من نافل القول اليوم، أن هناك فئة معينة هي من تحب كرة القدم. لقد أصبحت اللعبة الأولى في العالم تثير اهتمام الجميع، منذ عقود لا بأس بها. ومن الجهل أيضا أن نقول إنها بدأت تثير الكتّاب منذ وقت قصير، فنحن لو عدنا حتى إلى الإلياذة، لوجدنا في إحدى مقطوعات هوميروس وصفا لشخص يركل الكرة، كأنه لاعب معاصر. وهناك غاليان أيضا الذي سبق هوميروس بعقود تحدث أيضا عن لعبة الكرة. وتستمر هذه الرحلة، إذ نجد على سبيل المثال، تعبير لاعب كرة قدم في مسرحية الملك لير لشكسبير، وريلكة كتب أيضا قصيدة عن كرة القدم، وسيلين الكاتب الفرنسي، وتطول اللائحة من روائيين ومفكرين وشعراء (من بينهم على سبيل المثال امبرتو سابا وكارلوس درموند دي أندراد..). لقد أصبحت كرة القدم التعبير الأمثل عن العالم المعاصر، إذ تتضمن في ثناياها كل التوابل اللازمة، كما يجنح البعض إلى اعتبار أنها ورثت المسرح الكلاسيكي، الذي كان يشترط وحدة الزمن (الفترة المحددة ب 24 ساعة) وهي تتجلى اليوم في عمر المباراة. والحدث الرئيسي أي المعركة، تبدو اليوم في الصراع بين الفريقين، كما تتطلب أبطالا خارج «السياق البشري العادي». ولاعبو كرة القدم اليوم أشبه «بآلهة» يتحركون فوق أرض الملعب، إذ أصبحت بعض الملاعب في العالم بمثابة «كاتدرائيات» تفوق الكاتدرائيات الأصلية. في أي حال، عديدة هي التفسيرات الحديثة لهذه اللعبة. لكن علينا ألا ننسى أيضا أنها ستبقى لعبة رياضية أولا وآخرا، تستطيع أن تشد إليها من تشاء. ولمناسبة بدء بطولة العالم المقامة حاليا في جنوب افريقيا، طلبت صحيفة لوفيغارو الفرنسية، من بعض الروائيات، أن يتحدثن عن منظورهن حول اللعبة. هنا ترجمة لإجابات تسع منهن. لورانس تارديو: الحياة أقل استدارة كأس العالم بكرة القدم. في كلّ مرة، ثمة انزلاق أكيد، حركة صفائح معدنية. أمر يحدث تحت الأرض، يجأر، يقلب كل شيء. عند الجميع: عند الذين يهتمون بالأمر كما عند الذين لا يهتمون به. بالنسبة إلى الفئة الأولى، هناك مواعيد المباريات المدونة بعصبية على المفكرات. ممنوع علينا أن نهيئ لشيء ما في تلك الأماسي. أتلقى اتصالا هاتفيا مرتبكا من صديق يسكن خارج البلاد، لم أره منذ فترة طويلة: «لكن يا لورانس، لا أعرف أين وضعت رأسي، من المستحيل أن نرى بعضنا يوم 11 يونيو». ليس لديّ أيّ فكرة عمّا سيجري يوم 11 يونيو، أُقفل الخط، أتسمّر مكاني، تجتاح بطني ضحكة مجنونة. لديّ الدليل، مرة أخرى، على أن الكينونة ليست سوى مجرد متواليات غير منقطعة من الانتظارات المتفاوتة، اللامتزامنة. ربما بفضل هذا العفو بالنسبة إلى الفئة الثانية يصبح زمن بطولة كأس العالم، فضاء ساحقا للحرية علينا القبض عليه: كل المساءات التي تجري فيها المباريات. كما لو أننا، فجأة، نجد وقتا إضافيا، وقتا يشبه الزمن الذي كنا نهرب فيه من المدرسة، وقتا مسروقا، كان يمكن له أن لا ينوجد مطلقا. هذا هو الأمر: هناك أولئك المسمّرون أمام أجهزة التلفزيون، الشغوفون بالكرة المستديرة، كما حال الآخرين، غير الشغوفين بالكرة، الأحرار. نحن في مكان آخر، هنا حيث الآخرون غير موجودين. إننا في الخارج، منقطعون عن الواقع. ربما لسنا في الواقع أبدا. إلى حدّ ما، يشبه الوقت هذا، مدينة باريس في شهر آب: الآخرون في إجازة، أما نحن، فهنا. نمشي ببطء شديد. نعيد اكتشاف الفضاء، نبض المدينة. وهم أن كل شيء يعود ليصبح ممكنا. ومع ذلك أذكر: عام 1998، كنت أعيش مع رجل مهووس بكرة القدم، شاهدت جميع المباريات، صرخت أمام شاشة التلفزيون، ومساء المباراة النهائية سرت في باريس، واحتفلت. ما الذي حصل؟ لماذا لم تعد الكرة المستديرة وملحمة الفريق تمارسان عليّ الدهشة عينها؟ هل أصبحت الحياة أقل استدارة؟ أكثر حرية؟ أليس فيرني: الاسبرنتو أشعر بأنني أقرب إلى أنطوان بلودان، الذي كان يرى في الرياضة أنها «الاسبرنتو» الوحيدة الممكنة، أكثر من قربي إلى بيير ديبروج الذي كان يزعم أنه يكره لاعبي كرة القدم. في الحانات، غداة أي مباراة، ثمة لغة حقيقية: حماسة، خيبة أمل، تحاليل وتوقعات. أنا مدينة للمباراة النصف نهائية التي جرت بين فرنسا وألمانيا العام 1982، إذ استطعت الحديث، في السجن، مع أشخاص محتجزين كانوا يفضلون كرة القدم على الأدب. مرّة كلّ أربع سنوات، ثمة العديد من الأشخاص الذين يتسمّرون على مقاعدهم. أشعر بالسرور من أجلهم، إن كانوا من المطلعين. المسابقات الرياضية هي مدرسة حياة. كل لاعب، يكتشف فيها حدود جسده وروحه، تجربة الجهد كما تجربة المعركة، النصر والهزيمة، الأخوة المشتركة مع بقية الفريق والذكريات التي لا تمحى. لا أحب المشاهد الذي لم يشارك يوما في أيّ شيء، مثلما أكره المشجع الذي يفضل العنف على الحوار. في كرة القدم، كما في الأمور الأخرى، نجد أن التمايز ضروري. وإن وجدنا أن الحماقة والعنف والمال تفسد القضية، فعلينا إطفاء الجهاز. دلفين دو فيغان: خلل عاطفي ليس لدي أيّ اهتمام خاص بكرة القدم، إذ أجهل كل شيء تقريبا (هذا إذا استثنينا فكرة وضع الكرة في مرمى الفريق الخصم). أنا لا أعرف الفرق، ولا ألوان قمصانها، مثلما لا أعرف أبدا أسماء اللاعبين. حقا، لم أفهم يوما ما معنى ضربة حرّة مباشرة، وأجهل الاختلاف ما بين بطولة أوروبا للفرق وبين بطولة فرنسا، كما أني لا أعرف مطلقا متى ينتهي وقت التمديد. ومع ذلك، حين أشاهد، صُدفة، تلخيصا لمباراة على شاشة التلفزيون، ومهما كانت عليه المباراة، لا أستطيع أن أبعد نظري. وعليّ الاعتراف: أعشق ذلك. أعشق هذه اللحظة التي تعقب الهدف، هذا الفرح المتدفق، كما لو أنه ليس هناك أي شيء آخر موجود، كما لو أن مستقبل العالم يقف على هذا الانتصار. هناك صورة اللاعبين بأذرعهم المرفوعة نحو السماء، الذين يتعانقون ويقبلون بعضهم ويصطدمون ببعضهم بعضا. ثمة كثافة دراماتيكية في كرة القدم، تسحرني. يثيرني ذلك. وأحيانا، وعليّ الاعتراف بذلك، تترقرق عيناي بالدموع، بالأحرى أبدأ بالبكاء. باختصار، لقد فهمتم، تحيلني كرة القدم على خلل جاد في جهازي العاطفي. لذلك أرى وصول بطولة كأس العالم بخشية ما. بلاندين لو كاليه: عاطفة ولدي - 1998 : كان على كتفي والده، يغني «1، 2، 3، صفر!» اليوم، نسي ذلك كله. أشعر بخيبة أمل قليلا، لكن في النهاية، لم يكن يبلغ يومها سوى ثلاث سنوات ونصف السنة. - 2002 : كان يملأ بشغف «ألبوم بانيني». كان يرتدي قميص فريق لاتسيو روما (الرقم عشرة العائد لكريسبو). بكى حين أقصيت إيطاليا أمام كوريا الجنوبية بسبب الأخطاء التحكيمية. - 2006 : إنه النهائي الحلم. خلال عزف النشيد الوطني، وقف ويده على قلبه. كان «زيزو إلهه». سحرته طريقته في تسجيل الهدف. شعر باليأس حين نطح المنافس. وحين أضاع تريزيغيه ضربة الجزاء، لم يبك. كان حزينا فقط. - 2010 : يعتبر نفسه قد كبر على ألبومات بانيني، إلا أنه يساعد نسيبه الصغير على إتمام دفتره الخاص. وبعد تصرفه القذر مع لاندرو، فقد دومينيك كل احترام عنده. سألني إن كان يستطيع تحضير الهمبرغر في البيت خلال المباراة النهائية. لا أحب كأس العالم: لا هستيريا المشجعين ولا الوجدانية الغاشة عند المعلقين، ولا حماسة «القيم الرياضية» عند المعلنين الذين لا يهتمون إلا بإغراقنا بمنتوجاتهم المصنوعة من قبل عمّال يتقاضون رواتب زهيدة. ومع ذلك، كلّ أربع سنوات، أترك نفسي تنساب مع العاطفة: تلك العاطفة التي أراها في عينيّ ولدي. أديلاييد دو كليرمون تونير: فانتسمات كم أنهم يركضون جيدا! بطولة كأس العالم تشبه عرضا للجميلات الميكانيكيات اللواتي يتعرقن بإعجاب. الزرق الذين هم باميلا أندرسن الكرة يمارسون سحر السوقية. يضعون «الجل» على شعورهم، يلون بعض خصله، ويعتنون كثيرا بشعر أجسادهم كي يتمكنوا في النهاية من خلع قمصانهم بإهمال، ما إن ينجزوا عملهم، ومن دون أن تكون هناك أي وبرة لتخفي الأوشام أو الصور المرسومة. حين ننظر إليهم، تأخذنا الصفنة، إلى أن يأتي أحد الصحافيين الرياضيين ليضع الميكروفون تحت أنوفهم ولتتفتت الفانتسمات بعدها. في زيّهم، حيث يصبحون ضحايا الموضة ، يبدون كأنهم غائبون، مثل طفل يروي عن يومه المدرسي.. أما بالنسبة إلى المباريات فأنا لا أتخطى أبدا الشوط الأول، إذ أحسّ بالإرهاق من رؤية هؤلاء المفروضين وهم يطاردون الكرة من جانب إلى آخر بينما يشكو المعلّق التلفزيوني من عدم «وجود فرص للتسجيل». بيد أنه يحدث لي أحيانا أن أحبس أنفاسي، مدهوشة من منظر التعاضد، حين يتحد اللاعبون في حيوية مشتركة ليتقدموا بعناد، باتجاه المرمى ويصيبوه. عندها يتيحون لنا أن نشعر بأن ثمة أشياء موجودة: زمنا للراحة، بأن هناك تناغما بين البشر، بينما من شمال فرنسا إلى جنوبها - تعود لتولد سعادة منسيّة: سعادة أن نكون فرنسيين. إلييت أبيكاسيس: شعلة المباريات الخالدة هناك بعض المباريات التي تلامس الكمال الاستيتيقي والأخلاقي والروحي، بينما نجد بعض الأهداف التي تصيب القلب والروح مباشرة. سأتذكر دوما هدف تريزيغيه خلال المباراة النهائية لبطولة الأمم الأوروبية الذي سجله قبل النهاية بدقيقتين. قلت يومها لنفسي: لم ينته أي شيء بعد، علينا الكفاح حتى النهاية. ما الذي أقوله عن بطولة العام 1998، التي شاهدتها على شاشات عملاقة في الحانات، حيث انتابني إحساس من الحماسة والفخر الوطنيين وهو إحساس لم أشعر به من قبل؟ أحب المثابرة، الكمال، روح الجماعة: أيا كان أصل (اللاعب) أو ديانته أو لون بشرته. لا يمكننا أن نلعب كرة القدم إن لم نأخذ في الحسبان الآخر بصفته كآخر: الآخر كخصم والآخر كزميل. الهدف هو دائما ثمرة العمل الجماعي، والنظرة المنتبهة، وهذا الذكاء الذي يشترط علينا القول «ليس أنا بل سيكون هو»، لأنه في مكان أفضل من مكاني. علينا الاعتراف بهذا التفاني. اللاعب المميّز هو اللاعب الذي يسمع والذي يرى الآخر: يستمع إليه لدرجة أن يفقد برودة دمه. إن المباريات الكبيرة، التي تبقى خالدة، تعلمنا شيئا، درسا حياتيا. إنها الشعلة التي نتناقلها مثل الكرة. أليكس دو سانت أندريه: رجالنا تُشكل كرة القدم جزءا من الغموض الأدبي للذكورية، كما أنها تستطيع أن تحول تمثالا إلى شخص يرقص على الكنبة وهو يعضّ الوسادات أمام شاشات التلفزيون. لقد تسمّر «أزواجي» (عنوان الرواية الأخيرة للكاتبة) على طريق كومبوستيلا حين شاهدوا مباراة برشلونة غلاسكو حيث كان الألماني يطلق أيضا صرخات كبيرة مثل الكاتالوني الذي كان فريقه يلعب. حتى باكو، الذي لم يكن يصلي إلا عند الضرورة القصوى، تذكر القلب الأقدس، ذات يوم، حين تلقى مرمى ريال مدريد هدفين، ما أتاح للفريق (بعد صلاته) أن يقلب النتيجة (ويفوز)... يمكن للرجل، مثلما كان يقول صديقي رولف، أن يحظى بعدة نساء، لكنه لا يحب إلا فريق كرة قدم واحد. لا أنتظر شيئا أبدا من بطولة كأس العالم، لكن في كلّ مرة، تجيء لحظة تسمرني فيها أمام التلفزيون وأنا أصرخ. إنها اللحظة التي تصبح فيها هذه اللعبة الكونية، حميمة، ليعنينا الأمر كلنا، كما في العام 1990، يوم ملحمة «الأسود غير المروضة» (لقب فريق الكاميرون) التي كان يقودها روجيه ميلا وهو في عمر الثامنة والثلاثين، وهي ملحمة انقطعت في الدور الربع النهائي أمام انكلترا والتي لا تزال تجعلني بكماء لغاية الآن. هناك أيضا نهائي 1998 و»واحد، اثنان، ثلاثة، صفر» ضد البرازيل، وقد تابعتها في مطعم في كورسيكا، حيث كان صاحب المطعم يطلق النار من بندقيته، بعيدا في الجبل، عند تسجيل كل هدف، كما تدفقت الفرحة في البلاد بأسرها... هناك خيبة الأمل عندما نطح زيدان خصمه، في البطولة الأخيرة، حيث قام الجميع بتطييب خاطره كما لو أنه ولد صغير، لكني لو كنت هناك، لكنت ضربته على قفاه! عدم أهلية التشكيلة الأخيرة أمام ايرلندا التي أثارت السخط العام (1) أتمنى أن يتمتع رجالنا بالشجاعة كي يجعلونا ننسى «ساعة الحزن هذه»، وأن يغوصوا في هذه المغامرة بكل الشجاعة والسخاء اللذين سيجعلانهم، في جميع الأحوال، يحظون بقلوب النساء كلهن. فالنتين غوبي: القناني المحطمة كرة القدم هي تلك الصرخة الكبيرة، حين كنت طفلة، وأحيانا كان والدي يطلقها وهو وحده أمام التلفزيون. لم يكن بحاجة إلى الآخرين ليبرهن على هذه الفرحة. لم يكن بحاجة إلى أصحاب، ولا إلينا، وحين كنت أسرع، في بعض الأحيان، إلى باب الصالة كنت أراه، خارج الكنبة، واقفا أمام شاشة التلفزيون، رأسه بين يديه، غاضبا من الهدف الذي سجل في مرمى فرنسا، أو وهو مبتهج، يشد على قبضتيه لأننا سجلنا هدفا، وصرخته عندها، لم تكن صرخة حرب ولا صرخة نصر، بل هي صرختي عينها التي كنت أطلقها أمام اللونين الجميلين الأحمر والأزرق، المنبعثين من الألعاب النارية يوم 14 يوليوز، هي صرخة الدهشة الراديكالية، البريئة، أمام جمال الحركة. كرة القدم هي هذه الضجة الكبيرة، وأنا فتاة راشدة. هي القناني المحطمة، رمي الأحجار، الضربات، المئات من رجال الشرطة الذين تحركوا مع المال العام، عمليات منع دخول الملاعب والملاعب الفارغة أحيانا، لا تستاءوا لأن كرة القدم لعبة شعبية، رياضة ديموقراطية، أحيانا تصدمنا صورة لموندينو تظهر الوجه الفاحش للمجتمع الاستهلاكي مع امرأة عارية اللحم، لكن كرة القدم لا أحد يمسها. لقد أخطأت يا أبي. كرة القدم ليست لعبة للأطفال. جنفياف دورمان: لعبة سوقية لا أحتمل كرة القدم. إنها لعبة سوقية. أحب الركبي، إذ انها لعبة حقيقية وحيث إن جمهورها مختلف تمام الاختلاف عن الجمهور الذي يرتاد ملاعب كرة القدم. لا شيء أكثر من مشاهدة اولئك الناس المسمّرين في المدرجات، حتى «يقف شعر بدني». في مسرحية الملك لير، ينعت كنت اوزفالد، مخادع غونيريل، بأنه «لاعب كرة قدم حقير». منذ زمن شكسبير، كان «الزعران» هم من يحبون كرة القدم. إنهم الناس أنفسهم اليوم. (1): تشير الكاتبة هنا إلى الكرة التي لمسها تييري هنري مهاجم المنتخب الفرنسي بيده ومنها جاء هدف التأهل إلى كأس العالم الحالي.