القرار الذي اتخذته السلطات النيجرية بإسقاط صفة الحصانة الدبلوماسية عن سفير فرنسا في نيامي قرار خطير ويمثل منعطفا فاصلا في تاريخ العلاقات بين فرنساوالنيجر، وبين فرنسا ومعظم الدول الإفريقية التي عاشت وتعيش منذ شهور موجة انقلابات كان آخرها ذلك الذي أطاح بنظام علي بونغو في الغابون قبل يومين. لأول مرة ربما تعلن سلطات بلد إفريقي رسميا رفع الحصانة عن سفير دولة استعمارية كبرى مثل فرنسا واتخاذ الإجراءات القانونية ضده بعد رفضه مغادرة البلاد. هذا يعني أن سلطات النيجر وشعبها الملتئم حول قيادة الانقلابيين وصلت إلى نقطة اللّاعودة في التعامل مع قضية العلاقات مع فرنسا. مثل هذا القرار كان من الممكن أن يؤدي في الماضي إلى أزمة دبلوماسية أو اندلاع حرب أو تعرّض هذا البلد الذي اتخذه إلى غزو مباشر من طرف القوات الفرنسية. التاريخ يذكّرنا على سبيل المثال بأن الكثير من الدول الإفريقية والعربية احتُلّت بسبب ذرائع أقل خطورة من ذلك. حادثة المروحة الشهيرة كانت هي الذريعة التي اتخذتها فرنسا من أجل احتلال الجزائر على مدى 132 سنة مثلا. لكن الأمور اختلفت تماما اليوم بعد أن استيقظت شعوب إفريقيا وأنظمتها السياسية التي تبحث اليوم عن التحرّر من الهيمنة والعجرفة الفرنسية. والواضح أن عناد السلطات الفرنسية ورفضها ترحيل سفيرها بالحُسنى منذ أن دعته السلطات النيجرية إلى ذلك ربما يؤكد أن باريس تسعى إلى التصعيد وتبحث عن هذه الذريعة التي نتحدث عنها. من المفروض أن تستجيب فرنسا لهذه الدعوة منذ اليوم الأول حرصا على سلامة طاقمها الدبلوماسي من جهة، وتجنّباً لتعقيد الموقف من جهة أخرى في بلد ينتفض كله ضد الوجود الاستعماري والاستغلال الذي تتعرض له ثروات الشعب والدولة من طرف المقاولات الفرنسية وذوي المصالح. لو كانت فرنسا حريصة على الاستقرار وعودة الشرعية المزعومة إلى البلاد لسارت في هذا الاتجاه على الأقل وتجنّبت نقطة اللّاعودة التي وصلت إليها الأوضاع اليوم في النيجر وفي منطقة غرب إفريقيا والساحل والصحراء. وفي نهاية المطاف تدرك باريس أن سفيرها يجب أن يرحل عن نيامي أحبّ أم كره. وهذا ما سيحدث في كلّ الأحوال. فهل تحاول فرنسا التضحية بطاقمها الدبلوماسي لتبرير تدخل عسكري جديد؟ من غير المستبعد أن يكون هذا العناد مجرد خطة لتوريط النظام الجديد في النيجر في خطأ دبلوماسي وإحراجه أمام المنتظم الدولي، وتعبئة هذا الأخير من أجل اتخاذ قرار التدخل العسكري عبر منظمة إيكواس التي سبق لها اتخاذ هذا القرار. ونظرا لاتخاذ الصراع في المنطقة أبعادا دولية بين روسيا من جهة والقوى الغربية من جهة أخرى فإن فرنسا تعتبر انسحاب سفيرها الذي يمثل آخر من يمثّلها في النيجر هزيمة لا تستطيع تحمّلها. هذا ما يدفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مثلا إلى تشجيع سفيره في نيامي على البقاء وإعلان دعم الرئيس النيجري محمد بازوم. لكن هذه المناورات الدبلوماسية التي تقوم بها فرنسا لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تغيّر واقع التطورات الهائلة التي تعرفها القارة الإفريقية لا سيّما ضد الوجود الفرنسي. موجة الانقلابات متواصلة، وقد لا يكون آخرها انقلاب الغابون. ففي المنطقة نفسها ثمة أنظمة سياسية أخرى تتقاسمها اليوم الرغبة بين الارتماء في أحضان روسيا وبين الحفاظ على ولائها لفرنسا. ومن الواضح أن المخابرات الروسية تلعب لعبة غاية في الخطورة من خلال استثمار مشاعر الغضب والاحتقان التي تراكمت على مدى عقود طويلة ضد طريقة فرنسا في تدبير علاقاتها مع الأنظمة الإفريقية ومع شعوب المنطقة. لهذا فإن المطلوب اليوم من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليس هو التمترس وراء مواقف تقليدية والتحدث بلغة خشبية لم تعد تقنع أحدا، بل هو الاستجابة ببساطة لإرادة الأفارقة وطموحاتهم في التحرّر والانعتاق.