كان الحداني يحس و يبحث، و في أشعاره أيضا، كان يعبر عما أحس به و راقه، و لم يكن يوظف موهبته لغاية التبجح أو الاستعلاء، كما يفعل الكثير، بل كان له مشروعه الفني الذي يراه سبيلا للنهوض بالموسيقى المغربية. كان همه هو التفكير في قضايا الحياة الاجتماعية، و رصد ملامحها الإنسانية التي تشكل حسب تصوره الأساس الإبداعي. و لهذا السبب اكتسبت طريقته الإبداعية صفات جديدة في أعماله الشعرية في العقود الأخيرة من القرن الماضي. هذه الأعمال التي صور فيها برهافة و قوة و مهارة الطبيعة و الوجود الإنساني و سعى فيها إلى النفاذ إلى أسرار الحياة الإنسانية من دون تنميق أو ادعاء أو كبرياء. لم يولد الحداني إنسانا عاديا، بل ولد شاعرا و فنانا. إن الفن وحده هو الذي أعطاه الإمكانية للعيش بصورة إنسانية. فشخصه الفني لم يكن متفوقا على شخصه الإنساني، فهو قد نشأ من الفئات المتواضعة العيش و اجتاز في بعض مراحل حياته فترات قاسية، و تمكن في النهاية من تحقيق إنسانيته و حلمه الفني. لقد تغير تاريخه منذ الوهلة الأولى التي انتزع فيها اعترافا بإبداعاته و حظي فيها بالاهتمام النابض بالحياة من قبل محبيه. كانت تجتمع في الحداني شخصية الشاعر الرائعة و شخصية الإنسان المتواضعة . و على هذا الأساس، كان هذا الشاعر يعيش حياته، و كانت غاية سعادته أن يرى الانطباع الصادق الآتي من أناس لا يعرفهم و الذي يرفع من قدره و يحفزه على المزيد من العطاء و يدفعه إلى تطوير أفكاره الشعرية و الكشف عن العملية الإبداعية من خلال النشوة الروحية التأملية. كان الحداني فنانا حديدي الإرادة، يجتمع في نفسه أفضل صفات الفنان المنضبط و الفنان البوهيمي. و اختلف عن الفنانين الذين عاصروه بخصوص قيمة الدور الذي يجب أن يلعبه الفنان في العملية الإبداعية. و طبيعي انه لم يكن له خيار آخر سوى أن يعتمد على نفسه و أن يفهم الوضع كشاعر و فنان من دون أن يقاوم من يريد أن يضع الحاجز في طريقه. كان لا ينجر إلى أتفه التفاصيل، لأنه كان يدرك أن الساحة الفنية لا تبدو بسيطة و لاشيء مصاغ فيها بدقة. و لعل السبب في بروز نجمه و تألقه في عالم الفن هو تلك الطاقة الفنية التي تميز بها ووجدت من محبيه ترحيبا، و لقيت منهم تشجيعا. ظل يتذكرها و يسعد بها طوال حياته. كانت شاعرية الحداني نتاج الفن الجميل الذي اتخذه عقيدة له و نتاج تلك المعرفة التي راكمها من خلال ذلك الخضم الزاخر من التراث المغربي. كان يعتقد بأن الفن هو إحدى وسائل التعامل و أن الإنسان يمكنه بواسطة الفن نقل أفكاره و مشاعره. إن الإحساس بالجمال، وبخاصة جمال العبارة و جمال الفكرة، كان إحساسا يخصه و سمة تميزه. إن الحداني الذي كتب عن طراز حياة المغاربة و عاداتهم بفنية عالية، كان يرى أن الفنان، كان شاعرا أو موسيقيا، إذا هو لم يستطع ربط الجمال بالحياة لبناء عمله الإبداعي، فإن حياته الفنية ستنتهي لا محالة و سيؤول عمله إلى الإخفاق المحتوم. كان الحداني و ظل إلى آخر أيام حياته شاعرا كبيرا و فنانا كبيرا، محبا للحياة الفنية بصورة لا توصف. كان في حياته كلها فنانا نقيا من حيث السلوك الإنساني و الفني. لكنه كان يطرح بصراحته المسألة الفنية و يتحدث فيها بمنتهى الجرأة. و من الواضح أن صراحة الحداني تزداد بازدياد تأثيره لأنه كان مسؤولا تجاه ضميره و لأن هذه المسؤولية تصدر عن ذاته و لا تتوقف إلا عند ضميره. و لهذا، كان مطمئنا لحاله و معتزا بموهبته و أمينا مع نفسه و مع الغير على حد سواء. و هذه هي مزايا هذا الشاعر الغنائي الذي استطاع أن ينطق بلهجة المغاربة و أن يضيء الطريق للذين يقتفون أثره. لم تخل بعض قصائد الحداني من ملمح سياسي، و قد قيل الكثير عن هذه المسألة، و انه ليصعب علينا اليوم أن نتخيل ما تملكنا من دهشة عندما سمعنا ) الحافظ الله ( و ) الله معاك ( و ) وسام الإنسان ( و ) مافهمونيش ( و ) السور(... التي كان لها وقع لدى الرأي العام الفني في زمن كان بعض معاصريه من الفنانين تعوزهم الشجاعة. لقد لقي الحداني الكثير من العنت في حياته، لأنه كان لا يكتفي بموقف المتفرج إزاء أحداث عصره، بل كان يقف إلى جانب القضايا العادلة و بخاصة الفنية منها، فاضطلع بمهمة الفنان العصامي في اختيار طريق التجديد و إعادة النظرة إلى الفن المغربي و إحيائه من جديد ناظرا إلى المستقبل بأمل كبير كتب الحداني من اجل المتلقي الرقيق الذوق، و كان من الممكن أن تكون كتاباته أفضل فيما لو استفاد في أواخر أيامه من رعاية و سند من جانب المؤسسة الفنية. إن ضيق دائرة الرعاية و الإحباط الذي قلم أجنحة الفن و غياب معايير تقويم المؤلفات الفنية لم تتح للحداني عقد صلات مباشرة مع عالم الفن الذي هو في نهاية المطاف مسعاه الروحي. إن اعتزاله و الضيق بالدنيا و الاستسلام لإغراء العزلة يرجع إلى غياب الفرصة لديه لكي ينتج عملا فنيا خليقا بالاهتمام. و ما أصعب أن لا يوجد للفنان مثله يملك حب الكتابة و لم يستطع أن يرضي رغبته في الاستمرار في الكتابة و أن يحقق أمله الفني. إن القلق العميق الذي انتابه حال بينه و بين قول ما يريد و كبحت موهبته من أن تتدفق. من يقرأ أعماله الشعرية سينتهي حتما إلى خلاصة، مفادها أن الحداني كان صاحب عبارات سليمة و دسمة، تتضمن مواقف يرتفع فيها هذه الشاعر عن الأعمال الرديئة و يتجلى إلى أن يبلغ درجة كبار المبدعين في فن الزجل سياقا و تصويرا و تحليلا. و يبقى لا بد من الاعتراف بأن شعر الحداني المبني على قضايا اجتماعية، كشف لنا من خلالها صور حياة المغاربة و أثار فيها من المسائل ما يوجب إضاءة الطريق إلى حلها و صور فيها حقبة من حياته و من ملامح نفسه. و بهذا، يكون هذا الشاعر قد أدى دور الفنان الشاهد على عصر كان فيه الإبداع صادقا و صريحا وقويا. إن ظاهرة الحداني، إنما تدل على شيء واحد هو أن علاقة هذا الشاعر بالحياة الفنية كان فيها سر ما و هذا السر هو حبه الشوفيني للأغنية المغربية و سعيه إلى إخراجها من الطوق المحلي و التحليق بها خارج تخوم الوطن، غارسا في صدور الأجيال أغراس هذا الحب و هذا السعي، و من يعرفه عن كثب سيقر بالضريبة التي دفعها من أعصابه من أجل هذا الطموح المشروع لكن رحيله المبكر و غروب شمسه سيؤدي إلى انطفاء هذا الحلم و بالتالي سنفقد معه شاعرا متميزا لو قدر أن تفتح له السبل لكان حلمه وثبة للمستقبل الفني لهذا البلد و مع ذلك، فالنهاية التي وقف عندها الحداني يمكن أن تنير لنا السبيل إلى غد موسيقي يجمع بين العمق و بين الجمال. و قد أشار إلى هذا الغد في إحدى قصائده بالقول « كنت نقول أنت أملي..و السعد اللي كنتمناه..و نرسمك فرحة في بالي..يهنا بالي نرتاح معاه..خدعتموني أنت و خيالي..و خدعني حلم جريت وراه..لقيتك مانتاش ديالي..أو دياليو الغير خداه..».