قراءة في عقلية شركات الإنتاج السينمائي: كولومبيا بيكترز في شفرة دافانشي نموذجا عندما اختارت شركة الإنتاج الأمريكية الضخمة كولومبيا بيكترز أن تقوم بالمعالجة السينمائية لرواية "شفرة دافانشي" لصاحبها دان براون لم تكن تجهل بتاتا القيمة العلمية لهذه الرواية التي لا ترقى إلى العمل التاريخي بمفهومه الأكاديمي و لا تراعي أبسط مقتضيات البحث العلمي، و لكن في المقابل كانت تعلم جيدا أن المجتمع العالمي حاليا، بصفة عامة باستثناء النخبة، له ثقافة تتشاءم من كل ما هو عقلاني علمي و له ميول طبيعي نحو ما هو روحاني أسطوري خرافي و تعلم أيضا أن الدين لا يزال ، كما كان من قبل، أهم قضية يمكن أن تشغل الناس في كل أنحاء العالم. لم تخطئ كولومبيا بيكترز في تقديراتها حيث حقق الفيلم أكثر من مائة مليون دولار في خمس دول فقط، أثناء العرض الافتتاحي(عطلة نهاية الأسبوع) وهذا رقم كبير يضعه في مصاف الأفلام الضخمة. و لهذا السبب نجد أن معظم شركات الإنتاج ما زالت تتجه نحو التيمة الدينية لتحقيق المزيد من الأرباح، و لا ننسى الجدل الواسع الذي خلفه شريط "آلام المسيح" لميل غيبسون في جميع مناطق كوكبنا و هيج مشاعر المسيحيين وألهب حماستهم، وأغضب اليهود بدرجةٍ ما وعاد على صاحبه بأكثر من 250 مليون دولار تساوي عشرة أضعاف التكلفة الأساسية للفيلم كما لا ننسى نزوع السينما الإيرانية مؤخرا إلى تجسيد بعض الشخصيات الدينية كشخصية يوسف و النبي محمد و الحسن و الحسين بغرض الربح و لا شيء آخر. وللتأكد من نجاح الفيلم قامت كولومبيا بيكترز بتجنيد طاقم متكامل من المستوى الرفيع لإنتاج عمل سينمائي في أحسن حلة: الإخراج: تكلف بمهمة الإخراج رون هوارد المخرج الكبير الفائز بجائزتي أوسكار لأفضل فيلم وأفضل مخرج عن فيلم "عقل جميل" سنة 2001 و شاركه في جائزة أفضل فيلم المنتج بريان غريزر الذي يشاركه إنتاج شفرة دافنشي. وله مع طوم هانكس فيلم "ابولو 13" في عام 1995 وكان هو أول من منح هانكس دور البطولة في فيلم سبلاش عام 1984، وهناك أيضاً أعمال أخرى مميزة وحائزة على جوائز أخرى من مهرجانات في مناطق مختلفة حول العالم. التشخيص: حجز دور البطولة للمثل الكبير توم هانكس الذي فاز من قبل بأوسكار أفضل ممثل لمرتين متتاليتين (1993-1994) وكانت هذه هي المرة الثانية فقط في تاريخ الأوسكار بعد سبنسر تريسي (1937-1938). أما دور الفرنسية صوفي فلم يكن أحد ليؤديه أفضل من أودري توتو، الحائزة على جائزة سيزار (الجائزة الفرنسية الموازية للأوسكار) لأفضل ممثلة واعدة في العام 2000 قبل أن تنال ترشيح أفضل ممثلة عام 2002 و 2005. دور بيزو فاش نقيب الشرطة القضائية الفرنسية المحترم والجاد والصارم أوكل للمثل الفرنسي الكبير جان رينو الحائز على ثلاثة ترشيحات لجائزة سيزار، وجائزة أفضل إنجاز أوربي في السينما العالمية عام 2000 من مهرجان الفيلم الأوروبي. السيناريو: كتابة سيناريو الفيلم أوكلت إلى اكيفا جولدسمان الذي قام من قبل بكتابة سيناريو افلام : "الرجل السندريلا 2005" و"أنا روبوت 2004" و"عقل جميل 2001" الذي اخرجه رون هوارد. التأليف الموسيقي: أوكلت مهمة التأليف الموسيقي للموسيقار الكبير هانز زيمر الذي نال ستة ترشيحات أوسكار وفاز منها بواحدة. أما جائزة الجمعية الأمريكية للمؤلفين والناشرين الموسيقيين فقد فاز بها للسنوات الخمس الماضية عن أفلام ناجحة في شباك التذاكر. 1- نبذة حول الشريط داخل متحف اللوفر بباريس، وضمن أجواء بوليسية غامضة تبدأ رواية شفرة دافنشي بجريمة قتل أمين المتحف (القيم سونير) أحد الأعضاء البارزين في جماعة "سيون" السرية والذي ترك رسالة خلف لوحة ليوناردو دافنشي إلى حفيدته صوفي(الإخصائية في علم الشفرات) ضمنها كل الرموز السرية التي يحتفظ بها، وطالبها بالاستعانة في حل الشفرة بالبروفيسور "لانكدون" أستاذ علم الرموز الدينية بجامعة هارفارد. من خلال البحث عن القاتل تتطور الأحداث بين قوتين متناقضتين، قوة الخير متمثلة في الشابين الجميلين بنت المحافظ المقتول صوفي نوفو و الأمريكي روبير لانكدون. يعاكسهما في تحقيق الهدف كل من الشرطة و قوى الشر. عليهما التملص من هذه القوى و فك، بصفة تدريجية، الرسالة المشفرة التي تركها السيد سونيير. كان سونيير يود تبليغ السر، و كان يعلم أنه مهدد بالموت من طرف جهة ناقمة، لهذا السبب طلب لقاء مع حفيدته و صديقها الأمريكي المتخصص في فك الرموز السرية. كان يود أن يبلغهم السر, كان لديه الوقت لقول السر و لكنه فضل أن يزودهم بمعلومات مشفرة و عليهم فك لغز الشفرة. قوى الشر ثنائية، من جهة توجد المؤسسة الكنسية على شكل مجتمع سري لوبيس داي (l'Opus Dei) تتحرك عبر شخص مجرم يسير بطريقة عمياء من طرف حبر. من جهة ثانية نجد شخصية غريبة و هو الأستاذ الذي لا نتعرف عليه إلا في اللحظات الأخيرة من الشريط، يجتمعان حول هدف واحد لوبيس داي يعمل من أجل عدم تفشي السر بينما الأستاذ يريد سرقة السر الذي يرجغ إلى العصور الأولى للمسيحية. و هناك قوة ثالثة و هو جهاز الشرطة الذي كان تدخله غير مجدي و لكنه كان ضروريا للحبكة الدرامية لمساعدة قوى الخير. في آخر المطاف تنتصر قوى الخير و يكتشف السر من طرف بطلي الشريط.
2- ماذا تريد أن تقول كولومبيا بيكترز للجمهور العريض من خلال الشريط؟ منذ الوهلة الأولى تقر الرواية/ الفيلم بعدة حقائق: أولاها أن جمعية "سيون" الدينية جمعية أوربية تأسست عام 1099 وهي منظمة حقيقية. وأنه في عام 1975 اكتشفت مكتبة باريس مخطوطات عرفت باسم الوثائق السرية ذكر فيها بعض أسماء أعضاء جمعية سيون ومنهم ليوناردو دافنشي، وإسحق نيوتن، وفيكتور هوجو. يريد الشريط أن يخبر الجمهور (السينمائي) أن رجال الفاتيكان زوروا تاريخ المسيح ومحوا كل الشواهد حول بشريته، كما يؤكد إهدار الكنيسة لدور المرأة حين حولت العالم من الوثنية المؤنثة إلى المسيحية الذكورية بإطلاق حملة تشهير حولت الأنثى المقدسة إلى شيطان ومحت تماما أي أثر للآلهة الأنثى في الدين الحديث. وحولت الاتحاد الجنسي الفطري بين الرجل والمرأة من فعل مقدس إلى فعلة شائنة، وهو ما أفقد الحياة التوازن. "الأنثى المقدسة" هي عقيدة جوهرية لدى جماعة سيون السرية. ولتأكيد هذه الفكرة يقدم دان براون قراءة جمالية ممتعة ومبدعة في لوحة "الموناليزا" والتي تعكس بوضوح إيمان ليوناردو دافنشي بالتوازن بين الذكر والأنثى. هنا يربط المؤلف اللوحة بتاريخ الفن القديم ومعتقدات دافنشي؛ فالإله الفرعوني "آمون" إله الخصوبة المصور على هيئة رجل برأس خروف والإلهة المؤنثة "إيزيس" رمز الأرض الخصبة والتي كانت تكتب بحروف تصويرية "ليزا".. يكون في اتحادهما "آمون ليزا" أو "موناليزا" كما أرادها ليوناردو دافنشي دليلا على الاتحاد المقدس بين الذكر والأنثى. ولعله أحد أسرار دافنشي وسبب ابتسامة الموناليزا الغامضة. 3- اتهام الرواية للكنيسة بالوثنية و التزييف وراء اختيار الشركة لهذا العمل الاتهام الأول: إن أول إشكالية تطرحها الرواية هو اتهامها للمسيحية بأنها غارقة في وحل الوثنية وفي بحر التزييف، ويسعى أبطال الرواية (الذين يؤازرون جماعة سيون) إلى كشف حقائق مخيفة ومخفية منذ ألفي عام، لكن الجماعة لا يبدو أنها تهدف إلى الوصول إلى المسيحية النقية وإنما إلى الوثنية النقية. إن المفارقة الأكبر هي أن ذرية المسيح من مريم المجدلية (كما تقول الرواية) والتي تعيش حتى الآن في شخص جاك سونير لا تمارس المسيحية النقية وإنما تمارس العديد من الطقوس الوثنية مثل ييروس غاموس، وهو طقس وثني جنسي مورس آخر مرة قبل ألفي عام أي قبل المسيحية نفسها، ولعل هذا يبين أن الجماعة لا تنتمي للمسيحية وإنما تنتمي في الأصل للأديان الوثنية القديمة. إن الجماعة التي تحتج على وثنية الكنيسة هي أكثر وثنية من الكنيسة بكثير. الاتهام الثاني: تورط سلالة المسيح عنده بالوثنية إلى حد لا يمكن أن تتعاطف بعده معها، خصوصا أنها مفارقة للكنيسة المتورطة أيضاً في الوثنية، والتي تطارد أفرادها عبر التاريخ إلى حد القتل. 4- حقيقة ما جاءت به الرواية - أكدت الأبحاث التي قام بها مجموعة من الباحثين في اللاهوت و علم الأديان خاصة البحث القيم و الرزين الذي قام به البروفيسور جون ميشيل مالدامي بالمعهد الكاتوليكي بتولوز أن دير سيون لم يوجد في عصر الحروب الصليبية الأولى (1099) و لا يوجد أي مؤرخ يقول بذلك، و الشخصيات التي ذكرت في الرواية/الشريط (بوتليتي، دافانشي، إسحاق نيوتون....) لا علاقة لها بهذه المجموعة. - دان براون ليس متخصصا في كتب العهد الجديد للمسيحية و لا في تاريخ الكنيسة و لا حتى في التقاليد السرية للكنيسة لذلك نجد أنه اعتمد في روايته على البحث الذي قام به كل من ماري فرانس إيتشكوان و فريديريك لونوار و هو بحث استند في مجمله على أناجيل العهد الجديد المتضمنة لكثير من الخيال و الأسطورة التي لا تمت للواقع في شيء. و استعان بنفس الأسماء الموجودة في هذه الأساطير. بالإضافة إلى كتاب جيرار دو سيد الذي استحضر حقبة المسيح عيسى من خلال صورة القس أبي بيرانجي سونيير وهو الإسم الذي لقب به محافظ المتحف في الشريط و الذي عاش في القرن التاسع عشر و كانت له مشاكل مع الحاكم الفرنسي أدت إلى عزلته بإحدى الديرات المهمشة. دير سيون إذن هي قصة مخترعة من طرف جيرار دو سيد و فيليب دو شيريزي و بيير بلانتار المؤسسين لجمعية "دير سيون" بسويسرا سنة 1956. جينو ساندري، خلفهم في الجمعية و اعترف بأن قصة دير سيون و انتماؤها لدرية عيسى كلها أشياء مصطنعة و لا علاقة لها بالواقع. - المصدر الثالث استقاه الكاتب من البحث التي قامت به إيلين باجل من أناجيل فيليب و طوما و مريم المجدلية التي كتبت في القرن الثاني و الثالث بعد الميلاد، حيث توصلت فيه حسب رأيها بأن مريم المجدلية هي الوريث الروحي للمسيح و لكن بيير و آخرون أبعدوها لأنها امرأة. و تؤكد أنه منذ ذلك الوقت و هذا التيار السري يمارس الضغط على النساء محاولا تثبيت دونيتهم و إبعادهم من أي مركز للمسؤولية داخل المجتمع. خلاصة إن شركات الإنتاج لها معايير خاصة في اختيار المادة السينمائية و لا تأخذ أبدا بعين الاعتبار الوازع الأخلاقي أو العلمي و لكن ما يهمها هو مدى احتواءها للإثارة سواء كانت دينية أو سياسية أو جنسية أو حتى علمية أو أخلاقية. و توجه عملها عادة إلى الجمهور العريض الذي لا يملك ثقافة عالمة ذات علاقة بالبحث و التدقيق، لذا تجدها عادة ما لا تهتم بمدى حقية الفكرة التي تشتغل عليها و لكن بمدى إثارتها و حساسيتها. و على ضوء ما سبق يمكن أن نفهم لماذا نجد في المغرب ميول مخرجونا (الممثلين عادة لشركات الإنتاج) للمواضيع ذات الصلة بالجنس والدين. محمد السعدي / مهتم بالفن اسابع خاص ب: ''الفوانيس السينمائية'' نرجو التفضل بذكر المصدر والكاتب عند الاستفادة