الشاعر شفيق بوهو عرفته منذ ما يفوق عشرين سنة. كان شابا يافعا مقبلا علي الحياة، وعلي محبة، الشعر والشعراء. منذ ذلك العهد وهو يصارع ويغالب الكلمة الشعرية محاولا تأكيد ذاته كشاعر. و كان كلما خط شيئا لا يتردد في اعلانه واشهاره علي بعض اصدقائه الشعراء وغير الشعراء. كان وهو يعرض على الآخرين قصائده، يجيد الانصات لكل ملاحظة، ولا ينزعج لتدخل في عبارة او صورة،. كان كمن يتعلم، وبرحابة صدر بل بالشكر والامتنان، يتقبل النقد ويمضي ليعود من جديد بما خطه دمه مصرا علي أن يكون شاعرا. هذه الخطوات الاولى على درب الشعر العصي صاحبتها قراءات كثيرة لمتون شعرية متعددة، عربية واجنبية جال كما هو مطلوب ، في جغرافيات شعرية كثيرة واعجب خاصة بالشعراء المتمردين على كل الاعراف والسابحين ضد التيار، اولائك الذين اختاروا الصعلكة والبوهيمية كملاذ يعفيهم من كل ارتباط لانهف ي نظرهم قيد وعبودية. وفي هذا الصدد اذكر ثلاثة شعراء لهم مكانة خاصة عند الشاعر شفيق بوهو . هؤلاء هم: جان د امو وعقيل علي والصاعقة الشاعر الظاهرة شار بكوفسكي. ومسارهم بقدرماهو فنان، فهو أليم ايضا. ربما كان هذا قدر الشعراء او على الاقل نسبة كبيرة منهم. آمن بحريته وجازف احيانا فأدى بعض الثمن، والجميل في حالته انه لا يكترث كثيرا للخسارات، التي خصها بالمديح في ديوانه. لا يكاد يؤمن الا بلحظة التي هو فيها. هذا بحد ذاته بعض من شعر اذ فيه كثير من الصراع مع النفس الراضية المطمئنة في الرتابة وما تمليه التقاليد و الاعراف من مؤسسات لا طاقة للشاعر على تحملها، والا كم من صبر ورياضة روحية تكفيه حتى لا يختل العالم ويسقط فوق رأسه. انجاز للشعر وجعل المؤسسات الاجتماعية تتوارى عنه، ما عدا مؤسسة الرغيف الضامنة له امكانية العيش. هكذا كان وظل الى أن كسب الرهان والعهد، الذي قطعه على نفسه. فانقادت إليه العبارة بيسر بعد عراك طويل مع اللغة استجاب الحبر الذي يا لطالما كان لايفي بالمزاد، فجاء ديوانه «حانات تستيقظ باكرا في رأسي» ضمن منشورات بيت الشعر في المغرب. ديوان في حلة انيقة تزين غلافه لوحة، دالة على فضاء الديوان وايقوناته، للفنان صلاح بنجكان، لا تخفي لمسة الشاعر والتشكيلي عزيز ارغاي في التصميم والاخراج. يأتي هذا الديوان في سياق مبادرة بيت الشعر في المغرب في الانفتاح على مناطق الظل في شعرنا الغربي وفسيح المجال أمام تجارب شعرية واعدة، ولكل الحساسيات لأن بيت الشعر هو بيت الشعراء المغاربة قاطبة. الشاعر شفيق بوهو اختار لشعره أن يكون نبض قلبه ويسجل خطوه ومسعاه وهو يعبر فضاءات المدينة طولا وعرضا موزعا محباته حينا ومناوشاته حينا آخر. يشغل في مجال الصورة البصرية، ومنها يغذي - وهو يغادر بناية القناة الثانية - مشاهداته علي الصريف والفضاءات اليت يرتادها ليحولها الى صور بيانية فيما يكتبه من نصوص إبداعية تبدو كما لو أنها سيرة ممشى العابر في الروح.. نصوص تحتفي بالحياة و لا تكترث كثيرا للفداحات. فهو كمن «يصحو على خيباته اللذيذة» أو كالمملوء بالرحيل والخارج من سنن القطيع يتوسد رغباته الماكرة». يقول «في عشق الفجر» : «لا أريد من العمر سوى الخروج من عمري وليعمر بعيدا، بعيدا عني. .... خطواتي الحثيثة اعتادت الأسفار - المحدودة، بينما رأسي دوما مهاجرة. .... علي رصيف زقاق ضاج بالأحذية رميت اسمي، علّ، أحد ينتحلني ويغير مجرى أيامي». في هذا الديوان كان الشاعر شفيق بوهو كسن يغنم من الحاضر لذاته بعدما تأكد له أنه ليس من طبع الليالي الأمان، علي حد تعبير عمر الخيام. لكن برغم ولعه بالحياة فهو قلق وحزين حد الضجر أحيانا فيبدو له العالم متاهة «ولا بوصلة إلا للكأس الطافحة» يقول في قصيدة اختار لها عنوان «وجه الأيام» : لي فرح خال من الانشراح حزن يهدهد جراحي. أمنياتي سحب انسكبت على أيامي زورق ورقي على الشاطئ، هو آخر صفحة من سيرة الانهيار لذلك لا يمكن للحانات إلا أن تستقظ باكرا في ذهنه، لأنه بصدد «اقتراف العشق»: «عشق الفجر» و«الرصيف العابر بلا أسمال» و«خيبات العبور» يجتاز «المشهد البديع على خلفيه القيامة» ويظل الليل مستيقظا فيه، لأن «وجه الأيام» مسخ «ويتأوه آه! «ما أضيق الأرض»: لي خلف هذا الباب سرير ضاق بالقوافي وحدة قاسية وتلفزة سوريالية، فوقها صورة أمي الواقعية نكاية بعصافير رأسي. من ذات الألم يظل وجه الأم الحاضرة ضمن تيمات الديوان. فهي الحاظر الغائب والمحرم لكثير من أشجان الشاعر ومواجعه، ويبدو من خلال متنه الشعري أن سفرها الأخير ترك فراغا هائلا في حياته، يقول مخاطبا: انظري أمي. ..... بعدك أنا ريح في صحراء وحدي أهب على وحدي. وفي مكان آخر من الديوان يقول: أريت كيف تخليت عني؟ كم قلت لك وأنا أحمل نعشكك يا أمي، إني مدمن على الالتفات. سمعتك تهمسين: سيظل الليل مستيقظاً فيك إلى أن نلتقي، هل ستلحقني؟ تأخرتَ يا بني.. أختم بالإشارة إلى لغة الشاعر في هذا الديوان، فهي تروم وتسعى إلى تكثيف المعنى في أقل ما يمكن من الكلمات، مع الاعتماد بين الحين والآخر على تكسير بنية الجملة بحثاً عن إيقاع دلالي، وذلك بموازاة مع صور شعرية تقوم على خرق المعتاد والمألوف. في الديوان كثير من السهل الممتنع، بحيث تبدو الجمل بسيطة لكنها تحمل مساحتها الشعرية وصفاء الإحساس الصادق المعبَّر عنه. اللافت للانتباه أيضا في هذا الديوان هو القاموس المستعمل، فهو مديني بامتياز، خاصة المدينة السفلية، إذا أمكن التعبير.. مدينة المساءات والليل والرصيف وألحان وما يرتبط بهذه الفضاءات في الزمان والمكان من علامات وأيقونات. ولعل كلمة رصيف هي الكلمة الأثيرة لدى الشاعر، بحيث نجدها مكررة في العديد من قصائد الديوان، بل يوظفها الشاعر عدة مرات في القصيدة الواحدة، وكمثال: أسوق قصيدة «رصيف بلا أسمال» التي تكررت فيها عن قصد كلمة رصيف ثماني مرات. عموما فيما يتعلق بالمعجم الموظف نستنتج من خلال القراءة أن الحقل الدال على الليل بفضاءاته المعتمة والمضيئة هو الحاضر بقوة، بالإضافة الى المقهى بشخوصه وسلوكاتهم وحالاتهم النفسية: أنت تصر على النبيذ علك تنسى أو تهيِّجُ الذكرى. مازلتَ إذن تتناسل فيك الصور التي تحب والتي لا تحب تفكر في انتظاراتك المؤلمة تفكر في انكساراتك المدوية وتفكر في ما سلخت من أيامك في الختام، أتمنى للشاعر أن يواصل مسيرته الإبداعية. فمزيد من الحفر والإصرار على قوة الشعر والكلمة. هامش: ألقيت هذه الكلمة يوم السبت 15 ماي بالمركب الثقافي سيدي بليوط احتفاء بصدور ديوان: «حانات تستيقظ باكراً في رأسي» في حفل نظمه بيت الشعر في المغرب والقناة الثانية.