والآن، والمونديال محط تنافس شرس بين المشاركين، مستقطبا اهتمام البعض وخالقا نقاشا عاما حول حظوظ هذا الفريق أو ذاك، ألا يحق لنا أن نقارب كرة القدم من زاوية نظر أخرى غير زاوية المناصرة أو المناهضة؟ مثل هذه المقاربة المغايرة، سبق وقام بها الباحث الإيطالي أمبرتو إيكو في عدة مقالات له، وهي مقاربة تحتج على «كليانية» أنصار الفرق الرياضية وتصف «توافقاتهم» قبل أن تتهمهم بالتلصص. في أحد مقالات كتابه «السفر مع السلمون» الصادر في سنة 1998، يقر المفكر الإيطالي الكبير، أمبرتو إيكو: «ليست لديَّ ضغينة ضد كرة القدم، أما الأسباب التي تدفعني إلى عدم الذهاب الى الملاعب، فهي ذات الأسباب التي تجعلني لا أقدم على النوم في دهاليز محطة القطار بميلانو (...) ويحدث أحيانا أن أتابع باهتمام ولذة مجريات مباراة رائعة على شاشة التلفزيون، لأنني أقدر واحترم سحر هذه اللعبة النبيلة« إنني لا أكره كرة القدم، بل أكره المدمنين عليها». ولشرح موقفه هذا للقارئ، يقارن الباحث نَفْسَه بأنصار العصبة اللومباردية العنصريين (!)، قائلا: «إن الشعور الذي ينتابني تجاه المهووسين الإيطاليين بكرة القدم، هو ذات الشعور الذي يعبر عنه أعضاء العصبة اللومباردية تجاه المهاجرين غير الأوربيين: «لست عنصريا، لكن بشرط أن يظلوا في مكانهم الطبيعي»، وأقصد، وأنا أتحدث عن مكانهم الطبيعي، فضاءات لقاءاتهم خلال الأسبوع (الحانة، الأسرة، النادي) والملاعب خلال أيام الأحد« إن ما يحدث في هذه الفضاءات لايهمني إطلاقا، بل إنني أفضل قيام الهوليغان بأعمال شغب في الملاعب، لأن قراءة أخبار ذلك في الجرائد تشكل مصدر ترفيه عن النفس». وإذا ما صدقنا إيكو، فإن عشاق كرة القدم يتحلون بميزة مشتركة: لا أحد منهم يستطيع استساغة وجود أُناسٍ غير مهووسين باللعبة! كما أنهم يفرضون عليك، جميعا، الحديث حولها حتى ولو شرحت لهم عدم إعارتك لها أدنى اهتمام! ويعتقد صاحب كتاب «السفر مع السلمون» بأن سائقي الطاكسيات هم الأكثر إصابة بفيروس هذه الميزة المشتركة، ولهذا يسوق الحوار التالي مع أحدهم: «- هل شاهدت فيالي؟ + لا، ربما عَبَرَ الشارع في غيابي! - هل ستتابع المقابلة هذا المساء؟ + لا، لديَّ دراسة مؤجلة عن كتاب فلان حول الميتافيزيقا (...) ومن الضروري أن أنجزها! - هذا جيد، تابع المباراة وسنناقشها غدا، أظن أن فان باستن سيكون مارادونا التسعينيات، ألا تشاطرني نفس الرأي؟ لكن، وفي جميع الأحوال، من الواجب الاهتمام بهاجي كذلك!». وانطلاقا من هذا الحوار، يؤكد أمبرتو إيكو بأن سائق الطاكسي الولوع بكرة القدم عاجز عن تصديق وجود إنسان لايهتم بالبطولة وأخبار الفرق واللاعبين، وحتى إذا افترضنا أن زبونه قادم من كوكب آخر، فإنه لن يحدثه سوى عن كرة القدم! ثم يتساءل الباحث عن السبب الذي يجعل هؤلاء مؤمنين حتى النخاع بمساواة كل البشر في عشق الكرة، ومستعدين - في نفس الآن - للانقضاض بكل ما أوتوا من قوة على أول نصير لفريق منافس يصادفونه في الشارع! إن سلوكهم هذا يجعلهم يشبهون الى حد بعيد أنصار العصبة اللومباردية العنصرية من خلال شعارهم: «أتركوا الأفارقة يهاجرون إلى بلدنا، حتى نستطيع تصفية حسابنا معهم!». وعلى مستوى آخر، فإنه «ثمة فعل لن تستطيع أية حركة طلابية ولا أية انتفاضة ولا أية معارضة راديكالية، ولا غيرها الإقدام عليه حتى ولو اعتبرته أساسيا: إنه احتلال ملعب رياضي يوم الأحد »، هكذا يتحدث أمبرتو إيكو في مؤلف آخر له «حرب الزيف» الذي صدر سنة 1993، ثم يضيف: «إن مجرد اقتراح القيام بمثل هذا الفعل يبدو ساخرا وعبثيا حاولوا الإقدام عليه، فلن يكون نصيبكم غير الاستهزاء(...) بل طبقوه بكل جدية وحينذاك سيصنفكم الجميع كمشاغبين». لكن، من أين لك بكل هذه الوثوقية يا صاحب رواية «اسم الوردة»؟ يرد إيكو قائلا: «يمكن لجماهير من الطلاب أن تلهو عبر رمي قنابل يدوية على سيارات الشرطة، فلن ينتج عن ذلك أكثر من أربعين قتيلا، بسبب القوانين وإكراهات الوحدة الوطنية وسمعة الدولة وعلى العكس من ذلك، فإن مهاجمة ملعب رياضي ستؤدي دون شك الى حمام دم يسقط المهاجمون ضحية له، وإلى مجزرة رهيبة وشاملة سيرتكبها مواطنون فاجأتهم الإهانة، فأصبحوا على أتم الاستعداد لمعاقبة المهاجمين بفظاعة، لأنه لم يبق لديهم شيء مهم يحافظون عليه غير هذا الحق المنتهك: حق التلذذ بالفرجة الرياضية». ثم يوضح مؤلف «حرب الزيف» أطروحته التي ضمنها لمقال يحمل عنوان «الثرثرة الرياضية»، مؤكدا: «إذا قمتم بالاعتصام في كنيسة، فسيحتج قس وسينزعج بعض الكاثوليكيين، وفي المقابل، ستتعاطف معكم فئة من المنشقين، وسيتسامح معكم اليسار، وسيشعر العلمانيون التقليديون (في آخر المطاف بالسعادة) يمكنكم كذلك احتلال المقر المركزي لحزب ما، وفي هذه الحالة ستعتبر الأحزاب الأخرى، سواء تضامنت معكم أم لا، بأن ذلك الحزب يستحق ما يحدث له. لكن إذا ما أقدم أحد على احتلال ملعب، وبغض النظر عن ردود الفعل الآنية التي ستتولد عن فعلته، فلن يعلن تضامنه معه أحد: لا الكنيسة ولا اليسار ولا القضاء ولا الصينيون ولا العصبة من أجل الطلاق ولا الفوضويون ولا النقابيون، بل إنهم سيغلُّون جميعا المجرم ذاك على أعمدة التشهير، ثمة إذن حقل عميق في رحم الحساسية الجماعية لا يقبل أحد المساس به، إما بسبب المبادئ، وإما بسبب الحسابات الديماغوجية، وثمة إذن بنية عميقة مكونة للاجتماعي ليس بالمستطاع تفكيكها دون تعريض مبادئ الحياة الجمعية لأزمة (...) إن الرياضة هي الإنسان، الرياضة هي المجتمع». ويقول إيكو في مكان آخر من نفس المقال: «إن الرياضي كائن يمتلك عضوا متضخما يحول جسمه الى مركز ومنبع للعب لاينتهي، إن الرياضي وحش (،،،( إنه الغيشة (أي فتاة هوى يابانية راقية) ذات القدم المكبوس والضامر، والمنذورة لتصبح أداة يستعملها الآخرون». ثم يضيف «إذا كانت الرياضة (الممارسة) هي الصحة، مثلها في ذلك مثل الأكل، فإن الرياضة المرئية هي أسطرة الصحة، إذ حين أتفرج على الآخرين وهم يمارسون الرياضة، فأنا لا أقوم بعمل صحي، تغمرني فقط متعة تنبعث من معاينتي لصحة الآخرين الجيدة، وهو نوع من التلصص المشين، مثل ذلك الذي نقوم به حين نتفرج على الآخرين وهم يمارسون الجنس». ويستطرد أمبرتو إيكو قائلا: «أجل، إن الذي يتفرج على الآخرين وهم يمارسون المنافسة الرياضية يشعر بنوع من الإثارة: إنه يصيح ويهيج، ومن ثمة فإنه يمارس تمرينا جسميا ونفسيا، كما أنه يقلص من عدوانيته ويشذب تنافسيته. غير أن هذا التقليص وهذا التشذيب لايتم تعويضهما، كما يحدث ذلك بالنسبة لممارسي الرياضة ، فهؤلاء يفوزون بقسط من الطاقة ويتملكون قدرة على ضبط الذات ومراقبتها، هكذا إذن، ففي حضرة الرياضيين الذين يتصارعون من أجل اللعب، فإن المتلصصين يتصارعون بجدية، إنهم يتشاجرون عند نهاية المنافسة أو يقضون نحبهم بسبب سكتة قلبية في مدرجات الملاعب». وتأسيسا على كل ما سبق، يستنتج إيكو ما يلي: «إذا كان نظام المنافسة في الرياضة، كما تمارس فعلا، يحتوي على مظهري تنامي وتلاشي الإنسانية، فإن التلصص الرياضي لايتضمن غير الجانب السلبي فقط».