"استثناء" مجموعة قصصية صدرت في مطلع هذا العام للكاتب المغربي إبراهيم الحجري عن منشورات مقاربات في المغرب، وتضم هذه المجموعة ستة عشر قصة بالإضافة إلى ثلاثين قصة قصيرة جداً، وهي الإصدار الرابع للحجري بعد كل من، أبواب موصدة، أسارير الوجع العشيق، وآفاق التجريب في القصيدة المغربية الجديدة، في مجموعة " استثناء " نطالع كتابة تتميز بالحيوية، مفعمة بروح قلقة، مارس فيها الكاتب حرية كبيرة تجلت في تعدد أبعادها الإشارية والرمزية، كتابة حادة نافذة ساخرة مؤلمة ومضحكة على طريقة كوميديا حتى الموت، كتابة تنفذ إلى ما في صميم الواقع، تهدينا فائض مراراته وتدعونا للوقوف على جمره، تارة تصنع الأسئلة، وتارة أخرى تحول المأساة إلى مهزلة ، كما نجدها تحمل موقفاً من الكون والحياة من خلاله تسعى للقبض على هذا الوجود المراوغ ، من خلال مقاربات تفكيكية تعيد ترتيب مفردات الواقع في نسق مختلف ، حيث يخلق الحجري عالماً جديداً فيه يعيد تشكيل الحياة سرداً بخبرة جمالية من خلال قصصه وما تحتويه من مواقف شعرية وصور إنسانية متنوعة ، قصص متفرقة تصف بمجموعها التناقضات المتصارعة لواقع يتداخل فيه صالحه مع فاسده ، وصحيحه مع سقيمه ، كما تعبر عن الإنسان الذي يتجرع كل ذلك ، وماذا يمكن أن يرجوه من يعيش في خضم هذا الواقع من انعتاق وتطور . تدور قصص هذه المجموعة في ظروفها الزمانية والمكانية الخاصة ، إلا أن ما تثيره هذه القصص بشكل خاص من أسئلة وقضايا لا تنفصل عن واقع القارئ في العالم العربي بشكل عام كموت الحلم وضيق باب العيش، فالفرد في قصص الحجري هو إنسان هذا العالم في هذا الزمن بوضعه المتأزم وإحباطاته الدنيئة، وما يحمله هذا الإنسان من عداء مع الواقع المحاط بكل التناقضات والتحديات، فإبداع الحجري المؤسس على تراب الواقع المغربي لا ينفصل أبداً عن الواقع العربي ولا عن واقعه العبثي الذي لا يهادن ، يكتب الحجري عن تعقيدات واقع يحيط بجيل عربي يعطل ويحطم عن عمد ولا سبيل للخلاص إلا أن ينجو كل بنفسه وأن يحطم المرء منفرداً ما يواجهه من سدود تحده وقيود تأسره . ففي قصة " عطالة الزمن الأخرس " نقرأ عن شاب هو نسخة عن آلاف ، هذا الذي يجوب في شوارع الضياع : " يحمل الجريدة. يتفحص عناوينها. يثيره بيان عريض "اعتصام الطلبة المعطلين أمام مقر البرلمان لمدة أربع وعشرين ساعة" يبصق. يرمي الجريدة أدراج الريح. يهتف بصوت مسموع : - اللعنة، ما حدها تقاقي وهي تزيد في البيض . " . وفي قصة " مجرد أمنية مجرد وهم " ، نقرأ عن الأم التي خسرت كل شيء في سبيل أن يصير ابنها بطلاً ، أم أرسلت ابنها إلى الجامعة محتملة نار فراقه ، وكان عليها بعد ذلك أن تحتمل الخيبة واليأس وأن تستيقظ من أحلامها الوردية لتجد العالم رماداً أزرق وأن تظل كبدها تنبض بحب فلذتها حسرة وأسى ، بل وعليها بعد كل ذلك أن تكون هي من تواسي وتحاول أن تبث أملاً لا تراه ، يعبر الحجري في قصته عن هذه الأم مستعيناً بالدارجة المغربية : "ديها فصحتك آوليدي. وما تخليش اليأس يتسرب ليك. دبا يفرج الله. واش ما تصبرش لحكم الله. توكل على الله ودير شي بيعة وشرية تايحن الله وتعيط النوبة. الله يجعل ربي والصالحين يكونو في جنبك" . وفي قصة " حوار الأعين " تواجهنا العطالة مرة أخرى ، حين نطالع تلك العبارة التي تطلقها جثة مرمية على حافة نهر جاف : " طلقتني الجامعة دون صداق ولا نفقة زهيدة بعد أن رمت في وجهي ورقة جوفاء " . في قصة " النظر من تحت " يصور الكاتب حال القرى البائسة وحال القاطنين في تلك الأماكن الجغرافية القصية حيث النأي والانعزال والتهميش ، ونرى كيف أن هذا النأي المكاني يتبعه نأي زماني وإنساني أيضاً ، نقرأ في تلك القصة عن قرية يصفها الكاتب قائلاً : " هنا آخر قرية في العالم ، نائية جداً ، أبعد من الصين ، ربما لا تستوطن على الخرائط ، هنا يضيع كل شيء بين طيات سؤال عريض ، حيث ينصرف الفعل تاه إلى جميع الضمائر باستثناء ( ... ) مجرد استثناء صغير ، لم تستطع زخات تلك السحب اليتيمة أن تغسل الوجوه من غبار الأسى ، ولم تقدر على إنعاش الأعشاب الصامدة منذ قرون ، كأن المطر ينزف ناراً أكولاً تأتي على الأخضر واليابس " . تحتوي المجموعة أيضاً على عدد من القصص القصيرة جداً والتي تروي وتخبر عن الكثير على الرغم من هذا القصر ، فنجدها محملة بكم هائل من الأفكار والدلالات ، حيث اعتمد الكاتب الاختصار الشديد وتكثيف المعاني وتقطيرها من خلال لغته الرامزة وكلماته المثقلة بالإيحاء ، وفيها أيضاً تتجلى قدرة الكاتب على المفاجأة واقتناص اللحظة والتعبير عن اللمحات الخاطفة ، أفكار متنوعة يعبر عنها الكاتب بنصوص قصيرة بشكل شديد الاختصار وكذلك شديد القسوة ، كما في قصة " نافذة الإغاثة " التي هي نافذة الوطن الكبرى المشرعة على الأطلسي ، هذا المحيط الذي يبتلع من تقذف بهم المأساة الكبرى التي يلخصها الحجري في قصته حيث يقول : " الوطن مقبرة كبرى للفقراء.. صبروا وصابروا أكلوا التراب ويرني وسفوا دقيق الحجارة والعظام ونافقوا كثيرا وجاملوا كثيرا وقالوا العام زين وقالوا: المجد للحكومة.. وضحكوا في الشاشات ووسائل الإعلام.. غسلوا سحن القلق بعرق المكابدة .. أخفوا سلالة الألم .. صفقوا للنخب وصبغوا أوجه المسؤولين بالمحاباة.. لكنهم سرا انتحروا حيث رموا أنفسهم بشكل جماعي من نافذة الوطن المشرعة على الأطلسي.. ما توا غرقا في المحيط متمسكين بإصرارهم على التصفيق للمسؤول وإخفاء التذمر من زحف جراد الفقر " . ونجد أن بعض هذه القصص القصيرة على إيجازها تحفل بالشاعرية المركزة ، كما في قصة حياة : " ولد. صرخ. حبا. مشى. ضحك. بكى. تعلم. شب. أجيز. تعطل. ناضل. سجن. ترشح. فاز. استغل. اغتنى. افتقر. صلى. حج. ضعف. مرض. مات. دخل جهنم " . نقرأ تلك القصة فإذ بالحجري يواجهنا بتلك الكلمات المتلاحقة السريعة ، التي تلخص لنا حياة كاملة من الميلاد حتى الموت لا بل حتى نهاية النهايات إذ يصل إلى العقاب الأخروي ، تلك الكلمات الصغيرة التي تلخص كل كلمة منها مرحلة كاملة من تلك الحياة تحمل دلالات بالغة فكأنها الحياة نفسها بقصرها وعبثها وخيبة من يسعى من أجلها . وفي قصة " كاتب " ، ففي سطور قليلة يتناول الحجري مسار كاتب يصور من خلاله كم العبث الذي يحكم كل شيء ، يقول الحجري : " دخل الشاب الذي كان بالأمس طفلا إلى المكتب. على المكتب أقلام وأوراق. أخذ القلم وكتب. كتب عن نفسه وعن صديقته وعن عاهراته ومدينته التي يمزقها البؤس. كتب عن غرائزه المشبوبة. كتب عن حبه لبنت الجيران. كتب عن معلمه الفض. مزق كل ما كتب. طحنه في المونيليكس مع التفاح وعسل البلد. دلقه كله دفعة واحدة. أعاد كتابة ما مزقه بأسلوب رديء. استضافه برنامج تلفزيوني. أجرت معه جريدة جهوية حوارا. انتفخ مثل طاووس. توسط له صديقة الذي يشبع خمرة على حسابه كل رأس شهر في الحصول على عضوية اتحاد الكتاب. سكر. شرب في كل الحانات. جال المدن القريبة. دخن. طلق الكتب والدراسة. تبول على القيم. أصبح كاتبا " . "استثناء" عين كبيرة أو نافذة متسعة تطل بنا على بانوراما التناقضات الصارخة والألم الكبير في خضم الواقع الغريب الشاذ الذي لا يمكن التحكم به ، تتجلى فيها القدرة على الكتابة بذكاء وسخرية وشاعرية في آن ، كتابة تسعى بحرية بين الجد والهزل والواضح والرمزي ، تنز سخرية هي في جوهرها أقصى درجات الاستنكار ، هي كتابة تسعى إلى ما هو استثنائي . د. مروة متولي