كتبت " جدارية " محمود درويش في العام 1999 ، ونشرت طبعتها الأولى في العام 2000 ، تاركة للشاعر فسحة عشر سنوات من الحياة ، كان عليه أن يعبئ فيها الكثير من الزوايا الشعرية المتروكة ، فكتب ما كتب ، بشفافية وغزارة وحب مطلق .. فكانت الدواوين الأخيرة ، في سنوات حياته ( 13/3/1941- 9/8/2008 ) ، مؤشرا بل مغزى يضمر ويظهر الكثير من التفات الشاعر إلى الذات والأنا وصوت الموت إن لم نقل قدومه ، وكأنّ محمود درويش كان يعيش حالة شغف خاصة دفعته إلى اختصار الكثير ، واستحضار الكثير ، والاحتفاء المديد بالشعر .. ومن يقرأ ديوانه " لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي " 2009 ، يرى في القصائد المكتوبة قبل رحيله بزمن قصير ، احتشاد الفنيّ والغنائيّ ، خطوات الموت ، الالتفات بشدة إلى الذات ، سطوع نهج السيرة الشخصية، الابتعاد عن أيّ زوائد لا تخدم الفكرة ، التحديق الطويل الشديد بمعنى الشعر ومغزى الشاعرية في علاقتها مع الآخرين .. تبدأ قصيدة الجدارية برمي النرد ذاته الذي نجده في " لاعب النرد"حيث :" هذا هو اسمكَ / قالت امرأةٌ / وغابت في الممرّ اللولبيّ" تسع مفردات غريبة بكلّ ما تحمله ، الإيحاء والرمز والتلميح ، تجريد الذات من اتساعها لتكون اسما ، الانكفاء إلى لعبة الحظ في أن ينجو أو لا ينجو/ صاحب هذا الاسم/ ، عدم التوسع في بناء صورة بلاغية يشعر درويش أنه لا حاجة لها هنا / جعل التفعيلة " متفاعلن " قابلة للطيّ والتوقف عندها مع مفردة " اللولبيّ " إن أردنا التسكين ، وقابلة للامتداد إذا حركنا كي نتواصل مع المقطع التالي " أرى السماء هناك في متناول الأيدي /ويحملني جناح حمامة بيضاء صوبَ / طفولة أخرى.. " .. كل هذا سيكون تأسيسا لما يأتي من شعر بعد الجدارية التي تبقى الأكثر إدهاشا وحضورا في الذهن .. نتساءل في هذا المسار :هل حقا قال الطبيب الفرنسي لمحمود درويش بعد إجراء عملية القلب التي أفرزت قصيدة الجدارية ستعيش عشر سنوات أخرى ؟؟.. وهو ما كان حيث توفي بعد عشر سنوات تماما .. ليولد عند محمود درويش هذا النهم الذي لا يضاهى لكتابة الشعر وجعله الغاية والموئل والمراد في هذه السنوات العشر؟؟ هل يفجر توقع الموت كل هذا ؟؟.. وإذا كان الطبيب قد علم عن طريق العلم أنّ أمام قلب الشاعر عشر سنوات ليس إلا .. فكيف استطاع محمود درويش أن يكتب النبوءة الغريبة بيوم موته: صدّقتُ أنّي متّ يوم السبت ِ قلت عليّ أن أوصي بشيء ما فلم أعثر على شيء وقلتُ عليّ أن أدعو صديقا ما لأخبره بأني متّ لكن لم أجد أحدا وصادف أن يموت الشاعر مساء السبت في 9/8/2009 معلنا أنّ الشعراء قد يكتبون أحيانا توقعاتهم بشكل مذهل .. / تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه الالتفاتة للروائي إلياس خوري وليست لي ، وقد جاءت في شهادة له عن درويش/ .. التوقيع في الجدارية يبقي دائما فسحة لكلّ شيء " وكأنني قد مت قبل الآن / أعرف هذه الرؤيا وأعرف أنني / أمضي إلى ما لستُ أعرف ربما / مازلتُ حيا في مكان ما وأعرف/ ما أريدُ / سأصير يوما ما أريد " يجد المتلقي في هذا الانفتاح المتدفق الكثير من المدّ والجزر معا ، ليقابل في المرآة وجهه ، ووجه الشاعر ، ووجه كلّ من يخطر على باله .. الشعر مفتوح على الذات ، مشرع على كل الأبواب والاتجاهات .. نغمة الحزن الجارحة تربك لكنها لا تكسر قاعدة الانضباط في نغم حرية مطلقة .. إنها / جدارية درويش / نغم تستحضره ذكرى رحيله ، لتقول بأن هذا الشاعر كان دائم التغيير والتجديد ، وأنها فاصلة لا يمكن تجاوزها حين نتحدث عنها وعما كتب من بعدها ..فمحمود درويش في جداريته وضع خطوة تؤسس لخطوات وصلت بالشعر إلى صورته وتصوراته المدهشة..