لا أدري كيف فعلت ذلك في صباح من تلك الصباحات الاعتيادية، استيقظت باكرا وخرجت شأن غيري كما يجري الطقس الوجودي لشراء ما أسد به رمقي، وعوض الولوج إلى المخبزة من أجل خبز الصباح.. دلفت إلى مكتبة واشتريت كتابا، أول كتاب صادفته عيني، تبدو المعادلة صعبة، بمعزل إن كانت صحيحة أو مزعومة،ونحن شعب خبزاوي بل نؤمن به كعقيدة وجودية لا فكاك عنها، في صباح رتيب تحتج فيه المعدة احتجاجا مصيريا وقد احتشدت خلفها نداءات أعضاء الجسد وآلاف الخلايا. أعتقد أن نداءات الأمم الكبرى في بداياتها بالخبز والسلام والعمل وو..لم تغفل في ما بعد أهمية الكتاب والقراءة، هنا نفتح دفتي أول فعل ثقافي وحضاري، وهنا بين أوراقه نقرأ شرطنا الإنساني وحضورنا الوجودي.تبرز المعادلة أكثر صعوبة من جديد، وعلى أكثر من صعيد، حيث وجها لوجه، يقف الخبز إزاء الكتاب، كما الفقر واليسار، السلطة والمثقف، العولمة والمحلية، الحداثة والتراث، الغرب والشرق، الشمال والجنوب، المركز والهامشي، وهلم جرا...في بلدنا، المغرب، كما في بلدان (العالم الثالث)، والتصنيف مفتعل، ويمكن خلخلته، يصعب القول بإمكانية قلب الوضع الاجتماعي الحالي الرازح في وحل الفقر والعطالة والتهميش وقطع الأنفاس..إلى نموذج مجتمع متقدم على مقاس نظيره الغربي، لأن البون شاسع، بل مدعاة للسخرية من أنفسنا،(أقول هذا وأقصد ذلك المجتمع المتطور تكنولوجيا لاغير)، ماذا تبقى لنا وقد تجاوزنا الأخر(بآلاف السنين الضوئية من الابتكار والصناعة والتقنية)؟؟ نعم بقي لنا الكثير والكثير..شرق ضخم من القيم النبيلة والفكر والتراث(لأننا أمة تراث وفكر) سحر الغرب بروحانيته، تراث، للأسف، وأدناه باكرا وطمرناه مشدودين بالنظر وراء بحر الظلمات، نحو عالم على وشك سكتة روحية، ناهيك عن وعكاته الاقتصادية والسياسية، والحالة هذه، نحن أحوج إلى مجتمع متنور، ليس إلا، مجتمع قادر على تجديد قيمه الإنسانية الصافية وتجلية الغبار عنها، أليست القيم سلعة مطلوبة اليوم؟ ألن تكون القيم والآداب والفكر والفنون النقية هي المطلب الذي عز معه كل مطلب في رهان التنمية البشرية؟ ألن تكون الثقافة، كمشروع نهضوي أولي للمجتمع؟ قرأت في ما قرأت أن استخف بمحمد بن عيسى وزير الاتصال المغربي سابقا والأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة حاليا( أصيلا مدينة مغربية ساحلية بشمال البلاد)، الرجل راهن على الثقافة كقطب تنموي للمدينة، طبعا غذت المدينة في ما بعد محجا ثقافيا وسياحيا دوليا، ودر عليها الكثير والكثير...أعود أيضا من جهة أخرى، وأستقرئ تاريخيا علاقة السلطوي بالمثقف، وبكثير من الأسف، فمعظم صناع القرار السياسي يعانون من فقر ثقافي، وإلا لم هجر مفكرونا السياسة إلى الأبد، ألم تكن الأندلس قلبا فكريا وأدبيا وعلميا وثقافيا نابضا في عقر أوربا، بل لا ينكر أحد فضلها على نهضة أوربا منذ العصر القروسطي، ألم يكن رجل السلطة فيها أديبا ونديما للفلاسفة والمناطقة وغيرهم؟ فكانت بحق فردوسا مفقودا( وأجدد بكثير من الحسرة) أنها نموذج فردوس مفقود، بيد أنه من الممكن محاكاته راهنا، أكيد يمكننا بعثه كأن نتخيل مثلا ابن خلدون على رأس الحكومة، والمعتمد بن عباد رئيسا لحزب أصيل من أحزابنا الحالية، و ابن زيدون يملك سلسلة مقاهي أدبية غير التي نملكها الآن تلك المغمورة بالشيشا والثرثرة الفارغة، أو أن يكون ابن رشد عمدة مدينة ما، وولادة بنت المستكفي رئيسة شرفية لجمعية حقوقية نسوية، وابن حزم رئيس جماعة قروية نائية، دون أن ننسى( مقدم الحي)* على الأقل أوشحه برتبة شاعر جماهيري يطرب سكان الحي.
* مقدم الحي: رادار بشري توظفه السلطة على رأس كل حي. سعيد السوقايلي كاتب مغربي