متكئا على الاحداث والواقع، باحثا عن الوثائق والبيانات والتصريحات والمواقف، يقودنا استاذ التاريخ المعاصر بجامعة العلوم السياسية بميلانو الايطالية رومان راينيرو من خلال كتابه «السياسة العربية لموسولوني خلال ا لحرب العالمية الثانية» إلى قراءة زمن طويل وحارق عاشه العالم العربي، الباحث وقتذاك عن طريق تقوده الى الاستقلال. الضفة الجنوبية المطلة على الجنوب الايطالي، مجالا واسعا للاهتمام والدراسة. بل قبل ذلك بسنين كثيرة، وتحديدا في 23 مارس من سنة 1919 حين اعلان تأسيس الحركة الفاشية في ساحة سان سيبولكرو، كان العالم العربي، حاضرا في خطابات صناع الحرب بايطاليا.اذ كانت تضاريس وهضاب ومستقبل هذه الضفة، تحرك لديهم مشاعر خاصة، مشاعر عناوينها الظاهرة هي اخراج العالم العربي من زمن الاستعمار ومساعدته ماديا وعسكريا لتأهيله ليكون فاعلا و مساهما وقادرا على صنع تاريخه. و في الخفاء كان يشكل هذا المجال، ارضا لمعركة محتملة. الكتاب هو سفر حقيقي الى تفاصيل العلاقات السرية والعلنية بين العالم العربي وايطاليا، عبر وثائق وتصريحات ومواقف اطراف وشخصيات. ساهمت في صنع مرحلة مشتعلة في زمن حرب خلفت الملايين من القتلى والضحايا. موسوليني، احد الفاعلين الاساسيين في زمن الحرب المدمرة، كان له تصور خاص عن هذا العالم الجنوبي، كانت له رهاناته الكبرى، في إدخال هذا العالم الى حظيرة الصراع والحرب عبر مخطط طويل ومحكم، مستحضرا كل الارقام والمعادلات المساعدة في اشعال فتيل عداء العرب للقوّى الغربية (فرنسا - انجلترا تحديدا) وذلك عبر سياسة دعائية تضرب في العمق دواخل المسؤولين والقادة العرب، من خلال التأكيد على أن هذه القوى، ساهمت وصنفت كيان الدولة الصهيونية بقوة السلاح، وجرحت في الصميم عالما عربيا تتفاعل، بداخله قوى ناهضة ومستعدة للجهاد وللحرب. فعند استقبال موسولوني للمفتي الاكبر في 31 اكتوبر سنة 1942، اعلن الزعيم الايطالي، في كلمة بمناسبة الاستقبال أن «ا لعرب لهم كل الحقوق في ان يكونوا مستقلين، وان يستغلوا ثرواتهم، وان يطوروا موانئهم المطلة على المتوسط وان يمارسوا نشاطهم التجاري بكل حرية، وانا مستعد ان اقوم بكل الجهود لمساعدتهم سياسيا وان امدهم بالسلاح». كانت ايطاليا في سياق استراتيجيتها السياسة والعسكرية تبحث عن موقع مؤثر في خريطة الشرط الاوسط وشمال افريقيا، بالنظر الى الاهمية التي تحتلها هذه المنطقة الواسعة، وثانيا ايجاد منفذ للصراع بين ايطاليا ومن خلال دول المحور وبين القوى الاخرى المقابلة والحاضرة في المنطقة كانجلتراوفرنسا والولايات المتحدةالامريكية في زمن لاحق. السياسة الخارجية الايطالية، لم تقف فقط عند العالم العربي وشمال افريقيا، بل اهتمت ايضا بمناطق أخرى عميقة وبعيدة عن المتوسط، كدول آسيا وتحديدا الهند وبيرمانيا، عبر سياسة شمولية وكونية وضع عناوينها الكبرى الجنرال غاريبالدي، وكانت هذه السياسة مرتكزة أساسا على خلق ألوية وخلايا عسكرية، مهمتها الاولى اشعال المعارك الصغيرة والثانية، كسب الدعم الواسع من طرف الجماهير، لفتح الباب نحو الاستقلال. وقد عملت ايطاليا وقتذاك، على تزويد هذه الخلايا، بأسلحة جلها خفيف، لايمكن ان يحسم الصراع، بالنظر الى الترسانة العسكرية الكبيرة التي كانت في يد الحلفاء، سواء بالشرق الاوسط الذي كان الانجليز متحكما فيه، او سواء في بلدان المغرب العربي التي كانت فرنسا قد جعلت منه قلعتها الخلفية وأحد أهم المقالع البشرية الداعمة لها في حربها الكبيرة ضد دول المحور. لذلك وبحكم هذه المعادلة غير المتكافئة، ظل العالم العربي يترنح بين مسارين متقاطعين: مسار يقوده الى تحقيق الطموحات ولكن بأقل وأضعف الادوات، ومسار آخر ضاغط وحاضر بقوة السلاح يبعده عن الغايات والاهداف التي تطمح إليها الشعوب العربية. وقد اعتبرت سياسة موسولوني الخارجية، تونس مفتاحا مهما في هذه الخريطة، واهتمت بشكل كبير بالعناصر المحركة للصراع داخل تونس، وفي المقدمة نجد الزعيم الدستوري والمحامي الحبيب بورقيبة، الذي ساهمت ايطاليا وبشكل مباشر في إطلاق سراحه من سجون فرنسا التي حكمت عليه في أبريل 1938 بتهمة التآمر على الامن الداخلي للدولة. وطال مسلسل المحاكمة حتى حدود سنة 1939، التي اعتبرت بورقيبة متورطا، وظل الزعيم الدستوري في السجن الى سنة 1940. وبعد هزيمة فرنسا، نقل الزعيم الى مرسيليا في سجون سان نيكولا حيث ظل هناك الى سنة 1942. وتم نقل بورقيبة بعد ذلك الى سجن ليون، لكن الاجتياح الالماني لفرنسا، ساهم بشكل كبير في فتح ابواب السجن امام هذا القائد الصاعد الى مسرح الاحداث بقوة لاتضاهى. وكان يعتقد الالمان والايطاليون، أن بورقيبة سيكون مساندا لهما، مدافعا عن وجهة نظرهما وقرارهما لكن وكما تقول سطور التاريخ، ان بورقيبة ظل محافظا على استقلالية تفكيره وعلى مطالب الاستقلال لبلاده. كثيرة هي المعطيات والتفاصيل التي تحدث عنها مؤلف الكتاب وأستاذ التاريخ المعاصر بجامعة ميلانو. تفاصيل تقود الى الكشف عن خبايا السياسة الخارجية الايطالية في هذه المنطقة المطلة على الجنوب الذي يعيش تحت سلطة الاستعمار الفرنسي والانجليزي. كتاب «السياسة العربية لموسوليني خلال الحرب العالمية الثانية» يعتبر نافذة واسعة لمعرفة الصراعات والادوات التي كانت متحكمة في عالم يعيش حربا عالمية تتصارع فيها قوى تملك ترسانة عسكرية مدمرة. الكتاب يحتوي على العديد من المعطيات والعديد من التفاصيل التي تهم المهتمين والباحثين في تاريخ العرب المعاصر. ويحدد الملامح الاولى للنخب والزعماء العرب الذين قاموا بأولى الخطوات نحو الاستقلال.