« ربما كان علي أن أجعل كل جزء في حياتي يحوي جزء من كل جزء في حياة الأناس الآخرين ، كما في الرواية ، حيث كل جزء يتصل حيويا بالكل » عبد الرحمن منيف كان أثاث الحجرة مبعثرا في جميع الأرجاء. مؤكد أن الجميع رحلوا على عجل. لم يكن لديهم متسع من الوقت. رحيل تحت الإكراه.. هكذا بدا لي المكان لأول وهلة.. رحيل تحت الإكراه.. لا ريب و لا عجب في الأمر. فالواحد منا يضطر ركوب الهول دون أن تكون له رغبة في ذلك .. هو الإنسان .. هكذا .. يلهث وراء الاستثناء .. يبحث عن المفقود .. يتحرك بفعل الضغط ، أو الاندفاع .. الرتابة نفسها تجعلنا نقدم على تحريك السواكن .. لا شيء سوى للانفلات من الرتابة نفسها .. نجتر العديد من مآسينا .. تتوالى الفواجع .. يعيينا الندب و النواح .. نألف كل شيء .. كل شيء يصبح رتيبا .. قد نفكر في إطفاء كل الشموع .. هيمينغواي يحمل بندقية والده . إنها بندقية صيد . يفرغ ما بداخلها في جوفه . فيضع حدا للرتابة . رتابة العيش . كما فعل والده من قبل .. السلمون نفسه ينجرف نحو المياه العذبة لتصطاده أظفار دب كسول ، أو كاسر يهوي من عل ، يختطف سمكة ، كما لو كان يجبرها على التحليق في الجو بالزعانف بدل الجناحين .. هكذا كانت ملاقاتي للسيد سين . كل شيء رتيب .. ترك المكان و رحل .. حتى أنفاسه تركها هناك . كنت وحدي من يعلم سريرته . هو هكذا . نشاز في كل شيء ، و مع ذلك لم يتركوا له فرصة للخلاص من نفسه .. هي أحلامه التي شغلته و شغلت الآخرين معه . كنت ألقاه بين الحين و الحين . أناديه فلا يجيبني سوى بعض من صمته .. ثم أصرخ فيهم " اتركوا السيد و أحلامه ... " .. ها هو قد انجلى .. المكان رهيب . فوضوي .. لوحة سوريالية .. تركوه كما هو عليه .. لقد حمل السيد سين جثته و رحل . حتى أوراقه الشخصية تركها هناك . لم يكن في حاجة إليها .. و ما الهوية ؟ أعرف أنه لا يكترث بمثل هذه الأمور .. كان دائما يقول لي " هراء . لا شيء سوى الهراء . لماذا يلزم الواحد منا تبرير وجوده بمثل هذه الإجراءات ؟ " .. هويته في مكان ما من جلده .. أخبروه أن موعد الرحيل قد حان . حتى المرحاض ترك نوره متقدا ، و ذاك الشيء مطروحا هناك و قد يبس و اسودٌ .. المهم عنده هو النفاذ بجلده .. على المكتب أوراق و قلم و بضعة كتب و جرائد لا يمكن تبين عناوينها بسبب تراكم الغبار فوقها .. كان حريصا على ترتيب مكتبه . يجلس لساعات هناك دون ضجر . المكتب ملجأه من هذا العالم و صخبه . يستعمل الورق الأبيض . . عندما يهم بالكتابة يرتب حزمة من الأوراق البيضاء أمام عينيه . ينظر إليها طويلا ، و كأنه يقرأ البياض أو يحادثه أو يهمس إليه ، ثم يتراجع إلى الوراء و هو جالس فوق كرسيه المتحرك . يضع قدميه الحافيتين فوق تلك الحزمة من الأوراق . يفركهما ثم ينهض نحو المطبخ يبحث عما يسكت به ألم معدته و قد يعود للكتابة أو لا يعود إلا في وقت متأخر من الليل .. هكذا كان السيد سين يقضي يومه .. هو لا يعد الأيام . يحسب الوقت مسترسلا ، كالسيل المتفق دون انقطاع .. كان سين صديقا منذ الطفولة . كثير الانطواء و العزلة . كلما زرته في حجرته هذه . أحادثه . فيجيب بعبارات مختصرة و كأنه يبعث برقيات مستعجلة .. يجيد الصمت . لازلت أذكر كلماته يتردد صداها في مسمعي : اسمع يا صديقي . أجمل ما في الطبيعة ، جمال عنفها .. صمت الصحراء و الكثبان و الفيف .. تخلبنا و هي تتحدث لغة لا يفهمها كل الناس .. هي لغة الصمت .. " . ثم ينهض . يغادر مكتبه . يحضر بعض القهوة ثم يقف قبالة النافذة المطلة على "جامع لفنا" بينما أكتفي بالنظر إليه من مكاني .. يدرك تماما أنني أكره هذا الصمت و هذه الرتابة .. يبتسم تارة و تتشنج قسمات وجهه تارة أخرى .. ثم يسترسل : انظر إلى كل هؤلاء القوم . إنهم يختزلون واقعهم كله هنا . في هذه الساحة . يكفيك أن تطل عليهم من هذه النافذة ، لتقف على أفراحهم و مآسيهم .. أنا أيضا واحدا منهم . و أنت أيضا مكانك بينهم .. كم مرة تخيلت نفسي وسط حلقة من حلقات الجامع و الناس من حولي يتفرجون و كأنهم يكتشفون مخلوقا عجيبا . يقول كلاما غير مفهوم . ربما يعود إلى عهد أهل الكهف . أو كأني أخاطب الديتنصورات .. و هم يتناولون الساتدويتشات المحشوة بما لست أدري .. يصفقون و يقهقهون . يجودون بقليل من المال .. ألا ترى معي أن في الأمر قليلا من الغباوة ؟ يبتسم فتنكشف أسنانه مفلجة مصفرة من أثر التدخين . تضيق عيناه و تكاد نظاراته الطبية تسقط من على وجهه ، فيعيدها إلى مكانها بخنصره . يرشف رشفات من فنجان القهوة الذي بين يديه ثم يعود إلى مكتبه فيستوي قاعدا على الكنبة .. حينها أفهم أن موعد الزيارة قد انتهى .. أودعه . أتركه شاردا ينظر في اتجاه النافذة دائما .. العالم ، بالنسبة إليه ، مجرد نوافذ . يفتح هذه و يغلق أخرى . يطل على هذه المخلوقات و على نفسه . الآن و قد رحل السيد سين ، انتهى كل شيء . غاب سين .. قد يعود يوما ما ، من بين سراديب الزمن .. يلفظه عبث الأيام .. يستل من بين ثنيات ذاكرتنا .. لقد كان مخبولا بجمال الدياجير .. سوف يخبرنا عن السر العظيم و عن بلد الحمائم و منبت الشمس و عن الدجال و أرض بلا سماء . مساء الخير أيها العم سين . كم مرة نبهتك و قلت لك أن بني جلدتك يقرفهم شغبك .. انزواءك و أنت ترقب عوراتهم خلف زجاج النافذة .. هذا سبب متاعبك . حتى و أنت خارج الصورة ، لن تفلت من أذاهم . ستلاحقك ألسنتهم المشققة بفعل ما يزدردونه من ساندويتشات. أم تراك نسيت طعمها ؟ و من يدري ، لعلك ترقبهم من شرفة أو من قمة جبل هناك . أو من أي مكان . فأرض الله واسعة خلقت ليسلك منها السهل و الجبل .. قد تكون بين .. واحدا منهم .. أو هي صورتك تتجلى .. تتشكل من جديد ، فتملأ الفراغات .. أتخيلهم مثل تلك المخلوقات التي أعياها اللهاث و الجري و الحر و الجوع ، فقرفصت و قد فاضت ألسنتها و تدلت ، تكاد تلامس أعضاءها التناسلية .. إنهم في كل زاوية ينظرون .. ينتظرون أحدا ما .. المهم عندي أنك قد رحلت ، و لم تعد خلقتك مرسومة على شاشاتهم . و صورك مدسوسة في محافظهم .. المهم عندي أنك قد رحلت .. لم تخبرني بذلك . حتى أنا أقرب الناس إليك .. لكن لا عليك . أنا أتفهم الأمور . سأروي سيرتك ، إلى أن يحين الرحيل . أو تعود من رحيلك في الحياة . ================== محمد حماس وجدة في يونيوه 2000 هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته