تعتبر التربية على الاختيار من المداخل البيداغوجية التي تتضمنها الخطابات والنصوص المؤطرة للتربية والتكوين بالمغرب، إلا أن هذا المدخل الاستثنائي من نوعه لم يحظ بكثير من الاهتمام ويؤشر على ذلك غموض وضعيته في نصوص القطاع والتي أدرجته بجانب مدخل القيم والكفايات وليس كقيمة في حد ذاته. هذا الغموض دفعنا إلى إعادة تسليط الضوء على هذا المكون وإبراز الاستحقاقات المترتبة عن اختيار هذا المدخل البيداغوجي بالنسبة لرهانات التربية والتكوين والفرد والمجتمع عموما. لذا لن ندخل في متاهات الجدل الكلاسيكي الفلسفي والديني حول مدى كون الفرد مسيرا أو مخيرا وما إلى ذلك، ما يهمنا بالدرجة الأولى هو طرح التربية على الاختيار كقيمة متأصلة في الإنسان باعتباره كائنا حرا وعاقلا قادرا على التوقيع على اختياراته والدفاع عنها. أهمية التربية على قيمة الاختيار تكتسي التربية على الاختيار أهمية قصوى لدرجة ظهور تخصصات وخدمات جديدة سواء في علم النفس أو في التخصصات المرتبطة بالتوجيه بصفة عامة، إذ تمتلئ مكاتب علماء النفس في الغرب مثلا بالأزواج الذين يعيدون النظر في اختياراتهم المرتبطة بشؤونهم في تربية أبنائهم وتوجيههم في مختلف مراحل الدراسة وصولا إلى سوق الشغل، بالإضافة إلى الاختيارات المرتبطة بترتيب شؤون البيت، وتنظيم الأسرة، بل يمتد ذلك حتى إلى طريقة اللباس والأكل والشرب والنوم والمحادثة... محاولة لتأصيل القيمة: لقد امتثل الإنسان لسنوات وقرون لأنماط من العيش والمواقف والسلوكيات المحددة سلفا: السلم الاجتماعي، نموذج التربية، نمط العيش وما إلى ذلك، لكن قامت ثورات وانتفض الإنسان ضد هذا الوضع ليعلن تشبته بالحرية كمعطى طبيعي وبالمساواة وبالاختيار في شتى المجالات وهو يعلم جيدا أن هذه القيمة/ الفعل لا يمكن التوقيع عليها بصيغة المطلق، ومع مرور الزمن يؤكد الإنسان فرادته بالقدرة على الاختيار واتخاذ القرار لذا ظل الاختيار الحر هدفه الأسمى، بل إن الحياة بالنسبة للإنسان ليست سوى مسلسل من الاختيارات: التعليم ومكان الاستقرار، وتربية الأبناء...سنرى هنا أن الاختيار قيمة/ فعل ينتفض ضد الإكراه والإجبار لكونها متأصلة في الإنسان إلا أن ممارستها خاضعة للشروط التربوية والتنشئة الاجتماعية. ارتباطات القيمة واستحقاقاتها ترتبط قيمة التربية على الاختيار بقيم أخرى يحدد توفرها من عدمه الفرص الممكنة لتحقيق ممارسة فاعلة للاختيار، نذكر من بين هذه القيم: الحرية والديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان. في ارتباط الاختيار بالحرية سنرى أن التوقيع على الاختيارات مشروط بالتخلص من القيود المكبلة للفرد والمجتمع. فبينما يعتبر كانط مثلا أن الحرية هي جوهر الإنسان وأن لا حرية بدون قيود يؤكد روسو أن طبيعة الإنسان تقتضي الحرية لكونه يميل إلى معارضة القيود التي تعترض سبيله، لهذا ستصبح الحرية في حد ذاتها واجبا ينبغي الدفاع عنه كي يتمكن الإنسان من اختيار ما يريد.(Michel Marzano, Grasset, 2008) فبديهي أن يقضي الإنسان حياته في ممارسة الاختيارات واتخاذ القرارات في أبسط الأشياء إلى أعظمها شأنا. إلا أن جون بول سارتر على سبيل المثال يمعن في وجوديته بقوله: “عندما نقرر جميعا مواصلة العيش -الخيار الأول لجميع الناس- لم يعد لدينا في الواقع أي بديل سوى هذا الاختيار، لكن عدم اختيار أي شيء على الإطلاق ينبغي أن يكون أيضا اختيارا» J.P. Sartre Gallimard, 1996)). لقد أوردنا هذا المثال كي نبين أن الإنسان قد يذهب بعيدا في اختياراته لأن طبيعته تقتضي ذلك، لذا اتجهت الأدبيات الحديثة إلى تعزيز قيمة التعايش والعيش المشترك وصيانة الحق في الاختلاف والتنوع وترسيخ المشاريع المجتمعية الضامنة للتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان. التربويات التقليدية والاختيار سعت التربويات التقليدية من خلال أدبياتها إلى التنميط واعتمدت على الرؤية الأحادية لكل شيء بما في ذلك الإنسان. يرى الطبيب والمحلل النفسي سيرج هيفيز Serge Hefez, 2009)) أن النمط التقليدي للتربية حدد للأفراد أدوارا محددة سلفا دون أن تكون للفرد فرصة للنهوض وتحقيق الذات من خلال الاختيار الحر واتخاذ القرار. وترى بعض الدراسات المعاصرة التي انتقدت الأسس التي أقيم عليها هذا النمط التربوي أن الطفل محافظ بطبيعته (conservateur) ويمكن هنا أن نشير إلى اجتهادات دانييل مارسلي وهو متخصص في علم نفس الطفل Daniel Marcelli (Albin Michel 2009). فمثلا، إذا عودنا الطفل على نفس اللعبة كل يوم ، فانه بمجرد أن يخير بين تلك اللعبة وأخرى، فانه غالبا ما سيختار الأولى لأنه سبق وأن تعرف عليها وهذا يحصل حتى مع الكبار ليمتد ذلك إلى سلوكاتهم العامة ومواقفهم. لكن هذا يحدث فقط في إطار الأنظمة التربوية التقليدية التي تعمل على تأبيد نفس السلوكات والمواقف عن طريق التكرار حتى تصبح قانونا ثابتا لا يسمح للفرد بالذهاب إلى كل الاحتمالات والاختيارات الممكنة التي تساعده على اتخاذ القرار المناسب. أما في عصرنا كما يقول سيرج هيفيز، فلقد أصبح ممكنا للفرد أن يختار بدل أن يرث كل شيء عن الآباء والأجداد... تداعيات المفهوم على المستويين التربوي والديداكتيكي تتطلب التربية على الاختيار أن تتاح لنا كل الاحتمالات الواردة والمواتية والممكنة في حياتنا التربوية. إلا أنها من حيث الفعل تتطلب درجة معينة من الاستقلال الذاتي والخبرة لدى المتعلم، ومع ذلك، فالطفل قادر على تعلم بعض الخيارات المستمدة من الحياة اليومية في وقت مبكر. بعض الدراسات في هذا المجال تبين أن الطفل يستطيع منذ السنة الثانية من عمره أن يتذوق جيدا طعم الطعام، بل ويمكن له اتخاذ القرار في ما يحب أن يأكل أو يشرب. أما في سن الخامسة أو السادسة، فهو يبدأ بتمييز الألوان، ويمكن له اختيار ملابس ولعب أو أشياء أخرى. كذلك في سن الثامنة أو العاشرة يمتلك الطفل إمكانية اختيار الأنشطة الاجتماعية وتفضيل ما يناسب رغباته منها.. هناك جانب آخر لايخلو من أهمية، سنراه مع غاستون باشلار الذي يعتبر أن كل فرد يتمثل العالم وفقا لرؤيته الخاصة ومن تم فالتوقيع على الاختيارات في مجال المعرفة كما أشرنا يستلزم درجة معينة من الحرية والاستقلال الذاتي، لكن باشلار في نفس الآن يرى ضرورة وجود عائق ابستيمولوجي لكي تتحقق المعرفة. فإذا كان التعلم هو بالضرورة نتيجة لقلق معرفي يستشعره الفرد أثناء مجابهته لوضعية من الوضعيات، فان كل حدث معرفي ينجزه الفرد يأتي على أنقاض معرفة سابقة إما قابلة للاستمرار في حاضر التعلم أو معرضة للتجاوز بما يعني القطيعة الابستيمولوجية وان كنا نرى أن لا قطيعة نهائية في حقل المعرفة لأن الأمر يتعلق بتحولات فقط إذا ما أردنا أن نستعير مصطلح التحول من حقل الكيمياء .(Rien ne se perd, rien ne se crée, tout se transforme, Lavoisier) إجمالا، يستدعي تعلم ممارسة الاختيار مقاربات بنائية وسوسيوبنائية لكونها أبعد مدى من جدران المدرسة، إذ يرى فيكوتسكي أن التعلم يتم عن طريق الاحتكاك مع الراشدين فهو معطى ثقافي يمر عبر صراع سوسيومعرفي وذلك دون أن يحل الكبار محل الطفل في أنشطته المعرفية المختلفة ليتمكن من بناء منطقة نموه المعرفي (Zone proximale de développement). أما على المستوى الديداكتيكي فيتطلب تأهيل المتعلم لممارسة الاختيار الاستعانة بتجربة الطفل واستنفارها في وضعيات دالة وهذا ما تذهب إليه بيداغوجيا الإدماج في مجمل تصوراتها، إلا أن التعامل مع الوضعيات يستدعي وضع المتعلم أمام كل الاختيارات المعرفية الممكنة والتي يمكن تجنيدها لحل الوضعية الماثلة أمامه دون أن تفقد الاختيارات المجندة هويتها واستقلاليتها أثناء التعامل مع قضية من القضايا. إن هذا النموذج الديداكتيكي سيمكن المتعلم من مواءمة معارفه مع الوضعيات واكتساب وجهات نظر وتصورات متعددة لنفس الوضعية. إن الذي يهم هنا ليس هو وجهة النظر في حد ذاتها بل امتلاك الآليات التي ستمكن المتعلم من ضبط درجة الدلالة في الوضعية بالنسبة إليه وفرز التصور المناسب والطريقة الملائمة لحلها، كما سيساهم هذا النموذج في التربية على قيمة الاختيار من تمكين المتعلم من اتخاذ القرار المناسب في المكان والزمان المناسبين. وفقا لهذا النموذج سيستطيع المتعلم نقل(transfert) كفاية الاختيار إلى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وما إلى ذلك. خاتمة إن أهم حسنات التربية على الاختيار تتجلى في بروز الذات المتعلمة ودورها في اتخاذ القرار إزاء وضعيات محددة تقتضي تنظيم وتنسيق المعارف لكي تكون ذات معنى، لهذا لن نكون في حاجة إلى التأكيد بان المعرفة مجال مفتوح على العديد من التحولات القادمة من مصادر مختلفة. فهل ستتمكن المدرسة المغربية من كسب رهان التربية على الاختيار وتأهيل المتعلم لاتخاذ القرارات المناسبة في وعي تام بالتحولات الجارية ؟