نسبة المشاركة التي تم تسجيلها وبلغت أكثر من 50 في المائة قد تمثل أحد أهم مكتسبات استحقاقات 8 شتنبر. فهي تكاد تعد أفضل نسبة مشاركة تحققت منذ استفتاء 2011، والأفضل على مستوى كل الاستحقاقات الانتخابية التي أجريت منذ 2007. فعلى الرغم من كل ما سبق موعد الانتخابات من تخمينات وتوقعات باستمرار العزوف الانتخابي، جاءت هذه النتيجة لتعكس واقعا جديدا بدأ يتشكل في علاقة المغاربة بالسياسة والعمليات الديمقراطية التمثيلية. فلطالما تحدث المراقبون والمحللون عن الخصومة المزمنة التي تظل متحكمة في العلاقة بين الناخبين وصناديق الاقتراع لكن مشاركة أكثر من ثمانية ملايين ناخب في اقتراع اليوم قد تنطوي على بداية استرجاع الثقة في العملية الانتخابية والسياسية بالمغرب. هذه النسبة المتوسطة، التي يمكن اعتبارها لا بأس بها على مستوى معدلات المشاركة الدولية، في مختلف الانتخابات، يمكن تفسيرها بالكثير من المعطيات سواء الظرفية التي ميزت هذه الانتخابات أو السياقية التي أحاطت بالمغرب في الآونة الأخيرة. التفاف نصف الكتلة الناخبة حول صناديق الاقتراع يمكن تفسيره بأنه نداء لتبليغ مختلف الانتظارات التي يحملها هؤلاء الناخبون، وخصوصا من النساء والشباب، إلى النخب الجديدة التي ستفرزها الانتخابات، خصوصا أنها أول انتخابات تعرف تجميعا لكل الاستحقاقات البرلمانية والجماعية والجهوية في آن واحد. ويكاد الناخبون المغاربة الذين عبروا اليوم عن اختياراتهم يعيدون تذكير مختلف المرشحين بوعودهم وهم يقبلون بهذه الكثافة المحترمة على الصناديق. هناك عامل آخر لا يقل تأثيرا يتعلق بالحملة الانتخابية التي خاضتها الأحزاب السياسية وكانت إلى حد ما حملة تواصلية ناجعة خصوصا على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي. لقد نجحت هذه العمليات التواصلية الكاسحة في كسر أسطورة العزوف إلى حد كبير، وصالحت المواطنين من البسطاء أو المتعلمين مع النقاشات السياسية الدائرة، خصوصا بين الأحزاب الكبرى المتنافسة. لقد امتلأت شبكات التواصل الاجتماعي في الأيام القليلة الماضية بالخطابات والخطابات المضادة من هذا الحزب أو ذاك، ونجحت هذه المنصات إلى حد بعيد في تعويض الحملات الانتخابية التقليدية خصوصا في ظل جائحة فيروس كورونا المستجد، وتحولت إلى ساحات مفتوحة للجدل والأخذ والرد، وعرض البدائل السياسية، والترويج لبعض الاختيارات كالتصويت العقابي أو البحث عن التغيير. لم تتجاوز نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 2017، 51 في المائة، كما لم تتجاوز نسبة المشاركة في الانتخابات التونسية الرئاسية في 2019، 55 في المائة. وقس على ذلك العديد من التجارب في دول الجوار وعلى الصعيد الدولي. في 2007 شكلت نسبة المشاركة في الاستحقاقات التشريعية صدمة للجميع إذ لم تتجاوز نسبة 37 في المائة، ثم ارتقت هذه النسبة بعض الشيء إلى أكثر من 45 في المائة في استحقاقات 2011، قبل أن تعود هذه النسبة إلى التراجع في انتخابات 2016 وتستقر عند 42 في المائة. إن المقارنة بين هذه النسب المسجلة في العقد الأخير تعيد الاعتبار لنسبة المشاركة المسجلة في استحقاقات اليوم خصوصا أنها حطمت رقما قياسيا على مستوى أعداد المصوتين الذين تجاوزوا لأول مرة ثمانية ملايين ناخب. هذه أولى النقاط الإيجابية التي أفرزتها استحقاقات 8 شتنبر بعد أن أظهرت أن المواطن المغربي لا يخاصم السياسة بشكل جذري واعتباطي وإنما ينتظر من النخبة الحزبية والسياسية أن تقدم ما يكفي من العروض والبرامج حتى يقبل على التعبير عن موقفه وصوته. هذه النتيجة تمثل اليوم فرصة مهمة يمكن البناء عليها من أجل استرجاع كامل لثقة المواطنين في المؤسسات المقبلة التي سيتم تشكيلها سواء على المستوى المحلي أو المركزي.