لستُ مِن مَن يُغْلِقُون على الدين في زُجاجة، أو يضعونه في قفص، ليصير عندهم غَمامةً تَحْجُب عنهم الرؤية، وتجعل الكون كُلَّه ديناً، ولا شيء غير الدِّين. مثلاً، سَرَّنِي أن أسمع الأذان بِرُفْقَة الموسيقَى، في ما جرى من احتفالات في زيارة البابا الأخيرة للمغرب، التي كانت فُرْصَةً لإدانة كل أشكال التعصُّب والتطرُّف، واعتبار الدِّيانات والمُعْتَقَدات عُدوَّة لبعضها البعض، وأنَّ الإسلام، كما يَتَوَهَّمُه البعض، هو الدين وغيره ليس سوى كذب وتحريف، ولاعلاقة له بما كان من أديانٍ، بدعوى أن هؤلاء هم يهود ونصارى!. أوَّلاً، الموسيقى، هي نَغَمُ الكون، وهي ما تتحرَّك به أجسامُنا وتسير، وهي النبض الذي يخفق بين جوانحنا ويمنحنا الحياة، أو يجعل الحياة في وجودنا ضوءاً، وعِطْراً، وألواناً هي ما به تتعاقَبُ الفُصول، وتُضْفِي على الوجود النِّظام، باختلاف إيقاعاته، وأشكال موسيقاه. من يعتقد أن الموسيقى لا تليق بالدين، وأنَّ الدين يَسْتَبْعِدُها، فهو يُفْرِغ الدين، نفسَه، من الحياة، ومن النَّغَم والوجود، ومِن ما اتَّسَم به من انْشِراح، في تأكيده على الحق والعدل والمُساواة، وعلى حق الإنسان في الاسْتِمْتاع بوجوده على الأرض، لأنه لم يوجد لِيُمَجِّد البُؤس والضَّيْمَ والموت والفناء، أو يعيش على إيقاع الآخرة، ويُعَتِّم حياتَه وحياة الناس معه، ناسياً أنَّ الأساس في الوجود هو الجمال، والجميل، هو نِعْمَةُ وجودنا على الأرض، بكل ما تحمله كلمة جمال من رموز ودلالات، ذِرْوَتُها الفَرَح والانْشِراح. ثانياَ، الدين جاء من أجل الإنسان، وليس الإنسان من جاء من أجل الدين، بمعنى أنَّ الإنسان الذي عاش على إيقاع الحق والعدل والمساواة، وآمن بالمحبة والجمال والفَرح، ونبذ كل أشكال الحِقْد والحنَق والغيظ، فهو إنسان ينتصر، في جوهره، للدين في عمومه، وليس لدين ضد آخر، بل ينتصر للإنسان الذي هو قيمةُ القِيَم في هذا الوجود. ثالثاً، حين نجمع بين الموسيقى والدين، فنحن لا نفعلُ شيئاً، سِوَى أن نكون أعَدْنا الدِّين إلى أصله الخَلّاق، ونَفَيْنا عنه الانغلاقَ والتَّشَنُّج، وجعلنا، الموسيقى، بالتالي، تصير أكثر جمالاً، لأنها دعوة للإيمان بالإنسان والوجود، ونداء للتسامح والتصالُح، وتَبَنِّي العقل والجمالَ في حلِّ كل أشكال الخِلاف والتَّنازُع. رابعاً، النصوص الدينية، كامِلَةً، لم تأْتِ مُخالِفَة لإرادة الإنسان، ولا لإنسانيتِه، بل هي كَرَّمَتِ الإنسان، بأن وضَعَتْه فوق كل المخلوقات، بدليل دعوة «إبليس» للسُّجود له، ما يعني أن الله خلق الإنسان على صُورَتِه، كما ورد في حديث قُدْسِيّ، كثيراً ما اسْتَعْمَلَه الصُّوفِيَّة لتأكيد فكرة الإنسان، باعتباره أهم المخلوقات. وتأتي أهمية الإنسان، في هذا السياق، بمعنى أنه وُجِدَ ليكون بذاته، بفكره، وباختياراته، بما يراه ويصل إليه من حقائق، وهو مسؤول عن أفعاله وما يصدر عنه من قول، لا أن يكون مثل الأعمى الذي تقوده عصاه. وهذا ما يجعل الفن والفكر والجمال، إحْدَى مُبْتَكرات الإنسان في الأرض، لأنَّ عطالة الإنسان، هي حين يكون في قاعة انتظار كبيرة، لا يُبادِر ولا يبتكر، وينتظر أن ينزل الماء من السماء، دون كَدٍّ وبحث وعمل وشقاء. لا معنى للعماء المُطْلَق الذي يَحْجُبُ عَنَّا زُرْقَةَ السماء وجمالها، وتصيرُ الغيوم السوداء هي كل ما نراه، خَوْفاً ورُعْباً، ورغْبَةً في أن ندخل الجنَّةَ، دون أن نَعْمَل، ونعيش وجودنا باعتباره وجُود بالمحبة والتَّعارُف والتَّآخِي، وبما نَسْتَرِقُهُ من جمال، مِنْ ما هو كَامِن في أجسامنا، وفي الطبيعة، وفي الهواء والماء اللذيْن بهما نحيا ونعيش. إنَّ رفض الأديان الأخرى، والنَّظَر إلى الإسلام، باعتباره هو الدِّين دون غيره، فهذا دليل على أنَّنَا آلة، لا إرادة لها على سلوكاتها، وعلى نفسها، وما يصدر عنها من أصوات وحركات. أليست الطبيعة نَغَماً وموسيقى، أليس الوجود هو هذه الأصوات والألوان التي تَهَبُنا القدرة على الحب والعيش دون بؤس ويأس، من مِنَّا لا يبتهج وهو يرى الزَّهْرَة تتفتَّق أكْمَامُها، والفَراش حولها يَزيد جَمالَها جمالاً، بل ويُضْفِي على لون الزَّهْرَة عِطْرَها، الذي هو أثر الماء فيهما معاً !؟ إنَّ الإنسان، ما إنْ يصبح الدين عنده نَصّاً، وخُطَباً وكلاماً، لا فِعْلاً وانتصاراً للحق والخير والجمال، فهو يفقد القدرة على أن يُعْمِل بَصِيرَتَه في فهم طبيعة وجوده على الأرض من جهة، وما قد يكون عليه من أبَدٍ، بعد أن يكون خرج من هذا الوجود، إلى غيره من سَدِيمٍ، مهما تكن طبيعتُه، فهو وُجودٌ يلي الوُجودَ، لكن بالحق والخير والمحبة والجمال، وتقدير قيمة الوجود، الذي لم نوجَد فيه عبثاً، أو فقط، لننتظر متى نموت، ونُعاقَب. فهذا، فيه حَدٌّ من قدرة الله على خلق الجمال والجلال، لأن الله جمِيلٌ ويُحِبُّ الجمال".