ الحق في التعليم ،وترسيخه في النظم القانونية الوطنية ، ومراقبة تنفيذه والترافع من اجله أمام المحاكم الوطنية. كل هذا يظل بدون جدوى إذا لم ينظر للشأن التربوي بالمغرب في علاقته العضوية بأزمة المجتمع المركبة ...مما يجعل التعاطي مع القضية أمرا شائكا وخطيرا خصوصا وأننا نضيع الفرص المتتالية لتنفيذ إصلاح حقيقي على مستوى المجتمع بكل ابعاده وضمنها التعليم...والذي يحتاج إلى أكثر من إصلاح ...يحتاج إلى ثورة تخلخل جموده المتراكم عبر السنون...والثورة تحتاج إلى ثوار وأدوات ثورية وهو الأمر المعلق إلى حين... اننا في حاجة ماسة لدراسات ميدانية موضوعية تحدد الأعطاب المزمنة لتعليمنا بنوعيه..ولجرأة اتخاذ القرارات السياسة المناسبة لإنقاذه...آما الحق فإنه حق مهدور.. *أستاذ بثانوية القدس التاهيلية/ الشماعية/نيابة اليوسفية.