عندما نتحدث عن تاريخ الجزائر، تبرز شخصية فرحات عباس. فقد أثار، خلال بدايات نضاله السياسي، زوبعة فكرية حين أنكر في مقالة شهيرة عام 1936 وجود "أمة جزائرية" ذات كيان مستقل عبر التاريخ. ورغم تحول موقفه لاحقاً نحو النضال من أجل استقلال الجزائر، فإن طرحه الأولي يستحق تأملاً تاريخياً دقيقاً. عبارته الشهيرة: "بحثتُ في التاريخ، وفي القبور، وفي الأحافير، ولم أجد أمة جزائرية"، فرحات عباس لم يكن يتحدث من فراغ، فقد استند في رأيه إلى قراءة للتاريخ الجزائري الذي عانى على مدى قرون من تعدد القوى الأجنبية التي سيطرت على أراضيه، بدءاً من الفينيقيين والرومان، مروراً بالبيزنطيين، ثم العرب والعثمانيين، وأخيراً الاستعمار الفرنسي. بالنسبة له، لم تشهد الجزائر عبر هذه الحقب المتعاقبة وجوداً لكيان سياسي موحد يُعرّف كأمة مستقلة ذات سيادة، مثلما كان الحال في الإمبراطورية المغربية الشريفة ودول كفرنسا أو بريطانيا. عباس رأى في تلك الفترة أن الجزائر لم تتجاوز كونها مجموعة من القبائل والمناطق ذات الانتماءات المختلفة، التي وحدها الإسلام لاحقاً، لكنها لم تحقق بعدُ مقومات الأمة بمفهومها الحديث. لتقييم موقف فرحات عباس، يجب أن نفهم مفهوم "الأمة" الذي كان يرتكز عليه. في القرن العشرين، كانت فكرة الأمة مرتبطة بالدولة القومية الحديثة، التي تتمتع بحدود واضحة وحكومة مركزية ولغة رسمية. وبهذا التعريف، فإن الجزائر، التي كانت تتشكل من خليط من الأعراق والقبائل والثقافات، لم تكن تُعتبر أمة بالمعايير المعروفة التي استند إليها عباس في قراءته. وإذا عدنا إلى مفهوم الأمة بالمعنى الثقافي والتاريخي، يمكن القول إن الجزائر لم تحمل في طياتها مقومات أمة ناضجة. فالجزائريون كما يسمون اليوم تشاركوا تاريخاً طويلاً مع ثقافات عربية وإسلامية موحدة، وروابط اجتماعية. فرحات عباس لم يُنكر هذه الروابط، لكنه كان يرى أن الجزائر بحاجة إلى مشروع سياسي يخلق أمة حديثة. ومن هذا المنطلق، دعا إلى اندماج الجزائريين في فرنسا، على أمل أن يمنحهم ذلك فرصة لبناء هويتهم ضمن دولة قوية. لا يزال موقف فرحات عباس المبكر موضع نقاش بين المؤرخين. لكن يجمع كثيرون أنه كان محقاً في نقده للواقع الممزق الذي عاشته قبائل تسمى اليوم الجزائر. ويعتبر فرحات عباس شخصية محورية في التاريخ الجزائري، يمثل صوتاً فكرياً شجاعاً حاول تحليل الواقع بعيداً عن العاطفة، ثم قاد تحولاً جذرياً نحو بناء دولة الجزائر. قصته ليست مجرد انعكاس لتطور فردي، بل تجسيد لمسار طويل خاضه الجزائريون لإثبات وجودهم، رغم التحديات التاريخية. إن مراجعة أفكار عباس تعني تأملها ضمن سياقها الزمني والظروف التي أحاطت بها، لتبقى دروسه الفكرية شاهداً على جدلية الهوية الوطنية وتحديات بناء الأمة.