إصرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على بقاء سفيره في نيامي بالنيجر على الرغم من الإرادة الشعبية الجارفة التي تطالب برحيله لا يمكن تبريره بلغة الخشب التي تتقنها النخبة السياسية في فرنسا والحديث عن دعم الشرعية والديمقراطية. هذه مجرد كلمات حق قد يراد بها باطل. صحيح أن النظام الانقلابي الجديد أطاح برئيس منتخب، لكنه أطاح أيضا بمستقبل مصالح فرنسا في النيجر وفي منطقة الساحل والصحراء بأسرها. بعد الخروج المذلّ لفرنسا من مالي وبوركينافاسو ها هي ذي تتلقى ضربة موجعة أخرى في النيجر، حيث الموارد المعدنية الهائلة التي تتوقف عليها صناعة الطاقة النووية في فرنسا. عندما كانت فرنسا تدعم الأنظمة الاستبدادية في الدول الإفريقية وتقف وراء الانقلابات التي تطيح بالإرادة الشعبية، فقد كانت تفعل ذلك عندما تتعارض هذه الإرادة مع مصالحها الاقتصادية الخاصة. وهي ما تزال على الرغم من الادعاءات مصرّة على نهج السياسة ذاتها في التصدي للمدّ الشعبي الذي تجسده أحيانا حركات انقلابية كتلك الحركة التي وقعت في النيجر مؤخرا. والمبرّر الذي كانت فرنسا تقدمه أمام الأفارقة والمنتظم الدولي لم يعد يصدقه حتى أطفال القارة السمراء. الخوف على الشرعية وحماية صناديق الاقتراع والمسار الديمقراطي أصبحت أسطوانة مشروخة يجب أن يراجعها صانع القرار الفرنسي الذي عليه أن يدرك أن إفريقيا استيقظت وأن مصالح الأفارقة ستحميها سواعدهم وأبناءهم. ما الذي تريده الإرادة الشعبية في النيجر؟ المطالب التي رُفعت خلال الاحتجاجات التي دارت أمام السفارة الفرنسية خلال الأيام القليلة الماضية تطالب ببساطة برحيل السفير الفرنسي والوجود العسكري الفرنسي والتخلص من الوصاية الفرنسية على القطاع الاقتصادي والمالي للبلاد، ورفع اليد عن مقدّراتها ومواردها الهائلة التي لم تتمكن البلاد على مدى عقود طويلة من استغلالها من طرف المقاولات الفرنسية أن تستفيد من ثمارها وأن تتقاسم خيراتها بين كافة مواطنيها، وطلت النيجر من بين أكثر الدول فقرا في العالم. ماذا كسبت دول غرب إفريقيا والساحل الإفريقي من الوجود الفرنسي على مدى عقود طويلة غير استمرار مظاهر التخلّف والفقر وتجريف الثروات دون أي جدوى؟ الواقع الحالي يؤكد أن نفوذ فرنسا في إفريقيا يتراجع، بل أصبحت فرنسا أشبه اليوم بالرجل المريض الذي يفقد حصته ويتقاسم المنافسون تركته. وروسيا على وجه التحديد تقضم اليوم من حكومة إيمانويل ماكرون أجزاء مهمة من امبراطوريتها الاستعمارية السابقة. لكن الأكثر تأثيرا في هذه السيرورة هو إرادة الشعوب الإفريقية التي لم تعد تقبل أبدا أن تبقى ضحية استغلال لا ينتهي بينما تظل قدرتها على تحقيق التنمية والتطور شبه منعدمة. والمقارنة بين المناطق التي كانت تابعة لنفوذ الاستعمار الفرنسي والأخرى التي كانت تابعة للتاج البريطاني أو لقوى استعمارية أخرى تُظهر المفارقة الصارخة بين تجارب دول صاعدة مثل رواندا وإثيوبيا ودول عاجزة عن الانعتاق من ربقة الديون والإملاءات المالية والاقتصادية الخارجية كما هو الحال في دول الساحل الإفريقي. وفرنسا التي تمر بمرحلة ضعف تاريخي غير مسبوقة سواء على المستوى الأوربي أو في علاقتها بالولايات المتحدةالأمريكية أو في مواجهة التهديد الروسي تدرك أن خسارة نفوذها في النيجر سيكون له تأثير الدومينو بعد مالي وبوركينا فاسو ولن يتوقف حتى تخسر باريس كل ما تبقى لها من امتيازات في القارة الإفريقية. لذلك فهي تصر على مقاومة إرادة الأفارقة التي تنزَع نحو التحرر من كل أشكال الخضوع للقوى الاستعمارية التاريخية، على الرغم من أن ذلك قد يحدث أحيانا بالاستعانة بقوى دولية أخرى بديلة قد لا تختلف في نهاية المطاف من حيث توجهاتها ومصالحها عن سابقيها.