بينما يتجول الرأي العام تحت ظلال الزيزفون منشغلاً بقصص خاصة ؛ تعيش دوائر صناعة السياسة في المغرب على إيقاع أزمة جديدة؛ بعد أن اجتمعت أسباب وأعراض ذبحة سياسية حقيقية تتمثل في تصلب شرايين الأداء السياسي وتوسع جمهور الرافضة السياسية ؛ خصوصاً بعد استنزاف كل أشكال السيناريوهات الممكنة وفراغ جعبة السلطوية من مشاريع جديدة وماركات حزبية قادرة على مماهاة مخرجات مبتكرة على الفتح اليوناني والمفاجأة الإسبانية؛ ولا شك أن فكرة تعبئة قطبين متنافسين ممثلين في قطب الأغلبية وقطب المعارضة عجل بكيفية غير منتظرة عملية انسداد شرايين النبض السياسي بترسبات المرجعيات والتاريخ والممارسات ؛ وبتشويش تناقضات وضع المعارضة على دينامية المؤسسات والممارسة السياسية بشكل عام؛ إلى جانب غياب باقي مكونات الأغلبية عن النقاش والحضور، إضافة إلى انفصامية عقل السلطوية بين الحث العلني على الرقي بوضع السياسة واحتكار وسائل وسبل بث الروح فيها؛ ولعل نازلة تقديم مذكرة من قبل أحزاب المعارضة البرلمانية للملك، حالة متكاملة تعكس بأمانة واقع الذبحة السياسية التي يمر منها المغرب ؛ منذ فرز الأغلبية والمعارضة على القاعدة التقليدية التي تقوم على سؤال مع من سنشارك؛ وليس على القاعدة الجديدة التي ينص - عليها ضمنيا الدستور والمتمثلة في الجواب على سؤال مع من سنعارض بالشكل الذي يوضحه الفصل 10 والفصل 60 من الدستور؛ إذ لا يمكن أن يجادل أحد في المسؤولية المشتركة للأحزاب المشاركة في البرلمان أو لصناع القرار فيها بالأساس في مركزة العمل السياسي حول دوائر السلطوية ؛ وإضعاف البرلمان وتعويم أسئلة الإصلاح. فمن غير رئيس الحكومة الذي جعل نيل ثقة الملك أولوية الأولويات ؛ وبعدها رمى في وجه الإصلاح مسؤولية التفعيل الديمقراطي للوثيقة الدستورية لأنها فخ يستهدف علاقته بالملك ؛ ومن سواه الذي غير مهمته من مسؤولية رئيس السلطة التنفيذية ليشغل منصب مساعد الملك، ويكرس رسمياً ما دأب سابقوه على السكوت عنه وهو المضمون التنفيذي الثابت للملكية في المغرب ؛ بعد ذلك سيكون طبيعيا أن يمر رئيس الحكومة إلى السرعة الانتخابية ويشرك المغاربة بمناسبة اللقاءات التواصلية، في مكالماته وحديثه وقراراته من موقع مساعد الملك؛ ولا شك أنه بناءً عليه سيفصح عن الإكراهات والضغوطات التي رأى أنها مورست عليه كمساعد للملك وكان طبيعيا - حسب رواية رئيس الحكومة - أن يدافع الملك عن مساعده ؛ وهنا تتجلى - دون كشف - أول أعراض الذبحة السياسية والمتمثلة في استسلام حكومة ما بعد الربيع الديمقراطي لتراث ما قبل الدستور الجديد، وتقليدانية فهمها لعلاقاتها مع الملك وانخراطها طواعية في قواعد اللعبة القائمة، وسعيها إلى التطبيع مع التقاليد المتحكمة وليس تفعيل الدستور .فماذا قالت مذكرة المعارضة التي بنت أسباب نزولها على رفض توظيف رئيس الحكومة لاسم الملك ووظيفته في العمل السياسي. أولاً : لم يسعف الزمن المبرمج لإصدار هذه المذكرة أسباب نزولها فتم حشرها في زمن انتخابي ضيق الصدر؛ رغم أن المعارضة الاتحادية شخصت منذ الشهور الأولى للأداء الحكومي العطب في كون الحكومة أضعف من الدستور ؛ وأن رئيسها يتنازل عن صلاحياته لصالح الملكية التنفيذية ؛ ويحور مضمون إصلاح الدولة وتسعى إجراءاته إلى تغيير وظائفها الاجتماعية ؛ واستدامة وضع الدونية للمؤسسة التشريعية وتأبيد ضعفها الموروث طبعاً بتزامن مع تأثير كل هذا على إرادة التفعيل الديمقراطي للدستور ؛ وهذه كلها أسباب كافية لتؤطر نسق ومطالب مذكرة منسجمة في المضمون وفي الزمن وحول التغيير . ثانياً: لقد برمجت مذكرات الكتلة تاريخيا عقل ووعي المتتبع السياسي على مخاطبة الملك عبر منهجية المطالبة بالإصلاح، لذلك بدت المذكرة الأخيرة مبتورة عندما شخصت الإشكالية في توظيف رئيس الحكومة لعلاقته مع الملك دون أن تقدم تصورها لتصحيح هذه الوضعية ؛ وحملت رئيس الحكومة المسؤولية وحده ؛ غاضة طرف ثقافة الكتلة وتراث حزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال عن إشكالية التوازن بين المؤسسات و»ثنائية « المجلس الوزاري والمجلس الحكومي ؛ ومسؤولية الملك في الحسم الديمقراطي لسؤال ربط المسؤولية بالمحاسبة، استناداً لحصرية السلطة التنفيذية على الحكومة والحكومة وحدها . ثالثاً : لم يسعف الارتباك الذي شاب ظروف الإعلان عن المذكرة في طرحها أمام الرأي العام، بالطريقة التي تليق بمذكرة أحزاب سياسية تمثل المعارضة البرلمانية ؛ إذ أعلن عنها بطريقة تسريب خبر غير بريئة قللت من شأنها وحصرت وقعها إعلاميا وسياسياً ؛ ولولا إعادة صياغة الإعلان عنها في ندوات ولقاءات صحفية لقضى الحدث بخيره وشره وسط الأحداث، ولسكت الزمن السياسي عن تأريخ لحظة صريحة تحمل علامات غير مكذوبة للذبحة السياسية . رابعاً: لا يمكن أن يدعي أحد استغراب سلوك بعض أطياف الأغلبية في التجاوب مع مذكرة المعارضة ؛ فتفاعلها لم يخرج عن نسق العداء غير المشروط للرأي المخالف الممثل بالمعارضة كشريك دستوري في المؤسسات والمجتمع؛ إذ سلكت لغة الحلبة والمصارعة في إطلاق تعليقات وتعبيرات لا تنسجم وطبيعة العلاقة المفترضة والمسؤولية المنوطة بالحكومة والأغلبية؛ ولا بحجم اللحظة ودلالاتها وتعبيرها عن حقيقة تمزق التجربة السياسية في المغرب وضعف وعي الطبقة السياسية بمسؤوليتها في استعادة النجاعة والمصداقية للفعل السياسي . ...وأخيراً أعتقد أن نزال القوة والضعف وثنائية الأخيار والأشرار، ومدونة السب والشتم والقذف المتبادل، لن تزكي إلا دينامية الذبحة السياسية وتوسع رقعتها ؛ ولن تقنع الرأي العام بحضور السياسة أو الأحزاب كما أنها لن تستمر في إلهاء الوعي الشعبي عن مكامن أزمته، وغياب الأجوبة على واقع التخلف والفقر والفساد الذي يرزح تحته جزء مهم من المغاربة ؛ فكيف ستسعف يا ترى دوائر صناعة السياسة قلب الفعل والمشهد السياسيين ..ذات عقد استشهد زعيم وطني فوق عتبة تناوب توافقي بدون ضمانات ..اليوم من تراه يملأ فراغ الساحة من السياسة ..؟