الفقه الإسلامي، واحد من القوالب التي تستعاد من أجل الإجابة عن أسئلة العالم الحديث، وفي تاريخ الفقه الإسلامي ومع الشافعي تم ترسيخ النص الديني بوصفه المرجع النهائي لكل ما تفرزه الحياة الإنسانية. وهو انطلق من مقولة الشافعي التي يقول فيها «ما من نازلة إلا ولها في كتاب الله حكم» وانتقالها إلى كل المذاهب الإسلامية، أصبح النص القرآني المرجع النهائي وكتاب الحلول لكل المشكلات أو النوازل التي وقعت في الماضي، والتي تقع في الحاضر، أو التي ستقع في المستقبل، ما أعطى المفسرين والفقهاء سلطة غير محدودة في استنباطهم أحكام النوازل من النص القرآني، وجعل هؤلاء وسطاء بين البشر وربهم، حيث تكون فتاويهم أوامر إلهية. ساد هذا المبدأ التاريخ العقلي والفكري العربي والإسلامي في أسوأ مراحله التاريخية، ويستعاد اليوم من تلك الأيام. وهو يتردد اليوم في الخطاب الديني بكل اتجاهاته. عمل هذا المبدأ على تحويل العقل العربي إلى عقل يقتصر دوره على تأويل النص لإيجاد حلول للمشاكل المطروحة. وهذا ما يسوغ تدخل رجال الدين في كل الشؤون الدنيوية. ويقوم التدخل على قاعدتين رئيسيتين: القاعدة الأولى، هي أن القانون الإلهي الذي جاء في كتاب الله هو ما ينبغي التقيد به وتطبيقه في إيجاد الحلول للشؤون الدنيوية، وليس القانون الإنساني. أما القاعدة الثانية، فهي أن القانون الإلهي ليس واضحاً في جميع الحالات، لذلك، فهو بحاجة إلى تأويل لاستكشاف خباياه. هذا الاستكشاف ليس متاحاً لكل البشر، ولا يملك هذه القدرة سوى حفنة خاصة من البشر. تفترض القاعدتان أن القانون الإلهي لا الإنساني هو الذي يحكم حياة البشر، ولا دور للإنسان في اشتقاق أحكام حياته في مسارها وتناقضاتها وتجاربها. فعلى الإنسان تقع مسؤولية معرفة القانون الإلهي، كما جاء في الكتاب، وضمان العمل بموجب مضمون هذا الكتاب. والإنسان الذي تقع عليه مسؤولية اشتقاق الأحكام يجب أن تتوفر فيه صفات خاصة تؤهله أكثر من غيره لمعالجة النصوص الإلهية واشتقاق القانون الإلهي وتنفيذه وفقاً للمبادئ الإلهية. إن «الحاكمية لله» هي القاعدة التي تحكم طبيعة الأحكام الدينية، وإن دور الإنسان مجرد دور تنفيذي. وهو المبدأ الذي يحكم سلوك الحركات الأصولية، ويحكم تصوراتهم عن المجتمع الذي يسعون إلى بنائه. وهو ما عبر عنه سيد قطب الأب الروحي للحركات الأصولية «بأن الجاهلية هي بالضرورة الخضوع لحكم البشر، لأن الحاكمية هي، مفهومياً، حكم الله». بمزاوجة مفهوم الحاكمية مع مفهوم «الفرقة الناجية» عند الحركات الأصولية، يتم إنتاج جماعة مغلقة تكفيرية. جماعة يحولها مبدأ «الحاكمية لله» إلى جماعة تدعي لنفسها الحق في تمثيل إرادة الله وتنفيذها، وهي تدعي أيضاً أن من حقها تولي زمام الحكم على أساس احتكارها معرفة مضمون القانون الإلهي ومستلزماته العملية، وامتلاك أعضائها للصفات والفضائل اللازمة لتنفيذ أوامر ونواهي الله. إن جماعة كهذه، يكمن مبرر وجودها في اعتقادها أنها وحدها المؤهلة لتنفيذ إرادة الله في الأرض، وهي وحدها القادرة على تنفيذ أوامر الله ونواهيه عبر العنف. إن توحيد ادعاء الحركات الأصولية مع إرادة الله، يجعل أيديولوجيتها مطلقة، ويسمح لها بالادعاء بأنها تمتلك حقائق مطلقة صالحة لكل زمان ومكان، وهي المرجع الأخير والنهائي لكل المسائل الدنيوية. إن اعتبار الحركات الأصولية لنفسها صادرة عن إرادة الله، من خلال مجموعة من المطلقات، يجعلها تتعامل مع القضايا السياسية والثقافية والاجتماعية بمنطق التحريم والتجريم وفتاوي الردة والكفر، وليس بمنطق الجدل والحوار والنقاش المفتوح. وبطبيعتها لا تنمو في هذه الأجواء سوى الثقافة المغلقة التي تعدم مساحات الحرية وتطوقها بمقولات التحريم والتجريم، وهو ما يعني إخضاع المجتمعات والتضييق عليها، من خلال الادعاء بأن كل ممارسة بشرية يجب أن تحظى بفتاوى التحليل، وإلا تجد التحريم في انتظارها ويخرجها من دائرة القبول في المجتمع المحكوم بالآليات المغلقة للفكر المغلق على ذاته. ففي الأسابيع الماضية تعرضت ثلاثة فنادق في العاصمة إلى هجوم انتحاري أسفر عن مقتل 41 شخصاً، كما قُتل في الشهر الماضي 120 عراقياً في تفجير سيارات مفخخة، وجُرح ما لا يقل عن 500 شخص، ولم يمر شهر أكتوبر دون تفجيرات دامية، حيث استُهدفت وزارة العدل ومجلس البلدية بهجوم مروع خلّف 132 قتيلا وأكثر من 500 جريح. وقبل ذلك خلال شهر أغسطس سقط مائة شخص في تفجيرات متفرقة هزت وزارتي الخارجية والمالية. ويقول المسؤولون الحكوميون ورجال الأمن إنهم أحبطوا خلال الشهر الجاري هجمات أخرى كانت تستهدف وزارة الثقافة، ومقر بلدية بغداد... وهو ما دفع الحكومة إلى تشديد إجراءاتها الأمنية عبر تكثيف نقاط التفتيش ووضع مزيد من القواطع على الطرق لمنع تسرب الإرهابيين إلى وسط بغداد الذي يمتد على مدى 15 كلم، حيث تنتشر معظم الوزارات والمقار الحكومية، لكن يبدو أن هذه الإجراءات لم تسهم في تهدئة مخاوف الموظفين الحكوميين وتطمينهم على حياتهم. ولتحصين المباني الحكومية قام المسؤولون الأمنيون بإحاطة وزارة الزراعة بسور عال يصل ارتفاعه إلى ثلاثة أمتار ومبني بمواد مضادة للتفجيرات، كما نُشر العشرات من الحراس، وعُززت المراقبة على نحو خاص في مداخل الوزارة ومخارجها بوضع أكياس رملية تفادياً للتفجيرات، أما النوافذ الزجاجية فقد تمت تغطيتها بطبقة سميكة من المواد المضادة للتفجيرات، لكن رغم كل ذلك تقول "علا موسى"، الموظفة بالوزارة، إنها عندما تأتي كل صباح إلى عملها فكأنها تدخل إلى السجن، موضحة ذلك بالقول: "كل يوم عندما تبدأ الرحلة إلى الوزارة يتسرب الخوف من تفجير الوزارة إلى قلبي، ورغم الإجراءات الأمنية المشددة، لا أعتقد أنها كافية لحمايتنا في حال حدوث انفجار، ولا توجد إجراءات نتخذها سوى أن نسلم أمرنا لله تبارك وتعالى". ولا يختلف رأي الموظفة "أطياف صلاح" عن زميلتها في نفس الوزارة، حيث تقول إنها بعد التفجيرات التي استهدفت وزارة العدل قبل أشهر، قررت كتابة وصيتها ليتعهد زوجها برعاية أبنائهما في حال قتلت بسبب أحد التفجيرات. ورغم تأكيد المسؤول عن أمن وزارة الزراعة، الرائد ماهر الشمري، أنه قام بكل ما يلزم لتأمين الوزارة ومنع حدوث تفجيرات، إلا أنه يعترف أنه حتى أكثر الإجراءات الأمنية تشدداً لا يمكن أن توفر حماية مطلقة من خطر التفجيرات الانتحارية. وفي هذا الصدد يقول: "لقد زدنا في عدد الأسوار المقاومة للتفجيرات، وأغلقنا جميع المنافذ الإضافية، ولم نترك سوى منفذ للدخول وآخر للخروج، ونشرنا عدداً أكبر من آلات الرصد"، مضيفاً أنه سيغلق حتى النوافذ الزجاجية خوفاً من تهشم الزجاج وتعريض حياة الموظفين للخطر، ويؤكد الشمري أنه نفسه ليس بمنأى عن الخطر، بحيث يضطر إلى تغيير طريق عودته كل يوم تفادياً للاستهداف، ويقوم بتفتيش سيارته على نحو منتظم للتحقق من عدم تفخيخها. ومع أن الرائد الشمري لم يكن موجوداً في مكتبه عندما هز الانفجار وزارة العدل قبل عدة شهور، إلا أنه لا يخفي توجسه مما قد يحصل في المستقبل، قائلا: "يلازمني القلق كلما وصلت إلى مكتبي، رغم أننا انتقلنا إلى مكتب آخر أكثر أمناً، ذلك أني لا أعتقد بأن هناك شيئا سيحول دون قيام المسلحين بعمليات أخرى لاستهداف المباني الحكومية، بما فيها إعادة استهداف وزارة العدل مرة أخرى". وفي وزارة النقل تم وضع ثماني كاميرات على السطح لمراقبة المحيط ورصد اقتراب العربات المشبوهة، وحسب المسؤول عن أمن الوزارة، حسن تويني، تم إنشاء المبنى بطريقة تمتص التفجيرات، وذلك بوضع مادة معينة بين الجهة الخارجية للنوافذ والجهة الداخلية لمنع تهشم الزجاج، لكن رغم ذلك يتخوف حسن من أن ارتفاع أسوار الوزارة لن يقيها من قذائف الهاون التي يطلقها المسلحون، قائلا: "هناك خوف لدى العراقيين من تدهور الوضع الأمني وحدوث انفجارات أخرى، لكن العراقيين تعلموا العيش مع الخوف، وعندما تهدأ الأوضاع لفترة من الزمن ينسون أنفسهم ويعيشون حياتهم بصورة اعتيادية". هذا ويؤكد حسن أن الحكومة تقوم بما تستطيعه لتوفير الحماية للعراقيين ولتأمين المقار الحكومية في بغداد، مشيراً إلى أنه يتوقع "بعض الانفجارات التي قد تسبق موعد الانتخابات، لكن ماذا يمكننا أن نفعل؟" عن «إم. سي. تي. إنترناشونال»