كانت تلك كلماتُهُ الأخيرة في لعبة النرد الأخيرة هنا في قلب فلسطين الحبيبة قبل أن يغادرها على جناحَيّ الفراشة البيضاء ذات الأثر الأبدي الأبيض محملاً بأنوار الكلمة ولازورد البحر وقناديل الشعر ومناديل الغيم والدموع. من أنا ؟ كان سؤاله الأخير الكبير قبل أن يتركنا غير منتظر رداً أو جواباً ربما لأن سؤال الأنا كان هاجسَهُ ولغزَهُ الأكبر, فهل كان محمود درويش يدرك أن أناه القلقة والمعذّبة تلك لم تكن أناه هو بقدر ما هي أنانا جميعا تقمصّها وتقمَّصتهُ وتقمَّصنا وتقمَّصناه إلى درجة التوحد الكلي توحد الواحد فيالكل والكل في الواحد حتى بات من المستحيل الحديث عن فلسطين بمعزل عن محمود درويش أو الحديث عن محمود درويش بعيدا عن فلسطين. فأي مديح يليق بظلك العالي يا محمود أيها الفارس الخارج من زبد الحقيقة إلى البحر الأسطورة... مَنْ بعدكَ يؤنسُ البيتَ ومَنْ بعدكَ يحرسُ الشعرَ ؟ وهل من حقنا أن نكتب شيئا بعدك؟ وأنت الذي كتبتنا بدمعةِ أمك/ أمنا ورسمتنا بحليبِ روحِك وحملتنا على أجنحة فراشاتك الملونة إلى المدى/ الدنيا لتفتح في كل مكان وكل بلد سفارة شعر فلسطينية مفتوحة على أفق الحياة الإنسانية الأكبر. ألم تعرف يا محمود أنَّ عصافير الجليل التي تُدرّب مناقيَرها على سنديانتك الخضراء كل صباح وتنام آخرَ الليلِ تحت ظلالها الوارفة مسحورة بالكمنجاتِ التي نفحتك فيها ستكون بعدك أكثر موتا في الوطن/ الغربة وأكثر موتا في غربة الوطن فإلى أية غربة تأخذنا الآن يا محمود وإلى أي منفى وهل سيكون بمقدورنا أن نحتمل المنفى أو الوطن بعيدا عنك؟ وأنت الوطن وأنت المنفى في آن وأنت من هنا وأنت من هناك وأنت هنا وأنت هناك فلا تعتذر أبدا عمّا فعلت فكل ما كان هنا وكل ما كان هناك هو لك هو لك هو لك...!!!