تحت عنوان «أنا فيلسوف أكتب الروايات» أجرت صحيفة «لوموند» الفرنسية (11 أكتوبر)، حوارا مع امبرتو إيكو، وذلك بمناسبة صدور كتابه الجديد «من الشجرة إلى المتاهة. دراسات تاريخية حول العلامة والتأويل»، تطرق فيه إلى سلسلة من الأفكار والموضوعات الآنية، التي أعطى فيها رأيه بصراحة، وهي صراحة تميز هذا العالم «الموسوعي» الذي لم يتوقف عن إثارة الأسئلة في جميع المجالات التي تطرق إليها. هنا ترجمة لقسم كبير من هذا الحوار الذي يدخلنا إلى طرق التفكير عند إيكو، وهي بالتأكيد طرق استثنائية، يجدر أن نتوقف عندها قليلا. عندما يتم ذكر اسم أمبرتو إيكو، عمّن نكون نتحدث وقتها؟ عن الكاتب أو هاوي جمع التحف أو عالم السيمياء؟ لقد درست الفلسفة. أعتبر نفسي كفيلسوف، بقدر ما أعتبر علم السيمياء بمثابة الشكل الفلسفي الوحيد الممكن اليوم، إذ ان الباقي كله ليس سوى أدب. أنا فيلسوف أعمل بالفلسفة من الاثنين إلى الجمعة، أما في عطلة نهاية الأسبوع، فأكتب الروايات منذ أن كنت في عمر الثامنة والأربعين. إنك روائي شاب إذا؟ ستنشر لي المنشورات الجامعية في «هارفرد» المحاضرات التي ألقيتها في جامعة أطلنطا حول طريقتي في الكتابة. والكتاب سيحمل عنوان «اعترافات كاتب شاب». أجل أعتبر نفسي كاتبا شابا في الثلاثين من عمره. قلت في أحد أحاديثك الصحافية: «الانترنيت هو فضيحة ذاكرة بدون غربلة، حيث لم نعد نميز بين الخطأ والحقيقة». ماذا تقصد من ذلك؟ في المستقبل، سيكون من هدف التربية تعليم فن الغربلة. لم يعد من الضروري تعليم أين تقع كاتماندو، أو من كان أول ملك لفرنسا بعد شارلمان، لأننا أصبحنا نجد ذلك في كل مكان. لكن بخلاف ذلك، علينا أن نطلب من التلاميذ أن يتفحصوا 15 موقعا كي يحددوا في النهاية أي موقع هو الموثوق به. علينا أن نعلمهم تقنيات المقارنة. نشرت في العام 2009، مع جان-كلود كاريير، كتاب «لا تأملوا أن تتخلصوا من الكتب». وإذا اعتقدت أنني قرأته جيدا، فأنت تتحدث عن الكتاب، الكتاب الورقي مثل ما نعرفه، بكونه شيئا متكاملا، مثل الدولاب أو الملعقة أو المطرقة. لماذا؟ لا يزال (الكتاب) لغاية اليوم يشكل الوسيلة الأضمن لحفظ المعلومات وتعميمها. وذلك لثلاثة أسباب. أولا، كما أعتقد، لأنه الوسيلة الأكثر راحة للقراءة، على الرغم من أن العديد من الشبان اليوم يقولون: «كلا، أقرأ بشكل أفضل على الأيبود». من ثم ، هناك حب هذا الشيء. إذ لو عدت إلى القبو لأبحث عن كتاب «بينوكيو» الذي قرأته وأنا في الثامنة من عمري والذي كتبت عليه بعض الجمل، لعادت إليّ تلك العواطف التي لن أجدها على أي أسطوانة تحمل نص بينوكيو. أخيرا، نظرا لعمري ولو كان ذلك موجودا في ذلك الزمن، لما استطعت إيجاد ديسك بينوكيو، لأنه سيكون قد فقد مغناطيسه ولن يعمل. وهنا ثمة مشكلة: إن أجهزة الكومبيوتر تتغير بطريقة كبيرة لدرجة أننا نجهل معها عمر الديسك. هل تعتقد أن المعرفة والعلم سينتشران دائما عن طريق الكتابة التي نرتكز عليها دائما، أم على العكس، سينتهي الأمر بثقافة السرعة كما الانترنيت بأن تغلب على قدرتنا في الحكم؟ أعتقد أنه علينا أن نعيد تشييد ثقافة الأديرة، إذ في يوم ما - قد أموت قبل أن يأتي- على الذين ما زالوا يقرأون أن ينسحبوا لينعزلوا في «الفالنستير» (1)، في الريف ربما، كما طائفة «الأميش» في بنسلفانيا. هناك نحتفظ بالثقافة، أما الباقي، فنتركه يطفو كما يطفو كل شيء. مع 6 ملايير شخص على الكوكب، لا نستطيع الادعاء أن هناك 6 ملايير مثقف. علينا أن نجد بعض الارستقراطيين من وجهة النظر هذه. في حديث صحافي، تذكر شيسترتون الذي كان يقول: «حين لا يؤمن البشر بالله، فهذا ليس معناه أنهم لا يؤمنون بشيء، بل إنهم يؤمنون بكل شيء». بماذا تؤمن اليوم؟ بلا شيء. أتؤمن بالكتابة، بالكتب، بالثقافة؟ بعلامة الاستفهام. بالبحث. تعرف أن الأولين، في القرن التاسع عشر، الذين أخذوا الروحانية على محمل الجد، لم يكونوا الروحانيين بل العلماء. عرفت علماء رياضيات وعلماء كومبيوتر، كانوا يذهبون في المساء، عند قراء الكف. كلما قمنا بمهنة علمية، كلما كنا بحاجة إلى شيء آخر. ثمة سياسيون يذهبون لقراءة أبراجهم، بوش على سبيل المثال. هل الأمر موجود في إيطاليا أيضا؟ حاليا، يفضلون الذهاب مع شابات صغيرات في السن. أي علاقات تقيم مع ترجمات كتبك إلى لغات أخرى، بالقياس إلى اللغات التي تتكلمها؟ بقدر الإمكان، أعمل كثيرا مع مترجمي. وفي بعض الأحيان أعمل مع مترجمي لغات لا أجيدها. علينا أن نثق بهم. لا يمكن لنا أن نتابع كل شيء. مع كل كتاب، أرسل إلى المترجمين ملفا غنيا يفيد بأن هذه الكلمة أو تلك الجملة تحمل تلميحا ضمنيا إلى شيء ما وبأنه يمكن لنا أن نقولها بهذه الطريقة أو تلك. على سبيل المثال في كتاب «جزيرة اليوم السابق» كل فصول الكتاب كانت تحمل عناوين كتب من القرن السابع عشر. وبما أن هذه الكتب موجودة أرسلت لائحة بأسمائها إلى المترجمين. هل هذا ما قصدته وأنت تكتب «أن نقول تقريبا الشيء عينه»؟ هل المهم هو «التقريبي»؟ كلا، المهم هو «التقريبي» و«القول» و«الأمر عينه» و«الشيء». ماذا نترجم؟ هل نترجم السطح أم المعنى العميق؟ على سبيل المثال: هناك شخص معتوه يقوم بلعبة الكلمات، بلعبة روحية تظهر جيدا كم أنه أحمق. المشكلة ليست في ترجمة لعبة الكلمات حرفيا، بل في أن نجد لعبة كلمات حمقاء في اللغة التي ننقل إليها. في هذه الحالة، المهم في الأمر، ليس لعبة الكلمات، بل واقع أن الشخص هو شخص أبله. هل راودتك الرغبة في أن تكتب مرة بلغة غير لغتك؟ أجل، حدث لي أن كتبت الكثير من الأبحاث بالانجليزية، بالانجليزية مباشرة. يفترض هذا أن تعرف جيدا كيف تمسك باللغة الانجليزية، لا أن تتكلمها فقط؟ أتحدث الفرنسية بشكل أفضل من الانجليزية، لكني أفضل الكتابة بالانجليزية، لأن هناك، بالفرنسية، العديد من المشاكل الإملائية واللفظية الرهيبة. إما أن تكتب الفرنسية بشكل جيد وإما لن يتقبلك أحد. بينما إذا كتبت الانجليزية بشكل سيئ تجد أن الجميع يتقبلونك. (1) المشرك: تجمع إنتاجي دعا إلى إقامته الفيلسوف الاشتراكي فورييه، وفيه يعيش العمال عيشة مشتركة.