تُطلق «جلالة» و«جلال» على الرّجل المسنّ الذي حنّكته التجارب وعركته الأيام فإنّ الحكمة والتبصّر عنصران أساسيان مكوّنان لهذه الوضعية. وهما خصائص مركزية لشخص الملك. وتفسر الإحالة على السنّ أن الملك هو أب الأمّة، وهي الصفة التي يستمدها، في الحقيقة، من زمن بعيد. الحكمةُ تحيل على تدبير وتسيير شؤون البلاد، وهي ترتبط بالسنّ الذي يفرض نفسه، بحكم التجربة المتراكمة، بصفته العنصر المحدد للوصول إلى الرئاسة. في الواقع، إنّ الأب هو الذي تولّد عنه السيّد، كما تولّد عنه فيما بعد، وبعد تطوّر طويل، مفهوم الملك. إنّ ظهور السلطة داخل العائلة البطريركية هو الذي أفرز في الأصل هذه الوضعية. فالأب، الذي كانت سلطته مقتصرة في البدء على القرابة العائلية الصغيرة والمحدودة، بسط هذه السلطة، داخل العائلات القوية التي تهيمن على العائلات الأخرى، على دوائر أخرى خارجية. وهكذا، فعامل السنّ المحدِّد عند الأب، هو أساس السلطة، وذلك من خلال إعطائه أسبقية على سلالاته. وبالتالي فإن شرعية السلطة العائلية الطبيعية التي لا نقاش فيها قد انتقلت بصورة تدريجية إلى مجموعات أوسع، بموازاة مع التوسّع التدريجي والمتنامي لفضاءات ومجالات التحكم. وهكذا استمرت منقوشة في ذاكرة الرئاسة التي تطالب بهذا الحق الطبيعي الذي كان يؤول في البدء إلى الأب داخل البنيات الضيقة. إنّ خيالَ القرابة يبقى مطالبا به بصفة صريحة ما دامت البنيات الجماعية تسمح بذلك لكي لا تستمر فيها بعد إلا على المستوى الرمزي. غير أنّ الحكمة والحنكة المتولدين عنها، سوف يلتقيان في مفهوم«الجلالة»، ومع ذلك، لا يمكن فهم هذا المفهوم بالشكل اللائق إلا من خلال التذكير بوضعية التحكم والهيمنة التي كانت للأب داخل العائلة. فداخل هذه الأخيرة، لا تفترض السلطة أي احتجاج، بسبب علاقة التبعية الحقيقية التي يوجد عليها الأبناء إزاء الأب، المُطعم والحامي. بتعبير آخر، فإن مفهوم«الجلالة» يتصل اتصالا وثيقا بظهور السلطة، على الرغم من كونه يبدو فيما بعد كأنه لا يرتبط بهذا التشكل، ويزعم في الوقت ذاته أنه يستمد مشروعيته فقط من الصفات والمزايا التي ينطوي عليها. ومن ثم، فمن خلال انفصاله عن القرابة وعن العائلة، أسّس هذا المفهوم انسجامه الخاص به، محلقا بأجنحته الخاصة، فالرئيس يُنعت بهذا الوصف، وصف الجلالة، لأنه مختلف وخارج عن المألوف. وسوف يتسع اللفظ ليشمل مجموع أهل وأقارب الرئيس، الذين سيتصفون بالوصف نفسه. من هنا يجري الحديث عن «قوْم جِلّة» أو جماعة الأسياد. هكذا انفصل اللفظ عن أصله الأوّلي لكي يشير إلى شرف متاخم ولصيق بهذه الجماعة. هذا الانصهار داخل المصطلح نفسه لبعض من الصفات الأكثر أهمية في مجال النبالة والشّرف المؤسسة للسيادة، نلفيه قبل ذلك في معجم الحيوان. وفي هذا السياق يشار إلى سنّ النّاقة بفعل «جَلّ». و«الجُلالة» بالضم، هي الناقة البدينة («الجُلالش هو كلّ شيء ضخم)، و«الجِلّة» هي النّاقةُ المسنة، ومفردها «جليل». وللتذكير فإن لفظة «جليل» كانت تعني في الأصل عضوا ضخما من بين أعضاء الجسم. فهل يعود الأمر إلى أعضاء العائلة، أو إلى أعضاء الجماعة الذين تبدو عليهم آثار النعمة والتغذية الجيدة، ويخدمهم الأعضاء الآخرون، وبالتالي ضخمت أجسامهم وصاروا بدينين؟ ثم إنهم يميلون إلى العيش لفترات أطول من غيرهم، ويصبحون، جرّاء ذلك، ذاكرة للجماعة، ورمزا لوحدتها وديمومتها. وضعيّة مثل هذه تقوّي مكانتهم بصفتهم محظوظين، وذلك من خلال تحوّلهم إلى طبقة للأشراف تنتج الأسياد. وهناك معنى آخر يعضّد من هذا الافتراض، وهو يشير إلى كلّ ما هو ثمين ونفيس داخل البيت، كالزرابي وسائر الأثواب والأقمشة الثمينة التي يطلق عليها اسم «الجِلّ». ومن ناحية أخرى، فإنّ لفظة«الجُلة» تعني القُفّة الواسعة المملوءة بالتمر، مما يحيل صراحة على الوفرة والنعمة. يبدو أن القدم والغنى والحكمة في تدبير أدنى الأعمال وأجلّها (الجلال) كلها عناصر محددة في تشكيل الجلالة، في تشكيل هذه الصفة الخاصة بالملوك. لكن، ليست النعمة والوفرة هما اللذان تشيران إليهما هذه الألفاظ. بل إنها قد تشير كذلك إلى التافه من كلّ شيء، أو حتى إلى البقايا التي لا قيمة لها. إن تجميع المتقابلات هو بالضبط ما يعزّز «الجلال» باعتباره نعتا إلهيّا، بما أن الله هو أصل الخلق، مهما كانت طبيعة هذا الخلق. فالاعتبارُ يتّجه نحو الخالق، نحو السيّد وليس نحو الموضوع. وهكذا، فكلمة «الجليل» يوصف بها الرجل المحترم، المقدَّر، الذي يُنصت إليه، وهو الذي أعطى «الجلالة» الذي تولّد عنها اللقب المَلَكي. فالجلال هو هذا الاعتبار المدفوع إلى حده الأقصى، والذي لا يمكنه افتراض الاقتسام والاشتراك لأنه يتوجّه ليس إلى واحد، وإنما إلى الواحد، الأحد. ومنه جاء أحد أسماء الله الحسنى الأقل إثارة للنقاش، والذي لا نستعمله إلا له: «ذو الجلال». تجد التسمية الإلهيةُ تفسيرها بالعمل الخارق والفريد المتمثل في الخلق، وكذا باستحالة وصف الذات الإلهية، أو أخذ فكرة دقيقة عنها بواسطة الحواس، وبخاصة بواسطة العين. فاللفظ يصف إذن المكانة الأسمى، ويشير إلى طابعه الاستثنائي والخارق. وبناء عليه، فإنّ إلحاقه بالله يجد تبريره بواسطة هذا الرتبة، لأنه لا يُستعمل في أوصاف الشرف، خلافا لأوصاف أخرى جرت العادة أن يوصف بها كبار قوم شبه الجزيرة العربية. هذا على الأقلّ ما تذكره كتب التفسير والأخبار. بل إنه من المحتمل أن يكون هذا اللفظ قد رأى النور مع ظهور الإسلام. كلمة «الجليل»، التي أتت من نفس الجذر اللغوي، تستعمل في الكلام المتداول دون أن تكون مختصة ومقتصرة على الأشراف والأقوياء. وقد امتدت لتشمل عامة الناس المتصفين بحكمتهم وحنكتهم، الأمر الذي أفرغها تماما من حمولتها الأصلية، بفعل هذا الابتذال نفسه. وفي هذا السياق، فإنّ اللفظ المرادف للكتاب، وهو «المجلة»، التي كانت تعني كلّ ما هو مكتوب، ينطوي بالفعل على الحكمة. إنّ رهان السلطة، في نهاية المطاف، يوجد متاخما ومحايثا في كلمتي«الجلال« و«الجلالة» اللتين عمل انفصالهما الشكلي على حلّ مشكل المنافسة بين السلطتين الإلهيّة والمَلَكية. من هنا نفهم جيدا كيف أن كلمة «الجلالة» تعبر تعبيرا قويا وأمينا عن الوضعية المَلَكيّة، وترتبط بها، خلافا لوضعيات أخرى كالفخامة التي تستعمل اليوم للحديث عن رؤساء الدول. إنّ الجانبَ الألوهيّ الملازم للمُلْك هو الذي يُفسر اللجوء إلى مثل هذا النعت: فَ« الجلال» لله، و«الجلالة» للملك. وبهذا المعنى يتحدث عنه القرآن: « ويبقى وجه ربّك ذو الجلال و الإكرام» ( سورة الرحمان، الآية 27). الجلالُ، بهذا المعنى الذي أشرنا إليه، لا ينتُج عن القوة، كما هو الشأن بالنسبة للرفعة، لأن ذلك قد يؤدي إلى إعادة النظر في مكتسبات اللقب، ولأنه سيجعل منه صفات تَمَّ بلوغها بواسطة العنف، وإذن من خلال مواجهة أعداء معيّنين، حتى وإن كانوا يستحقّون ذلك. إنه لقب متصل بالخَلْق، بحكم أنه يعطي الحياة للأشياء و للكائنات، وهذا ما يجعل منه اسما خاصا بالسيد الأوّل، وليس بالسيد الذي ترتبط إنجازاته بما قام به من حروب، وإنما بالذي يعلم ويعرف ويقوم بما لا يعرف الآخرون القيام به. لا ينبغي أنْ ننسى بأنّ الإسلام قد ظهر في مجتمع متعدد الديانات، حيث يتعين على الله أنْ يثبت سلطانه بعيدا عن باقي الآلهة. مثل هذا المحتوى، الذي يبرز مسالة الإبعاد هي التي تفسر اللجوء إلى هذا اللفظ لتمييز الوضع الملكي. وهكذا، فإنّ شرعية السلطة الملكية تنتمي إلى نظام خاص، يفوق الأنظمة الأخرى لكونها شرعية لا تُقارن معها. إنها شرعية لا تنتمي، إذن، إلى التاريخ الذي ليست نتيجة له، بقدر ما تمتح جذورها وأصولها من طبيعتها الذاتية التي تستمدّها من الإلهي وتقتسمها معه. فهي لا تنتمي، والحالة هذه، إلى شيء يمكن التفاوض بشأنه مع عامّة الناس. وهذا ما يفسّر ذلك الطابع الانتهاكي والتدنيسي المتمثذل في اغتيال الملوك. ومن جهة أخرى فإن للجلال كذلك مبرّر آخر، وهو أن الذّات الإلهية لا يمكن إدراكها بالحواس، لأن الحواسّ لا يمكنها تمثّله. وبتعبير آخر، فإنّ حجاب النّور الباهر والساطع هو الذي يجعل الله غير مرئيّ، لأنّ الإنسان لا يمكن التحذيق فيه في حضرته. إنّه السّّرّ، الغيب، الذي هو خاصية يتميّز بها الملوك أيضا، والذين لا يمكن إدراكهم بدون حجاب قاتم يحيط بهالتهم، ويساهم في إضفاء الطابع الألوهي عليهم. وبما أنّ معجم الجمل يقدّم عوْنا كبيرا في المقام الأوّل، دلخل المجتمع الرّعوي العربي، فيما يخصّ العلاقات بين الناس، فَلْنذكّرْ بأنّ كلمة «جُلُّ»تدل على تلك المادّة التي تغطّون بها الدّابة، والحصان على وجه الخصوص بهدف حمايته. حمايته من البرد، أو حمايته بصفة عامّة، من خلال فصل الدّابة عن الخارج وحجبها. وتسري الحماية بالطبع ضدّ كل ما يمس الإنسان، ليس فقط الصعوبات العابرة، بل كذلك من الموت والفناء المترتّب عنه. فهذا الحجاب بالضّبط هو الذي أدّى إلى ظهور الله، وزوّد الملك بالهيبة التي بدونها يصبح الملك مجرّدا من سرّه. ومن جهة أخرى فإنّ الحجاب لا يكون بالضرورة مادّيّا. فهناك عدد من كبار الملوك الذين كانوا في أوجهم، لم يكن لديهم حجاب، ومع ذلك فقد تألّقوا في حكمهم. فهو سرّ الجلالة الذي يرتبط بتمثلات الرئيس أكثر مما يرتبط بشيء آخر. لا يمكن، في نظرنا، فهم تلك الخصوصية، فقط بالإرتكان إلى خلاصة تجربة الممارسة السياسية (كتدوين) عند إخوتنا المشارقة، في بغداد أو دمشق أو القاهرة أو أصفهان وشيراز ببلاد فارس، أو القسطنطينية ببلاد الأناضول. ولا بالإرتكان، إلى وهم القطيعة مع العمق الحضاري العربي الإسلامي للمغارب. إن قوة تلك الخصوصية، تاريخيا، عندنا كمغاربة، هي في أنها توليفة غنية لتمازج ثقافات وتلاقح ريح حضارات، فيها المسيحي الأروبي (الإسباني البرتغالي أساسا)، فيها الإفريقي، فيها الأمازيغي، فيها اليهودي، وفيها العربي، والوعاء المؤطر هو المرجعية الأشمل للإسلام كدين وكحضارة. لهذا، فإن المنتوج الفكري السياسي (ابن خلدون كمثال) الذي أنتجته فاس ومراكش وقرطبة وتلمسان وقرطاج، يتمايز بأسئلته الخاصة في مجال تأمل الممارسة السياسية وتدبير الحكم (والعمران)، يختلف عن الموروث الهائل الذي أنتجه البحث العلمي والفكري بعواصم المشرق العربي والإسلامي. [ هناك دراستان مغربيتان رصينتان حول الآداب السلطانية لكل من الباحث كمال عبد اللطيف والباحث عزالدين العلام، تعتبران مرجعا مركزيا في قراءة نقدية لكتب الآداب السلطانية، ومعنى المصطلح وإسقاطاته السياسية والفكرية. كتاب الدكتور كمال عبد اللطيف بعنوان « في تشريح أصول الإستبداد»، وكتاب الدكتور عزالدين العلام بعنوان«الآداب السلطانية». ]. إن ما عزز تاريخيا، من هذه الخصوصية، هو الإستقلال السياسي لنظم الحكم المغربية، عن عواصم الحكم الكبرى في المشرق، منذ أمويي دمشق، حتى عثمانيي إسطنبول والقسطنطينية، مرورا بعباسيي بغداد وفاطميي القاهرة (رغم أصولهما المغربية والمغاربية). لقد سمح ذلك، بممارسة أسلوب خاص للحكم متصالح مع الحاجة المحلية، التي يؤطرها إرث سلوك راسخ للجماعة البشرية المتحركة، التي تدب فوق أرض المغرب، بقوته الجيو - ستراتيجية، بين قارتين (أروبا وإفريقيا) وبين حضارتين (المسلمين والمسيحيين). بالتالي، فإن المرء يحق له التساؤل إن كان نظام حكم المرابطين والموحدين والسعديين والمرينيين والعلويين بالمغرب، يشبه تنظيميا وتدبيريا نظم الحكم الأموية والعباسية والعثمانية؟!. إنه سؤال معرفي، تأريخي، مشروع. والجواب، هو أن «آداب السلطنة» في فاس ومراكش ومكناس وقرطبة وغرناطة، لا تكرر بالضرورة بشكل متطابق «آداب السلطنة» في عواصم الشرق الكبرى. مثلا، قليلا ما انتبه إلى الدور الذي لعبته النساء في حكم المرابطين، الذين عرفوا بصلابتهم البدوية الصحراوية، فقد كان دورا كبيرا وحاسما، ترك أثره في أسلوب الحكم والتدبير وفي البروتوكول المصاحب لتقنيات الحكم. وأن خصومهم الذين أطاحوا بهم، أي الموحدون، قد آخدوا عليهم، من بين ما آخدوا عليهم، ذلك الدور الذي كان لنساء المرابطين في الحكم والتدبير. بل إن أهم مؤرخي الدولة الموحدية (مثل البيدق أو ابن أبي زرع صاحب كتاب «روض القرطاس»، وابن أبي عذارى)، يقدمون لنا أرشيفا من المعلومات حول آداب السلوك السلطانية، التي تسمح بقراءة للممارسة السياسية للمغاربة، بشكل يؤكد الخصوصية، ويعكس مرجعية ثقافية لها شجرة أنسابها المحلية، التي تتساوق وطبيعة الذهنية المحلية وشكل نظم العلاقات القبلية وتشكيل الأحلاف وتدبير المصالح. تاريخيا، في هذه المقاربة العامة، يمكن الحديث عن مرحلتين من الآداب السلطانية في تاريخ الدولة المغربية. مرحلة المرابطين والموحدين، ثم مرحلة ما بعد المرابطين والموحدين. ذلك أن الأصل الإجتماعي والثقافي والسلوكي للمرابطين والموحدين، يختلف عن الأصل الإجتماعي والقيمي والثقافي للعائلات السياسية الباقية التي حكمت المغرب بعدهما. المرابطون والموحدون، ينحدرون من قبائل تعتمد مبدأ الغالب، تحركها قوة المصلحة والنفوذ وامتلاك السلطة وغايتها الإصلاح وتوحيد الجماعة في مغارب العالمين العربي والإسلامي. واحدة صحراوية من بلاد شنقيط (موريتانيا الحالية)، هم المرابطون اللمثونيون، الذين لهم مؤطرهم السياسي والإيديولوجي الديني (عبد الله بن ياسين). والأخرى، من أعالي جبال الأطلس الكبير، من القبائل المصمودية، غير بعيد عن «تنمل»، في اتجاه جبل «درن» الذي كتب عنه ابن خلدون، الذين لهم مؤطرهم السياسي والإيديولوجي الديني (المهدي بن تومرت). والنظامان معا، اعتمدا تدبيريا، على شكل سياسي، لم يسعى قط إلى تكرار نظم الحكم في دمشق أو بغداد، بل ابتكروا أسلوبهم التدبيري المحلي، بألقابه المحددة للأدوار القيادية للقادة. وفي هذه المرحلة، كان قاموس الخطاب السياسي المغربي، يدور حول «أمير المسلمين» وحول «أمير الجماعة» وحول «أمير الحرب». بل إنه في العهد الموحدي، تم إنتاج خطاب سياسي مختلف وخاص، ينطلق من مجالس «العشرة» و«السبعة والسبعين»، التي لها مرجعية في النظام القبلي للأمازيغ في أعالي الأطلسين الكبير والمتوسط وكذا الأطلس الصغير، الذي يتأسس على مبدأ «الخمس» و«مجلس الأربعين» (حتى وإن أصبحت هذه المجالس بعد العهد الموحدي تمتح من الإرث السياسي التنظيمي لرفاق ابن تومرت والتي تواصل العمل بها حتى أربعينات القرن العشرين). التحول، سيقع على مستوى المرجعية، بعد وصول السعديين إلى الحكم، لأن المبرر السياسي للوصول إلى «العرش» (لم يكن واردا بقوة هذا المصطلح من قبل)، أصبح هو الإنتساب للنسب الشريف للرسول الكريم. وكل العائلات التي حكمت المغرب ما بعد الموحدين، تبني قوتها الرمزية والسياسية من أنها من سلالة النبي (ص). وفي هذه المرحلة بدأت قوة الزوايا في المغرب، وقوة الأضرحة، وقوة الصوفية التي تواصلت إلى اليوم. بالتالي، فإن القاموس السياسي المنتمي لما يعرف ب «الآداب السلطانية»، الذي ظل متواصلا بالمغرب ولايزال، هو قاموس يغرف بقوة من المرجعية الدينية، وينتج خطابا برتوكوليا ليس له أشباه متطابقة في باقي تجارب الحكم بالعالمين العربي والإسلامي، وإن كان يلتقي معها في بعض التفاصيل، وفي الروح العامة التي يصدر عنها، والغايات السياسية التي يتغياها. إن مصطلحات «أمير المؤمنين» و«صاحب الجلالة» و«صاحب المهابة» و«السدة العالية بالله» و «الأعتاب الشريفة» و «الخديم الأرضى» وغيرها كثير من قاموس البرتوكول السلطاني، ليست تعابير جوفاء بدون عمق تدبيري، بل إنها ترجمان لمبدأ الطاعة، وأيضا، تحديد للمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتق من تتوجه إليه تلك الصفات ويختص بها. ثم إن اللغة هنا ليست محايدة، بل هي مختارة بدقة، لأن «أمير المؤمنين» ليست هي «أمير المسلمين»، فالصفة الأولى أشمل وأعم وأقوى، لأنها تهب للمسؤول السياسي الذي تنسب إليه قوة مزدوجة، دينية ودنيوية، أي القيادة الروحية (وحماية روح الجماعة الدينية في كافة تفاصيلها الشرعية والتعبدية) والقيادة المادية على الأرض (حماية الجماعة من خلال ضمان الأمن بمعناه العام في البدن والنفس والممتلكات). ثم إن أمير المؤمنين يدخل فيها كل المؤمنين الموحدين من مسلمين ونصارى ويهود، عكس أمير المسلمين. ثم إن الجلالة، التي تمتح من قوة معنى الجلالة الإلهية، إنما تؤكد ذلك المعطى الذي يميز اللغة العربية حيث عدد من حروفها حين تدخل على بعض الكلمات تمنحها معاني فارقة وقوية، ومن ضمنها حرف الجيم. فكلما دخل الجيم على كلمة ما، إلا ومنحها معنى الضخامة والكبر والأهمية والصلابة (جبل، جنة، جهنم، جلالة، جذر، جدار، جار... إلخ). إن ما قام به الملك المغربي الراحل الحسن الثاني، كمثال، (وهو أمر يستحق دراسة رصينة)، من خلال حرصه على إحياء ذلك الموروث البروتوكولي المندرج في باب «الاداب السلطانية» في ممارسته للحكم، من خلال استنباث الخطاب الكلاسيكي الممجد للذات الحاكمة، التي تؤمن أنها تستمد قوتها من أنها «خليفة الله في أرضه» وأنها إنما تتمثل ذات رمزيته وتقدسها وتحميها، هو الذي يهب الكثير من علامات الخصوصية السياسية التدبيرية التي ميزت المغرب عن المشرق. وأن لذلك شجرة أنسابه ثقافيا وسلوكيا. إن تقديس المغربي ل «الشريف» هو الذي يجعل الإطار المعرفي الوجداني، المؤطر للفعل السياسي المتراكم في بلادنا منذ قرون، إطارا متميزا يغري بتأمل معرفي، ضروري أن تكون منهجيته تعتمد على مباحث العلوم الإنسانية الحديثة، خاصة في شقها التاريخاني (مدرسة عبد الله العروي. وأيضا مدرسة الحوليات لفرناند بروديل)، والأنثربولوجي، والسوسيو - لساني. بدون ذلك، لا يمكن إنتاج خطاب معرفي منتج، يساعد في فهم الذهنية المغربية ومعنى الممارسة السياسية التي لها تراكم في بلاد إسمها المغرب.