الاثنين 29 غشت 2011 من طرابلس، حيث كنت قد قضيت أسبوعا، مباشرة بعد فرار امعمر القذافي من قصره "باب العزيزية" الذي كنت من أول الصحافيين الذين دخلوه، اتصلت بليلى البوعزيزي، شقيقة محمد البوعزيزي الذي تسبب إحراقه نفسه في إطلاق ضرارة الثورة التونسية وما تلاها من "الربيع العربي": «آلو آنسة ليلى.. أنا صحافي من المغرب. أود لو أقضي يوم العيد غدا إلى جانبكم»..«مرحبا بأهل المغرب وبصحافة المغرب» أجابت ليلى، أخت محمد البوعزيزي، بصوت مرخيةٌ حِباله. الساعة الواحدة بعد الزوال بميدان السويحلي وسط العاصمة طرابلس، غير بعيد عن مسجد بورقيبة، وقفت أنتظر امتلاء سيارة النقل العمومية في اتجاه العاصمة تونس. اليوم عادت الحركة تدب وسط الناس والشوارع. فتحت المحلات التجارية وخرج الناس للتسوق بعد عشرة أيام من الحذر والترقب. بعد ثلاثة أيام سيحل فاتح شتنبر. في مثل هذا اليوم من كل سنة، ولمدة اثنين وأربعين عاما، ظل رجل اسمه معمر القدافي يُحيي «ذكرى الفاتح من شتنبر» احتفاء بانقلابه، الذي سماه ثورة وأقام له عيدا كبيرا قبل أن يحرق شاب اسمه محمد البوعزيزي نفسه، معلنا نهاية فصيلة من الرؤساء والزعماء، ومُلخبطا «كالاندريه» الأعياد الرسمية العربية. «ابق معنا لتحضر أول عيد بدون قدافي» قال لي محمد عدلي، الناشط الجمعوي المغربي المقيم بطرابلس، لكنني كنت مصرا على قضاء العيد إلى جانب أسرة محمد البوعزيزي مطلق الشرارة التي ألهبت الشارع العربي وحطمت ميثولوجيا: «العربي كائن قَدَريٌّ وخنوعٌ». الثلاثاء 30 غشت 2011 عيد الفطر بتونس، استقبلتني عائلة البوعزيزي، بمنزلها الجديد في حي المرسى، بأطراف العاصمة. بالساحة المقابلة لبيت شهيد ثورة الياسمين، قالت بسمة، صغرى أخوات البوعزيزي: «أمي فرحت كثيرا عندما علمت بأن صحافيا مغربيا سيقضي يوم العيد معنا». منزل أرضي بباحة صغيرة في مدخله. تتوزع غرفتاه على طرفي ممر ضيق وقصير. على جُدرانه تَكَسرَ فضولي المتطلع إلى رؤية «الفيلا الجديدة التي منحتها الدولة لعائلة البوعزيزي»…هكذا تحدثت الإشاعات التي تناسلت حول هذه الأسرة البسيطة. إشاعات تحدثت عن أن «عائلة البوعزيزي تتاجر بمأساة ابنها، وتسعى إلى الترقي الاجتماعي، مستغلة رمزية الشهيد». ألمُ الإشاعة أشد مرارة من ألمِ الحقيقة مهما كانت صادمة، فالأسرة التي رُزئت في ابنها ما كادت تضمد جرحها بدفء التضامن، حتى نكأ تلك الجراح برد الإشاعة. كيف تقضي هذه الأسرة عيدها الأول في غياب ابنها محمد البوعزيزي؟. «كان محمد هو الذي يحمل «الكاتو» ليلة العيد إلى الفرن، وفي الصباح كان أول ما نقوم به هو أن نبارك العيد لبعضنا. كان رحمه الله يجبر خواطرنا، وخصوصا أخي الصغير الذي كان يشتري له حاجات» تتذكر ليلى الأخت الكبرى للبوعزيزي. «محمد كان بمثابة الأب والأخ، وفي السنوات الأخيرة كان هو من يتكفل بشراء كبش الأضحى، ويحرص على أن تكون أعيادنا أفراحا ومباهج». لم يكن محمد البوعزيزي، وهو الكائن الاجتماعي، يترك مثل هذه المناسبات تمر دون أن يقوم بزيارة الأهل والأحباب لمباركة العيد وتجديد أواصر الدم والمودة. تحدثت منوبية بن مصباح، أم البوعزيزي، بألم لا يخفى: «من الصعب أن أصف أول عيد في غياب ولد كان يملأ البيت حبورا ونشاطا وحركة. أدعو الله أن يتقبله شهيدا». تستدرك ليلى- كما لو أنها تبرر خُلوّ الطاولة من حلوى العيد، عدا صحن صغير وضع حصريا أمامي، قائلة: «نحن لم نُرد تحضير «الكاتو» ومحمد غائب عن مائدتنا». ما الذي حدث حتى غاب محمد البوعزيزي عن «كاتو» عائلته؟ وما هي تفاصيل إحراقه نفسه أمام الملأ؟ هذه القصة تعيد منوبية بنمصباح، رفقة ابنتيها ليلى وبسمة، حكايتها بتفاصيل لم يسبق ذكرها. هذا ما حدث «يوم الجمعة.. كان محمد البوعزيزي فرحا بشكل باد في خفة حركاته، وفي قيامه باكرا واشتغاله، على غير عادته، كان قد اشترى سلعة جيدة، قال لي ذلك مساء اليوم السابق. مع دنو موعد الصلاة قال لعمه عمار (أخ أبيه وزوج أمه): ياعمي ابق في «الشاريو» لغاية ما أذهب أنا لصلاة الجمعة» تحكي والدة البوعزيزي. لكن فرحة بسبوسة، وهذا لقب البوعزيزي، لم يكتب لها أن تكتمل، بعدما صادرت شرطية اسمها فادية وحيد، فجأة، بضاعته. بداية اشتكى الأمر إلى خاله صالح. «قال له يا خالي أنا لم أبع بعد شيئا من البضاعة وهذه الشرطية مصرة على مصادرة بضاعتي»، فاستدعى الخال شرطيا آخر من «أعوان التراتيب» حاول ثني الشرطية فايدة عن عنادها في مصادرة سلعة البوعزيزي. «قال لها: يا فايدة اتركي هذا الولد يبحث عن رزقه، وأنت يا بوعزيزي سُق «شريولك» وغيّر المكان»، لكن الشرطية فايدة أصرت على اعتراض سير عربة البوعزيزي. «دفعته إلى الخلف، وصادرت صناديق التفاح والموز والإجاص والبرتقال» تؤكد منوبية والدة البوعزيزي، قبل أن تضيف: «عندما همت بانتزاع الميزان أمسك محمد به لأنه كان قد استعاره من أحد أصدقائه». هنا تتدخل ليلى أخت البوعزيزي، مؤكدة أن الميزان كان من النوع الإلكتروني، وإذا كانت ليلى لم تفصح عن أسباب إصرارها على أن الميزان من النوع الالكتروني فقد كان لسان حالها ينفي الإشاعة، التي روجت بأن «البوعزيزي خاطب الشرطية بعد أن استولت على «صروف» الميزان قائلا: «هل أضع مكانها ثدييك؟». تعود الأم للحكي، غير عابئة بإشاعات الناس ولا بشروحات ابنتها: «عندما تمسك محمد بالميزان لطمته الشرطية فايدة بكفها على خده، فيما بقي أعوانها يضربونه من الخلف لإسقاطه أرضا وترك الميزان. حدث ذلك بالقرب من محطة الطاكسيات وبحضور عشرات الناس، الذين سيكونون أول من سيخرج للشوارع غضبا واحتجاجا على ما تعرض له ابني». سيقت بضاعة البوعزيزي في شاحنة نحو مقر البلدية. ما تعرض له محمد من مصادرة مورد رزقه ومن إهانة (اعتداء امرأة على رجل في سوق ذكوري) جعله يصر على التقدم بشكاية إلى مسؤولي البلدية، لكن لا حياة لمن تشتكي. اشتدت الأزمة ولم تنفرج. تغلغل الغضب ممزوجا بالإهانة، وانسدل الستار أسودَ على بصر وبصيرة الشاب ذي ال26 سنة، فتهيأ له الخلاص في قارورة «دوليو» صبه على جسده، وأشعل النار وكان الذي كان. قامت ثورة الياسمين على إثر إحراق البوعزيزي لنفسه. من ناره حمل الثوار قبسا لإنارة نهجهم، قبل أن يحملوا عروش الياسمين. لم يفهم زين العابدين بنعلي ما حل بالبلاد، رغم أنه ردد: «فهمتكم.. فهمتكم». داخ فنصحوه بالتوجه نحو مصدر الشرارة. «نادى علي الرئيس. جاءت سيارة حملتني إلى قصر قرطاج، وهناك سألني: ما الذي حدث لابنك؟ فأجبته: شرطية من أعوان التراتيب صادرت بضاعة ابني وأهانته بأن لطمته على خده، فأجابني الرئيس بأنه لا علم له بهذا، وزاد أنا ذاهب الآن لزيارته، وكذلك كان» تحكي أم البوعزيزي، لكن بنعلي خرج ولم يعد. من يريد إحراق سيرة البوعزيزي؟ سائق الطاكسي الذي قادني إلى بيت البوعزيزي قال: «لافامي البوعزيزي باغيين يولو لينا بحال الطرابلسية: الفيلا والهاي كلاس». مثل هذا الكلام سمعته، بتنظير وتقعيد، من عدد من المناضلين السياسيين والنقابيين، الذين تطرقت معهم في مقاهي العاصمة إلى قصة البوعزيزي. بيد أن الخلاصة المتفق عليها بينهم، هي أن عائلة «البوعزيزي تاجرت في دمه وأنها باعت حقوق قصته للمنتج السينمائي طارق بنعمار رجل نظام بنعلي». الحركة النسوانية في تونس ذهبت إلى حد شرعنة الاعتداء الذي طال البوعزيزي من الشرطية فايدة بمبرر «أنه مارس عليها عنفا لفظيا». آخرون قالوا أو أوحوا بما يفيد أن البوعزيزي سطا على ثورتهم التي أنضجوها بالفكر والممارسة سنوات! لكن أسرة البوعزيزي لها رأي آخر، جعلها تقيم بأطراف المدينة ابتعادا عن مركز الدولة ومركز السياسيين، بل نأت بنفسها حتى عن متابعة الشرطية فايدة حمدي أمام المحاكم. تحكي ليلى البوعزيزي: «نحن أسقطنا متابعتنا قضائيا لفايدة بعدما لاحظنا أن الأمر أخذ شكل عصبة قبلية، حين قامت قبيلة «المكناسي»، التي تنتمي إليها فايدة بتنظيم حملة تضامن معها على أساس قبلي، وليس على قاعدة الحق. نفس الشيء صار مع زملائها من رجال الشرطة (أعوان التراتيب) الذين اعتصموا لأجلها بالمحكمة، ولم يتوقف الأمر عند مساندة هؤلاء لفايدة، بل تعداه إلى الإساءة إلى أخي محمد، الذي قالوا عنه إنه سكير وأحمق وكان يضرب والدتي». صمتت ليلى ونطق الصمت ورمشت العيون وفُركت الأصابع وارتعشت قسمات الوجه: «الفيلا التي قالوا إننا نسكنها (تقصد ساخرة المنزل) ها أنت بين جدرانها، وها هو توصيل كرائها الذي ندفع ثمنه من شقائنا». تضع ليلى الكلام وتحمله أمها: «لم تتسلم عائلتنا من الدولة إلا مبلغ 20 ألف دينار، وهو نفس المبلغ الذي تسلمته عائلات باقي الشهداء الذين سقطوا في الثورة». تقاطعها ليلى: «قالوا إننا قبضنا الملايير من بان كي مون، رغم أننا لم نستقبله إلا لتقديم العزاء لنا، أمام مرأى ومسمع من الكثيرين.. قالوا إننا بعنا قصة أخي للمنتج طارق بنعمار، ونحن لم نتفق معه على أي تفاصيل لا مادية ولا فنية. صحيح أنه زارنا قبل أشهر وعرض علينا فكرة تحويل قصة البوعزيزي إلى فيلم سينمائي، لكنه لم يعد ليناقش معنا الفكرة مرة ثانية.. تحدثوا عن أننا بعنا عربة أخي محمد لأحد الأثرياء الخليجيين، والعربة بمنزل أخي سالم بصفاقس، ونحن لن نسلمها إلا لكي توضع بمتحف وطني.. لماذا ينهشوننا هكذا؟ احنا ناس «زواولة» غلابة، لكن بكرامتنا». في الوقت الذي كنت أقضي صباح عيد الأضحى بين ظهراني أسرة البوعزيزي، كان رب الأسرة عمار البوعزيزي (عم محمد وليلى وزوج أمهما) يزاول مهامه، رغم العيد، كحارس بإحدى الشركات. بين ما كتبه مرة الشاعر محمود درويش: «يريدونني ميتا ليقولوا كان منا وكان لنا» وما يكتبه التونسيون يوميا من قصائد عقوق ونكران في حق بطلهم «الساذج» محمد البوعزيزي، وما يمارسونه من قتل رمزي له أمر يشي بواحد من اثنين: إما أن الوعي العربي تخلص من ثقل «الزعيم الضرورة» والبطل الفرد المُخلّص أو أن نخبنا السياسية، التي تبدل أفكارها ووصفاتها للتغيير مثلما تغير المومس عشاقها، أصبحت تغار من البوعزيزي الذي حقق، في لحظة غضب، ما عجزت عنه هذه النخب طيلة نصف قرن ويزيد. حكاية حلم تحول إلى حقيقة عندما مات الطيب البوعزيزي، كان ابنه محمد بالكاد قد أكمل عامه الثالث، كما لم يكن سالم الابن البكر تتجاوز سنه أربع سنوات، وليلى سنة ونصفا. كان والد البوعزيزي رجلا عليل الصحة يحمل آلة مزروعة في قلبه. عندما فتح باب العمل في ليبيا، بداية الثمانينيات، ذهب الطيب البوعزيزي إلى طرابلس للاشتغال عاملا مياوما في عدد من المهن، لكنه مات هناك. وحرصا منه على صيانة عش أخيه، تزوج عمار، أخ الطيب، من منوبية زوجة أخيه، وتكفل بتربية أبنائه: سالم ومحمد وليلى، ثم مافتئ أن رزق عمار من منوبية بأربعة أبناء آخرين: سامية وبسمة وكريم وزياد. «عندما بلغ محمد 13 سنة بدأ يذهب إلى «المارشي» ويدرس إلى أن وصل إلى مستوى الباكلوريا التي قضى فيها ثلاثة أشهر، وهناك قرر أن يترك الدراسة ويتفرغ للعمل لإعانتي على أخواته، خصوصا بعدما ظهرت على عمه عمار، الذي كان يشتغل عامل بناء، علامات العياء، وكنت أنا أشتغل في الحقول الفلاحية بأثمان بخسة لإعالة الأسرة» تتذكر أم البوعزيزي، ثم تضيف: «كان محمد منذ بداية عهده بتجارة الخضر والفواكه «مزهار» في تجارته، وقد قطع وعدا على نفسه، عندما حصلت أخته ليلى على الباكالوريا بامتياز، بأن يعمل على التكفل بدراستها إلى أن تحصل على أعلى الشواهد وكذلك كان». توسع طموح البوعزيزي في مجال بيع الخضر والفواكه، وأصبح حلمه أن يحصل على شاحنة صغيرة ينقل بها الخضر والفواكه لبيعها بالجملة، «خصوصا بعدما أصبح كتفه يؤلمه من دفع العربة» تضيف ليلى. في صغره، عشق محمد البوعزيزي لعبة كرة القدم ومال إلى ممارستها، إلا أن أمه ذات الشخصية القوية والعينين الخضراوين ثاقبتي النظرات، أثنت محمد الصغير عن هوايته: «كنا في سيدي بوزيد، وكانت أمي امرأة بسيطة التفكير، ولم تظن بأن كرة القدم فيها أيضا مستقبل، لذلك حالت بكل الوسائل بين أخي محمد رحمه الله وبين لعب الكرة»، تحكي ليلى، فيما تحرك منوبية رأسها موافقة. تميز محمد بين أصدقائه ومعارفه بالمرح وخفة الدم وسعة الصدر، وكان وهو طفل صغير يدفع عربة أكبر منه ويتحمل مسؤولية أثقل منه، لذلك أطلق عليه معارفه اسم بسبوسة. تتذكر ليلى، كما لو لتضفي نوعا من الدعابة على هذا اللقاء الذي لم تتحرك فيه الشفاه بابتسامة، «مرة تعب محمد أخي في العمل فأخذته غفوة، وعندما أفاق لم يعثر على حذائه، لكن خفة دمه وسعة صدره جعلتاه يقابل هذه الواقعة بالضحك على نفسه». الآن، لم يبق لأم البوعزيزي وإخوته غير الذكرى والحلم الذي يطل عليهم الابن البسبوسة فيه، من حين لآخر. «لقد حلمت به مؤخرا وقد جاء عندي يلبس البياض، وسألني: لماذا تبكي أمي؟ فقلت له:لأننا فقدناك، فنظر إلي وعلق: حسبي الله ونعم الوكيل».أما منوبية فتقول إنها حلمت بما حدث لابنها قبل وفاته بثلاثة أيام: «رأيت في منامي أن أحدا حمل هاتفي ووضع مكانه مفتاحا مكسورا، وتفسير ذلك أن المفتاح المكسور هو انكسار ابني الذي تسبب في تحرير وفتح عدد من البلدان، أما الهاتف فيرمز إلى انتشار وذيوع اسم البوعزيزي في العالم».