السلطوية ظاهرة تتفشى في كثير من نظم التربية والتعليم في الوطن العربي، ولكنها لم تنل الاهتمام اللازم من الدارسين العرب، ومن هنا تبرز أهمية وقيمة كتاب »السلطوية في التربية العربية« من تأليف د. يزيد عيسى السورطي الصادر ضمن سلسلة »عالم المعرفة« الكويتية بتاريخ 2009، في سياق تتعالى فيه أصوات عربية تدعو إلى مراجعة التربية العربية، وإعادة النظر فيها وتحريرها من كل أشكال التسلط والعنف والقهر، لكون السلطوية في التربية تعيد إنتاج التسلط وتضعف النظام التعليمي. والكتاب يهدف إلى إلقاء بعض الضوء على السلطوية في التربية العربية من خلال تعرف مظاهرها وأسبابها والنتائج المترتبة عنها من استيلاء أنماط أخرى من التسلط، وإضعاف النظام التعليمي، وتسهيل الغزو الثقافي وإضعاف التنمية وإعاقة الإبداع. وسأكتفي في هذه الورقة المقتضبة، بإبراز أهم الأفكار الواردة بشكل خاص في سياق تحليل الكاتب لمظاهر السلطوية في العملية التعليمية التعلمية، مُرجئاً التطرق لباقي فصول الكتاب إلى مناسبات لاحقة.. وأول مظاهر السلطوية التي توجه إليها الكاتب بالنقد هي طرق التدريس المتبعة في معظم المؤسسات التعليمية بالوطن العربي، مركزاً على طريقة التلقين الموظفة في التدريس التي تنحصر فيها أدوار التلاميذ والطلاب في الحفظ والتذكر، واستقبال المعلومات وتخزينها لاسترجاعها في الامتحانات. وكثيراً ما يرتبط التلقين في المدرسة العربية بغياب التعزيز والمكافأة وسيطرة العقاب البدني مما سيؤدي إلى الخضوع وجعل المتعلم (ة) أكثر إذعاناً وغير قادر على الإبداع والتجديد والتعلم الذاتي. ولا يقتصر شيوع التلقين على ساحة التعليم المدرسي، بل يتعداها ليشمل التعليم العالي والجامعي الذي يعتمد بدوره أسلوب المحاضرة الذي يقوم على التلقين. وفي رأي الكاتب، فالتلقين طريقة تدريس قد تعمِّق التسلط وتغرس الاستبداد وتفرض هيمنة المدرسات والمدرسين، مما يؤدي إلى اعتماد التلميذ (ة) والطالب (ة) الترديد والحفظ وغياب هامش التساؤل والفهم والنقد، ويقود إلى القبول بدون اعتراض، ويصبح العقل عاجزاً عن التحليل والمعرفة. وتمتد السلطوية أيضاً إلى المناهج الدراسية، ومن أهم تجلياتها في المناهج العربية سيادة المفهوم التقليدي للمنهج الذي يُقيد المتعلمات والمتعلمين والطلبة بالكتاب المقرر الذي يصبح بدوره المصدر الأوحد للمعرفة، مما يؤدي إلى انتشار التلقين والحفظ في معظم المدارس العربية. ومعظم محتويات تلك المناهج المفروضة على التلاميذ والطلاب لا تلبي احتياجاتهم ولا تلائم استعداداتهم وقابلياتهم، لكونها غير ملائمة لواقع المتعلم (ة) وبيئته الاجتماعية والاقتصادية، ولا يمكن أن تعده لمواجهة الحياة العملية. وقد أشار الكاتب إلى دراسة أنجزها أحد الباحثين على بعض الكتب المدرسية العربية، واستنتج أن تلك الكتب لا تحاول أن تقدم من خلال تفسير الأحداث وجهات نظر متعارضة للإلمام بجميع الجوانب، بل تعوِّد التلميذ (ة) والطالب (ة) التفسير الواحد والرأي الواحد، والذي هو سمة سلطوية بارزة من سمات عدد من المناهج العربية التي تفتقر إلى الوسائل التي تؤدي إلى تنمية شخصية المتعلم (ة) والطالب (ة) بشكل متوازن ومبدع. كما أن المناهج الدراسية العربية قلما تراعي الفروق الفردية بين المتعلمين لاختلافهم في القدرات والاستعدادات والحاجات والميول والاتجاهات ودرجات تحصيلهم وذكائهم مما يقتضي في رأي الكاتب، تقديم تعليم يراعي الفروق الفردية بين المتعلمين، وتنويع الأهداف التعليمية ومحتوى التعليم، وأساليب التدريس وطرقه وأنشطته، تجاوزاً للمفهوم القديم للمنهج الذي يعتبر المنهج مجرد مقرر دراسي يتمثل في كتب دراسية مقررة. أما بالنسبة للسلطوية في التقويم التربوي، فيخلص الكاتب بعد تحليل مظاهره إلى أن التقويم في بعض البلدان العربية يوظف أسلوب الامتحانات، وخصوصا ما يتصل بقياس مدى حفظ التلاميذ للمادة الدراسية، وكثيراً ما يغلب عليه الحكم الذاتي، بعيداً عن الشمولية والاستمرارية والموضوعية، وعدم القدرة على التشخيص والعلاج والوقاية بالإضافة الى تأثير الامتحانات على الحالة النفسية للتلاميذ والطلبة، إلى جانب ما تشيعه من إرهاق المدرسات والمدرسين والأسر، وإرعاب التلاميذ والطلبة والتحكم في مستقبلهم ومصيرهم وإضعاف قدراتهم. ولتطوير عملية التقويم في الوطن العربي، يقترح الكاتب اتخاذ اجراءات منها: تنويع وسائل التقويم لتشمل البطاقات المدرسية والمقابلات والبحوث وتحضير الدروس... تطوير الاختبارات المدرسية بالتركيز على التفكير والتحليل وإثارة المشكلات والبحث عن حلول لها، والمقارنة والبحث والاستنباط... مع تدعيم ذلك بتطوير أساليب التدريس وطرائقه. اعتماد التقويم المستمر المصاحب لعملية التعلم، مع مراعاة الفروق الفردية بين التلاميذ وشمولية التقويم، واعتباره وسيلة لتحسين عملية التعلم، وتشخيص المشكلات التربوية وعلاجها.