تطرح مسألة "السلوك المدني le civisme" في كافة المجتمعات العربية بشكل عام، العديد من الإشكالات في المفهوم وفي التطبيق، إذ يندرج المصطلح نفسه ضمن سياقات مفاهيمية شاسعة ومتداخلة المعاني والدلالات، حيث يكون السلوك الفردي والجماعي داخل مجال العلاقات الاجتماعية، مُحيلا بالضرورة على الجانب الأخلاقي وإلى خاصية التمدن كسلوك مجتمعي يوازي المدنية والتحضر، كما يمكن لمفهوم "السلوك المدني" أن يشير في الوقت نفسه إلى مفاهيم أخرى مثل: الديمقراطية والمواطنة واحترام حقوق الإنسان، والحس المدني والتربية المدنية، أو التربية على المواطنة أو التربية على حقوق الإنسان، كما يمكن اعتبار تنمية السلوك المدني بمثابة مؤشر على وعي خاص بمجموعة من الحقوق والواجبات التي يمتلكها ويمارسها المواطن أو الفرد داخل المجتمع، حيث تُعبّر الرغبة أو الإرادة المُلحة في تنمية السلوك المدني عن الحاجة إلى ترسيخ علاقة واضحة وواعية بين الأفراد، ثم بينهم وبين مؤسسات المجتمع ومؤسسات الدولة. ويظل هذا السلوك مرتبطا بالفضاء العمومي الذي يجري فيه، أما كلمة "مدني"، فتحيل، هنا، إلى واحد من مظاهر المعيش البشري الأساسية والتي هي التمدن في آخر المطاف. ويرتبط " السلوك المدني " كذلك ارتباطا وثيقا بمفهوم " المواطنة " الذي ظهر مع "أرسطو " وتَجدّد في عصر الأنوار كدلالة وليس كمصطلح مع " شارل مونتسكيو " ( 1989 – 1755 )، بحيث تُعتبَر مقولاته وإسهاماته النظرية التي لها علاقة بالحرية أو " الحرية المتبادلة " من أهم العناصر المكونة للسلوك المدني، هو الفيلسوف الذي يُعتبر منبعا رئيسا للفلسفة السياسية والروح الحقة لفكر التنوير، إلى جانب " جان جاك روسو " صاحب الكتاب المؤسس للمدنية الجديدة كذلك "العقد الاجتماعي". إذ يُعتبَر كتاب "روح القوانين"، ل "مونتسكيو " الصادر عام 1748م، من أعظم الكتب التي ظهرت في عصر الأنوار الذي سبق الثورة الفرنسية، حيث سيصبح هذا العمل بمثابة "الكتاب المقدس" لزعماء الثورة الفرنسية، استلهموا منه الكثير من المبادئ التي تؤسس لمدنية جديدة ، حيث يطرح فيه " مونتسكيو " وجهة نظره التأسيسية بخصوص طبيعة القوانين التي يحددها المناخ السياسي والاجتماعي للبلد. وكذلك طبيعة الشعب واقتصاده وحكومته ودينه وأخلاقه وعاداته. وبهذا المعنى تكون القوانين عند "مونتسكيو"، هي تلك العلاقة الضرورية التي تنشأ بين الأفراد والمجتمعات. لكنه يركز، في هذا السياق، على بعض القوانين التي يمكن اعتبارها ضرورية لفهم واكتساب السلوك المدني من طرف الأفراد والجماعات، ومن أهمها "القانون الطبيعي، أو الحقوق الطبيعية لكل الناس بوصفهم مخلوقات لها عقل "ثم" القانون المدني الذي يحكم علاقات الأفراد بعضهم ببعض"، إضافة إلى قولته الشهيرة: "تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين"، والتي تعد بمثابة الحجر الأساس في ترسيخ السلوك المدني كقيمة وكممارسة في المجتمعات المتحضرة. أما على المستوى العربي بشكل عام، والمجتمع المغربي على وجه الخصوص، فإن الحديث عن السلوك المدني، يعد من الإشكالات الكبرى التي تستدعي الكثير من البحث والتأمل لفهم أسباب غياب هذه القيمة أو هذه الممارسة في السلوك اليومي للمواطن العربي والمغربي على حد سوا، وهو موضوع ينبغي أن يشكل مساحة شاسعة من التأمل والمساءلة، سواء من داخل حقول السوسيولوجيا وعلم النفس الاجتماعي، لمعرفة ملامح ومظاهر التحولات القيمية والاجتماعية الذي تَعرفها هذه المجتمعات في علاقتها بسلوكات الأفراد وطبيعة عيشهم مع بعضهم البعض، وذلك ضمن بُعد علائقي شاسع تشكله كل هذه التحولات الكاسحة التي طالت العالم على مستوى القيم الثقافية والاجتماعية، الأمر الذي يقتضي من مؤسسات التنشئة الاجتماعية (الأسرة، المدرسة وغيرها) تنمية هذا السلوك المدني لدى أفراد المجتمع، ومنذ مراحل تنشئتهم الأولى، حتى يرسخوه بدورهم في المجتمع، عن طريق إكساب هؤلاء الأفراد مبادئ السلوك المدني والمتحضر، سواء في البيت أو في الشارع أو في الأماكن العامة، وأقل هذه المبادئ احترام الآخر وتجنب إلحاق الضرر به، ثم الحفاظ على الممتلكات الخاصة والعامة، والفضاءات المشتركة وصيانتها، حتى يستنى للجميع الاستمتاع بها والاستفادة من خدماتها، ضمن المبادئ والنصوص التي تجعل "المواطَنة" كمفهوم تتجسد في ممارسة المواطن للفعل المدني. على اعتبار أن المواطنة ليست سلوكا انفراديا معزولا، بل هي النواة الأساسية التي تتمحور حولها شروط ونتائج العيش الجماعي، وبهذا المعنى تكون المواطنة مراعاة للمصلحة العامة والمشتركة والحفاظ عليها بشكل أساس، وهي الممارسة العقلانية للصالح العام واحترام الآخرين في نهاية المطاف. إلا أن واقع الحال في مجتمعنا ما زال على النقيض من ذلك تماما، مع بعض الاستثناءات القليلة طبعا، وهذه بعض السلوكات والمظاهر والممارسات التي يغيب فيها تماما هذا السلوك المدني المنشود: • ما زال بعض المغاربة يتبولون ويبصقون ويفرغون مخاط أنوفهم أمام الملأ وفي الفضاءات العامة والشارع العام، وكأنهم تَنانين قادمة من السماء أو ديناصورات هاربة من فيلم "الحديقة الجوراسية Jurassic Park" للمخرج الأمريكي "ستيفن سبيلبرج Steven Spielberg " ؟ • ما زال الكثير من الناس لا يحترمون إشارات المرور وقوانين السير، ويركنون سياراتهم وعرباتهم في وضعية ثانية، بل ثالثة أحيانا، مما يعرقل حركة السير أو يوقفها تماما. • ما زال الكثير من المسافرين في القطارات يحتلون أكثر من مقعد، بل يتمددون على المقاعد ويَغُطّون في نوم عميق مع الشخير، في الوقت الذي يظل الكثير من الركاب الآخرين واقفين ومن دون مقعد لمسافات طويلة حتى يستيقظ النائمون. • ما زال الكثير من المغاربة لا يحسنون استعمال المراحيض، سواء في المقاهي أو المطاعم أو في القطارات أو الفضاءات العامة، ولا يكلفون أنفسهم حتى الضغط على زر فورة المياه chasse d'eau لتنظيف عفونتهم وقاذوراتهم. • الكثير من الناس لم يستوعبوا بعد مسألة انتظار دورهم في طابور أو عند بقال على سبيل المثال، ويخترقون أو يتجاوزون بوقاحة الواقفين هناك، وكأنهم وحدهم في المشهد، أو هم من فصيلة طائر الطاووس العجيب الذي ينبُت الريش على رأسه كما يقال ؟ • ما زال بعض المغاربة يقذفون بأكياس الزبالة من النوافذ والشرفات وسطوح بيوتهم نحو الشارع العام. • ما زال الكثير من الناس غير قادرين على إدراك المُشترَك وتدبير اقتسام الفضاءات والمساحات المشتركة بينهم، إذ يُحَوّلوا هذه الفضاءات والمساحات إلى مِلْك خاص أو حيّز شخصي لهم. • ما زال .. وما زال .. وما زال .. وما زال .. وما زال .. وما زال .. الحال هو الحال .. وإن أنتَ تجرأْتَ ونبّهْتَ أحَدَ هؤلاء إلى فعلته الشنعاء، وسلوكه غير المدني وغير المتحضر بتاتا، ينبري ليعطيك دروسا في الأخلاق وفن العيش وما إلى ذلك من علوم الدنيا والدين… وقد صَدق القول فعلا الكاتب المغربي الساخر الصديق " أنور خليل "، حين كَتب ذات مرة بإحدى تدويناته الجميلة والبليغة على الفيسبوك حين قال: " ما دام الجار يضع الأزبال أمام بيت جاره، فلنؤجل قليلا فكرة تغيير الأنظمة ".