* حاوره: رضوان مبشور في هذه الصفحة، نستمع للمؤرخ والمحلل السياسي معطي منجب، الذي يفكك الخطاب الأخير للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عندما تساءل: "هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟"، وهو الخطاب الذي وجد له صدى في المغرب، خاصة وأن إيريك زمور، وهو سياسي فرنسي من أصول يهودية جزائرية ذهب بدوره في نفس الاتجاه مما خلق نقاشا واسعا هنا وهناك. معطي منجب يحاول أن يمسك العصا من الوسط، ويرفض في تحليله أن ينساق في اتجاه الركوب على تصريحات ماكرون وإيريك زمور ومهاجمة الجزائر، محافظا على قبعته الأكاديمية كأستاذ للتاريخ، ليشرع في تفكيك كلامهما بالعودة إلى التاريخ الجديد والقديم، ليخلص للقول أن مفهوم "الدولة الأمة" لم يظهر سوى في نهاية القرن ال 18. لنتابع ! كيف تعلق على النقاش الذي خلقته الخرجة الأخيرة للرئيس الفرنسي ماكرون، عندما قال إن الجزائر لم تكن أبدا أمة، وأن فرنسا هي من خلقتها، علما أن هذا الكلام وجد له صدى في المغرب؟ كدارس للتاريخ ومهتم بالعلاقات الفرنسية المغاربية، يجب أن نضع خرجة ماكرون في سياقها السياسي. الرئيس الفرنسي الحالي ليس شخصية يسارية، بل من الوسط، ويعول في حملاته الانتخابية على اليسار الوسط واليمين الوسط. عندما نتحدث عن اليمين الفرنسي فجزء كبير منه، له مواقف عنصرية أو على الأقل قومية تعيش وكأنها تفاخر كل القوميات الأخرى بماضيها وحاضرها… فهذا هو الاتجاه القومي على العموم. ماكرون له مشكل في مواجهته للرأي العام، الذي أصبح يشكل فيه اليمين الأقصى العنصري دورا كبيرا، وله ثقل انتخابي كبير، تمثله مارين لوبان، ابنة جون ماري لوبان، ويمثله كذلك إريك زمور. ماكرون فشل إلى حد ما في السياسة الاقتصادية، ولذلك أصبح يعتمد في خطابه على القومية. علماء السياسة يقولون إن «القومية هي الإديولوجيا الطبيعية للشعوب»، وهي تؤثر وسط الشعوب، خاصة من لديهم ثقافة سياسية ضعيفة. عندما يهاجم الفرنسي الجيران سواء أكانوا ألمانا أو بريطانيين أو مغاربيين فهذا يمكن أن يحقق بعض الكسب السياسي، فالإديولوجيا لا تكلف مالا بل كلاما فقط. كما أن الخطاب القومي لا يحتاج وقتا ليشتعل، بينما السياسات الاقتصادية تحتاج إلى المال والجهد والوقت. الزعيم السياسي، إذا كان له خطاب قومي أو ديني أو هوياتي على العموم فهو يخاطب غالبية الجماعة التي ينتمي إليها، أي باختصار» قومه» فيحقق شعبية صعبة المنال بطرق أخرى خاصة وأن المرحلة التاريخية الحالية التي تعيشها الإنسانية هي مرحلة القوميات. الخطاب القومي لا بد منه لأغلب الاتجاهات السياسية، فهو كما قلت سابقا سهل، وثانيا لأنه جامع لأغلبية الشعب. لكن يبقى السؤال لماذا لم يوجه ماكرون خطابه القومي مثلا ضد ألمانيا أو بريطانيا؟ الجواب لأن خط الانكسار الهوياتي الثقافي مع الأوربيين غير قوي كما أن ذلك يمكن أن يشكل خطرا على الاقتصاد الفرنسي وكذلك على مصالح كثير من الفرنسيين، بالإضافة إلى أن عموم الأوروبيين سيرفضون مثل هذه الخطابات القومية ضد بلد أوروبي، ولذلك فماكرون اختار المكونات الضعيفة في مجال التماس أو التحرك الفرنسي لمهاجمتها، ولذلك وجه خطابه القومي ضد شمال إفريقيا بما فيها المغرب والجزائر. لكن هو هاجم أساسا الجزائر، ولم يتحدث مثلا عن المستعمرات السابقة الفرنسية في المنطقة المغاربية سواء المغرب أو تونس؟ يجب أن لا ننسى أن قرار فرنسا بخفض عدد «الفيزات» مس بنفس المستوى الجزائر والمغرب، كما أن خطابه ضد المهاجرين وأساسا المغاربيين يستهدف الجميع. أما في ما يخص تصريحه الأخير فهو اختار الأضعف، الجزائر، أولا لأنه نظام عسكري، فماكرون يمكن أن يهاجم النظام الجزائري من دون نتائج سياسية عكسية. الجزائر هي التي مات فيها عشرات الآلاف من الفرنسيين، بمعنى أن هناك ذاكرة فرنسية أليمة في الجزائر، خاصة وأن هذا البلد بالنسبة لفرنسا كان مستعمرة وليس محمية، فهم كانوا يعتبرونها جزءا كاملا من التراب الفرنسي. بالنسبة إليهم الجزائر مجرد ثلاث محافظات فرنسية، ويعتبرونها تماما مثل كورسيكا أو بروفنس. الجزائر الفرنسية والحرب الدموية للحفاظ عليها تشكل أسطورة مؤسسة لليمين الأقصى الفرنسي. في نهاية المطاف، فماكرون ليس محللا لنحاسبه هل كلامه حقيقي أم ليس حقيقيا، ماكرون لا تهمه الحقيقة حتى ولو كانت الجزائر أمة منذ 20 قرنا فهو سيقول نفس الشيء، فكل ما كان يريد قوله للفرنسيين القوميين أنه ضد القومية الجزائرية التي أضعفت بانتصارها منذ ستين سنة القوة الإمبراطورية الفرنسية. القومية الجزائرية الحديثة بنيت أساسا على محاربة الاستعمار الفرنسي كما أن الأمة الجزائرية قوت هويتها بمجابهة الاستعمار أساسا. بعد جلاء فرنسا من الجزائر وجه العسكر نظره تجاه المغرب ليتابع ولو في الخيال دور البطولة الذي شكله النضال ضد قوة أجنبية، وهذا يوجد في أصل مشروعيته السياسية لكن على المغرب ألا يسقط في الفخ، فالسلام والتعاون بين الشعبين هو الطريق للخروج من مستنقع ما يسمى ب «البوسطكولونياليزم»، ومن مميزاته توجيه العداء للجيران بعد أن كان موجها ضد الأجنبي المحتل، فنفسيا كان لا بد أن تُملأ خانة العدو بأحد ما، فهاته الخانة شكلت لمدة طويلة مكونا أساسيا في ما يسمى المنظمة الرمزية للجماعة ذات الثقافة السياسية المسكونة بالاضطهاد والمعاناة والبارانوايا الناتجة عن واقع الاستعمار الفظيع. يبدو أن ما كان يريد ماكرون قوله هو أن الجزائر دولة حديثة، يعني أنها لم تتشكل سوى في القرن الماضي؟ هذه رؤية إيديولوجية لبعض جوانب التاريخ، وجهها اليوم ضد الجزائر وقد يوجهها غدا ضد المغرب. وحتى إذا كان هذا البلد حديثا، ماذا بعد؟ أمريكا أمة حديثة وهي الأقوى الآن، وسنغافورة أمة صغيرة وناشئة وهي من أقوى الاقتصادات في العالم، وتمكن شعبها من العيش في بحبوحة الوفرة والسعادة. طبعا الجزائر حكمتها سلالة تركية لمدة قرون وإلى بداية القرن ال 19، بينما ماكرون لا يريد أن يعطيها هوية لهذا السبب وهذا سخيف، فحتى فرنسا خلقها الرومان. لكن في نفس خطابه، لم يكن ماكرون يرغب أن يعطي لتركيا دورا مهما لأنها كذلك دولة مسلمة، فعمد لمهاجمتها في نفس التصريح ليسقط في تناقض صريح... فبالنسبة إليه، المغاربيون والعرب والمسلمون مشكلة. «وصوتوا علي لأضع حدا للوقع السلبي الذي لهم على فرنسا» هذا هو عمق ما يقول. أهداف ماكرون كانت سياسوية وانتخابية، وليست قول الواقع، فهو لا يهمه الواقع، بحكم أنه رجل سياسة وليس مؤرخا أو أنتربولوجيا أو عالم سياسة. كما أن الشعب يحاسبه عن طريق صناديق الاقتراع وليس بإعطاء دلائل أكاديمية ضد أو لصالح ما يقول. ماكرون على غرار أغلب السياسيين المهنيين هو تاجر أصوات، وإذا كانت له المصلحة في أن يهاجم المغرب غدا، فسوف يفعل ذلك. لكن الملاحظ أن إمانويل ماكرون لم يهاجم المغرب ولا يدخل معه في مناكفات عكس الجزائر؟ إذا هاجم المغرب فتصريحاته يمكن أن تخلف ضررا عليه. هناك فرق في ذاكرة الفرنسيين بين المغرب والجزائر، فجون ماري لوبان، على سبيل المثال فقد عينه في الصراع حول الجزائر الفرنسية، حيث شارك في مظاهرة دعما لأحد الجزائريين الفرنسيين ممن يقولون إن الجزائر فرنسية، وكان يضع على إحدى عينيه لعقد من الزمن ضمادة على شاكلة العصابة التي يضعها العسكري والسياسي الإسرائيلي «موشي دايان»، وكأنه بضمادته تلك يريد التدليل على بطولاته ضد العرب، فبالنسبة إليه العرب أشرار وهو لا يفرق بين عربي وأمازيغي « Tous des Arabes» نقطة إلى السطر. كان هناك تيار في فرنسا ينتمي إليه لوبين يسمى ب «les Poujadistes»، وبالطبع لا علاقة لهم ب»الباجدية». كان أنصار هذا التيار الأكثر تشددا في ما يتعلق بضرورة الحفاظ على الجزائر فرنسية، وقناعتهم أن الأمة الفرنسية ستبتر إن فقدت الجزائر، ويجب أن تضحي بكل شيء من أجل الاحتفاظ بتراب حيوي في شمال إفريقيا. بالعودة إلى أوروبا نفسها، متى بدأ مفهوم الدولة الأمة يخرج إلى الوجود؟ حتى في أوروبا، لم تتكون أغلب الأمم كدول حتى نهاية القرن ال 18 والقرن ال 19، فدول في أوروبا الشرقية مثل بلغاريا وكرواتيا ظهرت حديثا، وحتى ألمانيا نفسها لم تصبح دولة أمة إلا في القرن ال 19 ونفس الأمر ينطبق على إيطاليا. ماكرون يقول إن الجزائر لم تصبح دولة أمة إلا في حدود القرن ال 19، وهذا كلام له معنى سياسي وليس أكاديمي. لماذا لم يقل هذا عن البرازيل فهي دولة ذات هوية حديثة جدا ولكنه إن قال هذا لن يجعله ذلك يربح أصواتا لأن البرازيل بعيدة عن فرنسا. خلاصة الكلام، فالدولة الأمة لم تتقو إلا خلال الأزمنة الحديثة، بما في ذلك فرنسا. وماكرون بمهاجمته المغاربيين يريد أن يروق لجزء من الفرنسيين الذين يعيشون في ضنك بسبب كورونا، ولهذا فخطابه «مكوفد» كما بقية سياساته نظرا للسياق. مع الأسف، هو شخص بالغ الذكاء وذو طاقة كبيرة استعملها لصالح بلاده ولكن خطابه أصيب بوعكة صحية كما الكثيرين نظرا للسياق العام. البعض يؤكد أن منطقة شمال إفريقيا كانت تضم فقط 3 دول، المغرب وتونس حاليا التي كانت تسمى «إفريقية» وفي أقصى شرق المنطقة نجد مصر، بينما الجزائر الحالية وليبيا لم يكونا سوى مناطق عبور تضم قبائل متفرقة تسكن الجبال والصحاري، وربما هذا الأمر هو ما دفع ماكرون ليقول ذلك الكلام… هذه وجهة نظر موجودة، تعبر عن رأي يبدو بالنسبة للبعض بديهيا. بخصوص مصر، يجب أن نعلم أننا إذا أردنا الدخول في البوليميك اللاعلمي يمكن أن نقول إن أول مصري حكم مصر كان هو جمال عبر الناصر، يعني في خمسينيات القرن الماضي، أما قبل ذلك فقد كانت مصر تابعة للعثمانيين وللعباسيين والأمويين.. وكلهم لم يكونوا مصريين، هذه ترهات. صحيح أن التاريخ هو مجال للبحث العلمي، لكنه كذلك مجال للصراعات الإديولوجية. بخصوص الجزائر فقد كانت هويتها الجامعة مع العثمانيين الذين حكموها لقرون هي الإسلام. أما المغرب فقد كانت له خصوصية، فرئيس الدولة منذ قرون هو «أمير المؤمنين»، وهو ضمنيا أمير للمؤمنين أجمعين وليس فقط أمير المؤمنين في المغرب، بمعنى أن الهوية الدينية للمغاربة كانت قوية كذلك. أكثر السلاطين المغاربة وعيا بمغربيته كان هو محمد الرابع، وكان يوقع الوثائق ب»سلطان الغرب». لنبقى مقتربين من الواقع يجب أن نبتعد بالتاريخ عن المهاترات الإيديولوجية، ففيها يمكن أن نقول كل شيء وضده باستعمال جزيئات وتعميمها بشكل لا منهجي. ما أريد أن أقوله، أن صراع المغرب مع الجزائر حول الصحراء لا يجب أن يؤثر على قراءتنا للواقع وللتاريخ. يمكن أن تجد 10 دلائل بأن الجزائر دولة حديثة أنشأها التقطيع الاستعماري الفرنسي، لكن في مقابل ذلك يمكن أن تجد عشرة أدلة أنها أمة قديمة ضاربة في التاريخ. لا يجب أن نتبع السياسيين، فاليوم ينتقدون الجزائر وغدا قد يمتدحونها. بخصوص المغرب، متى أصبحنا نحن في المغرب الأقصى دولة أمة؟ القوميون المغاربة يستحضرون نقطة أساسية، وهي أن عاصمة المغرب الكبير كانت أساسا هي فاس أو مراكش لمدة طويلة. لكن التونسيينوالجزائريين لديهم كذلك من الأدلة ما يجعلهم يؤكدون أنهم كانوا كذلك زعماء للمنطقة المغاربية، فالحفصيون ممن حكموا تونس الحالية سبق أن تم لهم الاعتراف بسلطة اسمية بالمغرب، ونفس الأمر بالنسبة لأتراك الجزائر، فقد سبق لهم أن احتلوا فاس لبعض الوقت. الخلاصة أنني لا يمكن أن أستعمل التاريخ للطم الجار... ولا يجب أن ننسى أنه في اللحظات العاطفية في المواجهة الرمزية مع الغير، يدعم المغاربة الجزائريين والعكس بالعكس كما في المباريات الرياضية مثلا. المغرب دولة قديمة وكان مختلفا عن الجزائر، إذ نجد أن 80 في المائة من أراضي هذه الأخيرة صحاري، أما المغرب، بسبب كون جبال الأطلس بعيدة عن المحيط فقد تمكن من تأمين أراض شاسعة صالحة للعيش والزراعة لم تأت عليها الرمال. المغرب ظل كذلك بعيدا عن الشرق، والسبب أن لديه جبالا احتمت بها هويته القديمة وهي الهوية الأمازيغية، وأقوى السلالات التي حكمت المغرب هم أمازيغ على غرار المرابطين والموحدين. كل هذه الأمور جعلت للخطاب القومي في المغرب ركائز في عمق التاريخ، لكن هناك كذلك خطابا إديولوجيا يمكن أن نسمعه بين الفينة والأخرى. هذه الأمور كلها لا تخلو من جدل وتسييس، فالجزائريون يقولون مثلا أن الدولة الموحدية مفكرها ومنظرها الأول مغربي، لكن المؤسس الحقيقي للدولة كان جزائريا، وبالفعل فهو ولد في الجزائر الحالية ولكن الجزائر لم تكن جزائر آنذاك. خلاصة الكلام، أن قراءة التاريخ يمكن أن نجد فيها اللعب على الأحداث وعلى المعلومات التاريخية، يمكن أن تفسر أحداثا تاريخية بمنطق اليوم لكن ذلك معيب علميا وأخلاقيا. الحدود بين المغرب والجزائر لم تكن موجودة، وحتى وإن وجدت فهي لم تكن مرسومة، وكانت هوية من يسكن البلدين هوية إسلامية مغاربية، فالجزائر كانت تسمى «المغرب الأوسط» وتونس تسمى في الشرق «المغرب الأدنى» والمغرب يسمى «المغرب الأقصى»، المغاربة كانوا يعتبرون الجزائريين بمثابة مغاربة والعكس صحيح، لكن هذه الأمور تغيرت اليوم، فكل هذا النقاش الدائر حاليا هو خطاب إديولوجي مبتذل يتم الترويج له للاستهلاك السياسي الداخلي سواء بفرنسا أو غيرها.