تتواصل فصول الأزمة "الصامتة" التي أصبحت "ناطقة" بين باريسوالرباط، فبعدما كانت تنحصر في مسألة التأشيرات، أصبحت اليوم على مستويات عدة، لتشمل بذلك التمثيل الديبلوماسي والزيارات الرسمية، وشبهات "ضلوع فرنسي" في الإدانة البرلمانية الأوروبية الأخيرة، ولحدود الساعة ما يزال ماكرون ينتظر تحديد المغرب لموعد رسمي لزيارته المؤجلة… ومن أجل الوقوف على مسببات هذه الأزمة واستشراف مستقبل العلاقات المغربية الفرنسية في ظل المستجدات الحالية، حاورت "الأيام 24″ المحلل السياسي والخبير في العلاقات الدولية، محمد شقير، صاحب كتاب " جدلية الموت والسياسة بالمغرب".
حاول ماكرون خلال الأيام الماضية التقليل من "التوتر" الحاصل بين باريسوالرباط، ليتحدث عن وجود صداقة قوية له مع العاهل المغربي، لكن الرد المغربي كان سريعا عبر مصدر رسمي الذي نفى تصريحات ماكرون، وقال إن العلاقة بين البلدين ليست جيدة على جميع المستويات، كيف نفسر هذا الرد؟ "هذا النفي المغربي هو تعبير صريح من قبل الرباط عن رؤيتها تجاه سياسة ماكرون، والتي لم تستجب لحد الأن لأرضية التفاوض التي وضعها العاهل المغربي، والتي تنبني بالأساس على ضرورة خروج النظام الفرنسي من "المنطقة الرمادية"، خاصة في ظل جنوح عدد كبير من الفاعلين الأوروبيين في تعديل مواقفهم تجاه قضية الصحراء، وبالأساس المبادرة المغربية للحكم الذاتي، وهو التوجه الذي ما تزال فرنسا تقاومه، وتناور بشكل كبير في تصريحاتها تجاه المغرب، بل وتفتعل العديد من الأخطاء عوض إصلاح مسار العلاقات، وهو ما يتصدى له المغرب باستمرار…"
مقاطعا…هل يمكن أن نعتبر هذا النفي كمحاولة مغربية لتبيان حقيقة العلاقات مع فرنسا أمام الرأي العام في باريسوالرباط؟ "نعم هذا أمر صحيح بشكل كبير، لأن ماكرون كان يتلاعب بالكلمات عند جوابه للأسئلة الصحافية، والنفي هو تأكيد صارم وتكذيب للتصريحات الرئيس الفرنسي، ويضعه بذلك في موقف محرج أمام الرأي العام، ويشكك في مصداقية أقواله، لأن ماكرون حاول التقليل من الأزمة وكذا وضع ردود الفعل المغربية في مستويات أقل، والرباط يبدو أنها ملت من تلاعب ماكرون بتصريحاته حول العلاقة مع المغرب".
نفت فرنسا ثلاث مرات علاقتها بالتصويت البرلماني الأوروبي الأخير ضد المغرب، لماذا لم تقتنع بعد الرباط بالنفي الفرنسي؟ "الرباط تعلم أن فرنسا تحركت في الإدانة الأوروبية الأخيرة، وإن حاولت مرات عديدة نفي ذلك، فالخطاب المزدوج الذي تقوم به سياسة ماكرون، أصبح معروفا لدى المغرب منذ زمن الرئيس الراحل جاك رينيه شيراك، وبالتالي فالسياق العام الذي تمر به العلاقات بين البلدين يفسر عدم وجود اقتناع مغربي بالتبريرات الفرنسية، فعديد من الدول الأوروبية تجنبت الضلوع في القرار البرلماني، وإن شاركت أحزابها اليمينية المعروفة أصلا بعدائها للمغرب، لكن من أسس هذه الإدانة هو الحزب المقرب من ماكرون، وهو ما يعزز الشكوك التي تحملها الرباط".
بعد زيارة المفوض الأوروبي المكلف بسياسة الجوار أوليفير فاريلي للرباط، تم التأكيد على عمق الشراكة بين الطرفين، هل يمكن أن نعتبر هذه الزيارة بمثابة إعلان فشل ضغوط البرلمان الأوربي بقيادة فرنسا على المغرب؟ "نعم هو إعلان لإقبار هذه المحاولة الفرنسية، وهو السيناريو الذي تكرر بعد فشل الجهود الإسبانية في البرلمان الأوروبي لدعم موقفها ضد الحكم الذاتي، قبل أن تقوم بتغييره، بإقالة وزيرة الخارجية الإسبانية، أرانشا غونزاليس لايا، فحاليا فرنسا حاولت الضغط على المغرب من خلال الإدان البرلمانية الأوروبية، لكن التصدي المغربي كان قويا، والذي تزامن مع وجود شركاء بأوروبا تختلف توجهاتهم الخارجية مع المحاولات الفرنسية، ويعتبرون المغرب حليفا قويا في المنطقة، وهنا الحديث بشكل أساسي عن إسبانيا الحليف الاستراتيجي الجديد للمملكة، والتي ستترأس الاتحاد الأوروبي قريبا، وهو ما سيقوض كل الضغوطات الفرنسية على المغرب".
ننتقل إلى أزمة التأشيرات التي أعلنت وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرينا كولونا عن طيها خلال زيارتها الأخيرة للمغرب، قبل أن يكتشف المغاربة عكس ذلك بعد رفض باريس غالبية طلباتهم للحصول على التأشيرة، هل يمكن أن نضيف هذا الأمر في خانة مولدات الأزمة الحالية؟ "أزمة التأشيرات هي دليل على ازدواجية الخطاب لدى فرنسا تجاه العلاقات مع المغرب، فباريس لم تغير من سياستها تجاه المغاربة فيما يتعلق بالتأشيرات، على الرغم من خطابات مسؤوليها، وهو ما تفسره السلطات المغربية كون باريس ما تزال تتخذ مسألة التأشيرات كمحاولة للضغط على الرباط، وهو ما يجعل المسألة مستمرة في حلقة مفرغة في ظل استمرار التوتر بين البلدين".
من التأشيرات إلى قضية "بيجاسوس"، هل يشكل رفض القضاء الفرنسي دعوات الرباط ضد الصحف الفرنسية التي اتهمته بالتجسس على الرئيس الفرنسي، سببا إضافيا لهذه الأزمة؟ "لا بيجاسوس، ولا التأشيرات، ولا الإدانة الأوروبية، ولا الحملة الإعلامية للصحف الفرنسية ضد المغرب، ما هي إلا وسائل ضغط تتخذها باريس تجاه المغرب، فهي لعبة أصبحت واضحة، وهي في الحقيقة لن تعطي نتائج إيجابية للطرف الفرنسي، فهذه اللعبة المزدوجة نفسها هي ما تزيد من تعميق الخلاف بين الطرفين، وتولد تنافسا جديدا بين البلدين، خاصة في العمق الإفريقي، ففي الوقت الذي يقوم به ماكرون بزيارة إلى دول الساحل، يقوم أيضا العاهل المغربي بزيارة للمنطقة التي بدأت لا تخفي امتعاضها من التواجد الفرنسي".
الأن باريس في وضع صعب بعد تأزم العلاقات أيضا مع الجزائر، من خلال قضية الناشطة "بوراوي"، وذلك بعد شهور من الإعلان عن شراكة استراتيجية جديدة، هل بدأ أيضا النفوذ الفرنسي بالمنطقة المغاربية كما في منطقة الساحل في التراجع؟ "راسموا السياسة الفرنسية بقصر "الإيليزيه" لم يستوعبوا بعد المتغيرات التي بدأت تقع في المنطقة المغاربية، وافريقيا بشكل عام، سواء من خلال تواجد قوى عالمية جديدة، أو من خلال تغير النخب السياسية الحاكمة في هذه البلدان، والذي أصبح يفرض على فرنسا التخلي عن سياستها القديمة تجاه هذه الدول، وعكس ذلك، سيؤدي لا محالة للتراجع النفوذ الفرنسي بأفريقيا وخاصة بالمنطقة المغاربية".
بالحديث عن المنطقة المغاربية، الأن المغرب يقيم تحالفا استراتيجيا مع دولة إسرائيل، كيف تنظر باريس إلى هذا الحلف؟ "هذا التحالف، هو أحد العوامل الرئيسية التي دفعت فرنسا إلى اتخاذ مواقف معادية ضد المغرب، إذ تعتبر باريس هذا التعاون الثلاثي بين الرباط وتل أبيب وواشنطن، تهديدا مباشرا لمصالحها الاستراتيجية بالمنطقة، فهي تعلم أن الصفقات العسكرية والاقتصادية للمغرب في المستقبل ستكون مع إسرائيل أو الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو ما سيزيد من تقزيم مصالحها، خاصة وأن إسبانيا أيضا أزاحتها من عرش المبادلات التجارية مع الرباط…".
مقاطعا… سنأتي للشراكة الاسبانية المغربية لاحقا، لكن قبل ذلك قد أعلن وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة الأسبوع المنصرم، عن وجود تنسيق أوروبي-مغربي-إسرائيلي حول القضايا الإقليمية، هل نفهم من ذلك أن فرنسا العنصر الفعال في الاتحاد الأوروبي بدأت تغير من نظرتها تجاه التحالف "المغربي-الإسرائيلي"؟ "باعتبار تل أبيب حليف استراتيجي جد مهم لدى الولاياتالمتحدةالأمريكية، الأخيرة التي تعتبر الصانع الأساسي للسياسة الدولية، خاصة في ظل الصراع مع روسيا على ضوء الحرب في أوكرانيا، إذ تسعى إدارة بايدن إلى الضغط بجميع الوسائل، حتى يكون هناك توافق بين الحلفاء أبرزهم الدول الأوروبية، وهو ما سيجعل فرنسا تعي بأهمية التحالف الثلاثي بين المغرب وإسرائيل والولاياتالمتحدةالأمريكية، خاصة في مواجهة المد الإيراني في المنطقة، لكن باريس لم تجد بعد الطريقة لانسجام مع هذا التوجه المغربي، فهي لم تستطع بعد الموازنة في علاقاتها بين الرباطوالجزائر، وهي الإشكالية المركزية في الأزمة الفرنسية المغربية".
هذا "الفشل" في تحقيق توازن في العلاقات بين الرباطوالجزائر، ألا يتكرر مع محاولات حكومة بيدرو سانشيز التي انتهت بحدوث أزمة غير مسبوقة مع الرباط، قبل أن تلجأ مدريد أخيرا إلى تعزيز الشراكة مع المغرب، وتتخلى عن الجزائر… هل تذهب باريس في منحى مدريد؟ "السياق الزمني بكل تأكيد سيجبر فرنسا على اتباع نفس الخطى التي اتبعتها حكومة سانشيز بإسبانيا، الأخيرة التي كانت سباقة إلى إيجاد حلول لأزمتها مع المغرب، وفهمت أن العلاقات مع المغرب أكثر أهمية من العلاقات مع أي بلد في المنطقة، وحاليا فباريس لم تستوعب بعد هذا الأمر، إذ ما يزال ماكرون يؤمن بتحقيق عملية توازن في العلاقات بين الجزائر والمغرب، على الرغم من المتغيرات المتصاعدة، وهو ما يوضح كون النخبة الفرنسية المحيطة بالرئيس لا تمتلك الشجاعة الكافية للإقرار بصعوبة مهمة تحقيق التوازن".
الشهر الماضي عقدت القمة الثنائية بين المغرب وإسبانيا، وتم تجديد الشراكة الاستراتيجية والتأكيد على موقف قصر المونكلوا الإيجابي من مخطط الحكم الذاتي، كيف ترى باريس النمو المضطرد للعلاقات المغربية الإسبانية؟ "فرنسا ترى هذا النمو في العلاقات بين مدريدوالرباط، كتهديد مستمر للنفوذها بالمملكة، إذ تعتبر ورقة التنافس بين اسبانياوفرنسا، أهم وسيلة ضغط لدى صناع السياسة الخارجية المغربية، من أجل إقناع المسؤولين الفرنسيين بضرورة تحديد موقف واضح من قضية الصحراء، خاصة وأن رجال الأعمال والشركات الفرنسية بدأت ترى باستياء لمواقف بلادها من المغرب، ولما لذلك من تأثير واضح على مصالحهم الاقتصادية، التي بدأت الشركات الإسبانية تستحوذ عليها".
على الرغم من الأزمة الديبلوماسية، فأرقام المبادلات التجارية لسنة 2022، ارتفعت بين المغرب وفرنسا، هل تطوي المصالح الاقتصادية بين البلدين، صفحة الخلاف الدائر؟ "في العلاقات الخارجية للدول أصبح المتغير الاقتصادي يلعب دورا مركزيا، وبين المغرب وفرنسا مصالح اقتصادية جد مهمة، وأكيد أن لوبيات الاقتصاد بين البلدين ستضغط على صناع القرار من أجل إعادة التنسيق المشترك، ولو من خلال إيجاد صيغة مناسبة للحفاظ على مصالح الشركات الفرنسية بالمغرب، خاصة وأن الأخير بدأ يوجه ضربات قوية لبعض الشركات الفرنسية كمثال عدم تجديد عقد شركة "ليديك" بالدارالبيضاء…، وهو ما يوضح وجود ضغط مغربي على المصالح الاقتصادية لفرنسا".
الأن المغرب يواصل عملية الضغط على فرنسا إذ ما يزال التمثيل الديبلوماسي للرباط بباريس فارغا، هل تنجح المحاولات المغربية في تغيير الموقف الفرنسي من قضية الصحراء، كما فعل ذلك مع ألمانيا وإسبانيا؟ "نجاح المغرب في معركته الديبلوماسية مع ألمانياواسبانيا وهولندا وغيرها من الدول الأوروبية، أعطى للرباط شجاعة كافية لمواجهة المواقف الفرنسية، خاصة وأن السياق الحالي يشجع على تحقيق هذا الانتصار الديبلوماسي، فالمغرب الأن يلعب على عامل الوقت، فحتى لو صمد ماكرون أمام الضغوط المغربية، فالأخيرة ستصمد هي الأخرى وستراهن على قيادة فرنسية مستقبلية، فالرباط تمتلك هامش الحرية والوقت، وعديدا من الأوراق التي يمكن أن تستخدمها ضد ماكرون، سواء التحالف مع تل أبيب وواشنطن، أو تنويع الشراكات الدولية خاصة مع الصينوروسيا، وأيضا الشراكة الاستراتيجية مع إسبانيا، إذن تغير الموقف الفرنسي هو مسألة وقت فقط".