محاورات ومساجلات في شروط المرحلة بلال التليدي ثمة عدد من التحليلات التي طفت في الساحة حول تشكيل الحكومة المرتقب طيلة الشهر الماضي، بعضها ارتهن لسؤال من المسؤول عن البلوكاج؟ فيما بعضها الآخر جعل الاستحقاق الانتخابي وراء ظهره، فنظر في أزمة السياسة في المغرب بخلفية ما جرى في مصر، فارتهن لسؤال الاستقرار وتأمين المشروع بعيدا عن نتائج الاستحقاق الانتخابي للسابع من أكتوبر؟ فيما استبدت بالبعض سطحية كبيرة أوهمت حتى بعض القيادات السياسة بأن المشكلة تمكن في أخطاء وتكتيكيات في التشاور أو التحالف، وأنه كان بالإمكان تجاوز كل ذلك بالتقاط الإشارات التي أعطيت في السابق؟ فيما بدأ البعض يعتقد في قدرية حتمية عنوانها إن السلطة السياسية اتخدت قرارها الحاسم بإبعاد العدالة والتنمية، وأن تدبير القرار ليس إلا مسألة وقت! لا يهمنا الاشتباك مع تفاصيل هذه الأطروحات، بقدر ما أن المهم هو النفاذ إلى المشترك الذي يسكنهاجميعا، إذ تشترك هذه التحليلات في تقدير يرى أن مفعول الاستحقاق الانتخابي في صناعة السياسة في المغرب نسبي وليس حاسما، وأن الاستثناء المغربي ليس سمة مستمرة حتى ولو نص الدستور على ثابت الاختيار الديمقراطي، وأن لحظة 2011 لن تتكرر حتى يمكن الحديث عن استكمال الإصلاحات، وأن قضية الانتقال الديمقراطي هي مجرد أغلوطة، وأن الجوهري الآن في السياسة في المغرب هو عودة السلطوية بثقلها الكامل، وأن المطلوب من حزب العدالة والتنمية في هذه اللحظة الحساسة هو التكيف مع منطقها والتخلي عن أطروحة الانتقال الديمقرطي لصالح توافق لا يمثل الاستحقاق الانتخابي أي وزن في صناعة حيثياته. ثمة خياران في مناقشة هذا المنطق من التفكير: خيار النظر الاستراتيجي، أي الخيار الذي يطرح سؤال كيف تفكر الدولة؟ وما تقديرها لدينامية الحقل السياسي ضمن رؤيتها الاستراتيجية الكلية؟ والخيار الثاني هو خيار النظر في التكتيك، أي السؤال عن ما تمتلكه الجهات التي تريد إجهاض المسار الديمقراطي في مقابل الأوراق التي تعتمدها النخب التي تتشبث باستكمال مسار الإصلاحات؟ لنبدأ بالتمرين الأول، ولنسائل الذين يبالغون في التشكيك ويعتبرون دستور 2011 "دستور الاضطرار": ما الذي كان يمنع الدولة أن تجنح للتفصيل في الفصل 47 ، وتعطي لنفسها بعض الفسحة خاصة وأن ما رشح من معطيات حول مداولات اللجنة المكلفة بالصياغة الدستورية قدمت شيئا من هذه التفاصيل ولم تلق أي تجاوب؟ ثم ما الذي كان يمنع الدولة من أن تفخخ بعض الفصول الدستورية لتجعل من إمكانية تأويل دستور "الاضطرار" تأويلا نكوصيا أمرا ممكنا؟ ثم ثالثا ما الذي دفع الدولة أن تدقق بما فيه الكفاية في ضبط العلاقة بين السلطات في القانون التنظيمي الخاصبالتعيينفيالمناصبالعلياوإعادة تحيينه بعد أقل من سنتين إن كان يؤطر مركز تفكيرها أن تجعل "دستور الاضطرار" وراء ظهرها بعد حين؟ ثم لنسأل مرة رابعة عن درجة خيال الدولة السياسي، ونحن نتحدث عن دولة لها خبرة دستورية كبيرة اكتمل بناؤها الدستوري مع الحسن الثاني، وورثت كل هذا الرصيد الهائل، واستفادت من خبرة الفقهاء الدستوريين المشهور لهم بالكفاءة والخبرة، لنسائل خيال الدولة السياسي، ألم يكن في وارد احتمالها أن تأتي نتائج الانتخابات على غير نسق السيناريوهات المتوقعة أو المأمولة، هل إلى هذا الحد يغفل خيال الدولة السياسي عن التفكير فيما يسمى عادة بتدبير المخاطر في اللحظة التي يحصل السيناريو غير المأمول؟ سيدفع البعض بالقول بأن ما يجري اليوم يدخل ضمن هذا النمط من تدبير المخاطر، والجواب، أن تفكير الدولة، ونحن نتحدث عن دولة بهذا التراكم السياسي الهائل، لا يمكن أن يدخل في هذه الأنفاق الضيقة التي تحرج الدولة وتضعها في الموقع الذي تعدم فيه الاختيار، أو الموقع الذي تختار فيه بين تعريض سمعتها الديمقراطية للإجهاز (في حالة تعديل الدستور على نحو ينزع عنه توجهه الديمقراطي) أو خوض مغامرة أخرى غير مضمونة العواقب (إعادة الانتخابات). البعض يسابق القول من غير ما يكفي من دراسة الكلفة، ويقول العالم تغير، والمحيط الدولي لم يعد يشترط الديمقراطية وحقوق الإنسان، والعالم العربي اليوم، بسبب موجات صعود اليمين ، صار أقدر على التحرر من الضغط الذي تمارسه أوربا وأمريكا على خلفية ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان والحال، أن الأمر لا يرتبط فقط بالمحيط الدولي، الذي نقطع قطعا أن التغييرات التي حصلت فيه لن تجنب المغرب من الخضوع للضغط مرة أخرى بخلفية ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل يرتبط بما هو أكبر من ذلك، بالقضية الوطنية، الذي أصبح قطب الرحى في النزاع حولها هو قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأصبحت الورقة الموجعة للمغرب هو ورقة الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويرتبط أيضا، بالأفق الذي رسمه المغرب لنفسه حين اختار أن يتوغل في العمق الإفريقي حاملا معه رسالة تختبر مصداقيتها كل حين من طرف الدول الإفريقية. رسالة النموذج المغربي المتمدد في جنوبه، تلك الرسالة التي يستحيل في رؤية أي دولة أن تفكر في نجاحها بوضع داخلي مهزوز ومهترئ ومتصدع ويسير في منحى التراجع الديمقراطي. البعض قرأ تعليمات الملك بالإسراع في تشكيل هياكل البرلمان كما ولو كانت طعما أريد به للعدالة والتنمية أن يخضع للمناورات المرسومة، والحال، أن مثل هذه التحليلات، حتى ولو كان مسار الأحداث يزكي بعض تفاصيلها، إلا أنها لا تميز بين رؤية الدولة الاستراتيجية وبين رؤيتها للحقل السياسي. كيف تفكر الدولة؟ هذا سؤال يصعب الجواب عنه في لحظات تأمل محدودة، لكن، تقديري واستقرائي للمؤشرات التي ظهرت أكثر من مرة من سلوكها، أن الحقل السياسي ليس هو ما يحدد خياراتها الكبرى. ربما كان العكس مقبولا، وهذا الذي حدثت بعض تفاصيله عند إحداث هياكل البرلمان والتصويت على اتفاقية الانضمام للاتحاد الإفريقي، لكن في المقابل، تشترط الدولة، أي دولة، ألا يكون حقلها السياسي، معاكسا لاختياراتها الكبرى، وربما- في الحالة العربية السلطوية والشبه سلطوية- تكبر شهية الدولة لتكييف الحقل السياسي حتى ولو لم تتطلب خياراتها الكبرى ذلك. بلغة واضحة غير ملغزة، لا يشكل حزب العدالة والتنمية بالنسبة للدولة تحديا يعوق رؤيتها الاستراتيجية وخياراتها الكبرى، بل على العكس من ذلك تماما، لم تعرف الصداقة الإسبانية المغربية عمقا وصلابة إلا في عهد حكومة العدالة والتنمية، ولم يعرف برنامج الألفية التي ترعاه الولاياتالمتحدةالأمريكية وتموله أوج نشاطه إلا في حكومة العدالة والتنمية، ولم تخرج العلاقات الفرنسية المغربية من الأزمة الصعبة وتأخذ عمقها وقوتها إلا في عهد حكومة العدالة والتنمية، ولم تنشط الاستثمارات الخارجية في المغرب بدرجة أوفر إلا في عهد حكومة العدالة والتنمية، ولم تعرف مشكلة الصحراء التحديات الكبرى- بسبب قوة المغرب الاقتصادية التي منحته هوامش كبرى للتقدم والتحول للدبلوماسية الهجومية- إلا في عهد حكومة العدالة والتنمية؟ ولم يعرف المغرب نجاح محاوره الدبلوماسية إلا في عهد حكومة العدالة والتنمية؟ ولم تتقو علاقاته بدول الخليج إلى هذا الأفق الاستراتيجي إلا في عهد حكومة العدالة والتنمية؟ ليس القصد من هذا التوصيف الواقعي الزعم بدور العدالة والتنمية في هذا الاتجاه، فالتواضع الذي حكم لغة رئيس الحكومة جعله يذكر أكثر من مرة بأنه – بوصفه رئيسا للحكومة- يعتبر السياسة الخارجية شأنا ملكيا، وأنه يكتفي بالإسناد. لكن أهمية هذا الرصد تبين بأن وجود العدالة والتنمية في الحكومة لم يمنع الدولة من أن ترتاد آفاقها الرحبة، بل وفر لها الإمكانيات اللازمة لتحقق ما عجزت عن تحقيه في السنوات والعقود السابقة. حاصل الاستدلال، أن المحيط الدولي- وحتى ولو تغيرت بعض التفاصيل فيه- ليس هو العائق الذي يمكن أن تعلق عليه شماعة البلوكاج الحكومي، وأن العدالة والتنمية لا يمنع الدولة من ارتياد الآفاق البعيدة في رؤيتها الاستراتيجية، وأن كل ما يثار حول هذا الموضوع هو مجرد تخمينات يكذبها الواقع، أو افتعال لعوامل غير صحيحة للتغطية عن قضايا أخرى يمكن أن تكون مفسرة. وهذا يقودنا لخوض التمرين الثاني، أي الجواب عن صراع التكتيكات. التقدير عندي في الأزمة التي يعيشها المشهد السياسي المغربي، أنها ناتجة عن صراع إرادتين، إرادة تخشى أن يتقدم المسار الديمقراطي خطوات أخرى أكثر جرأة من الخطوات التي دشنتها حكومة بنكيران، وفي هذه الحالة فإن مصالح عدد من اللوبيات ستتعرض للضرر، وإرادة أخرى، تحتج بنتائج الاستحقاق الانتخابي التي كانت لصالحها، وتريد أن تزيد خطوة في المسار الديمقراطي تبرر بها تقدمها وتحمي بها مصداقيتها السياسية. بعض شروط التفاوض التي تسرب فحواها للإعلام أكدت هذه المخاوف، خاصة ما يرتبط منها بموقف الحكومة من منظومة الدعم، ولذلك، من السهل أن نفهم اليوم السبب الذي يجعل البعض يصر على إخراج هذا الحزب أو إدخال الآخر، فالقضية في جوهرها ترتبط بالسقف الذي يمكن أن تبلغه الرؤية الإصلاحية للحكومة في حالة إشراك هذا الحزب أو ذاك، والقدرة التي يمتلكها بعض مكوناتها للجم "انزياحاتها" في حالة إخراج ذلك الحزب أو إدخال ذاك. عملية مفهومة، يدرك الجميع أبعادها؟ لكن ما موقع الدولة في هذا كله؟ السهل البسيط الذي لا يحتاج لخيال سياسي في التحليل الزعم بتداخل مصالح مكونات في الدولة مع هذه اللوبيات أو التطابق بينها، وأن هذا بالتحديد ما يبرر البلوكاج الذي عليه اليوم مسار تشكيل الحكومة. أفق هذا التحليل حتمي قدري، إذ سيختار في نهاية المطاف القول بأن الدولة ليس لها أكثر من خيارين: فرض الأمر الواقع بطريقة من الطرق حتى ولو اقتضى الأمر إزاحة بنكيران/ العقبة في تصور البعض من أجل تشكيل حكومة ضعيفة يقودها العدالة والتنمية والتي ستكون القشة التي تقصم ظهر البعير وتقضي على شعبية هذا الحزب، أو خيار كسر العظم. ونتيجة لهذا التحليل بدأ البعض يجلد قيادة العدالة والتنمية ويتهمها بالغرور أو بارتكاب أخطاء في التحالف، أو بااتسرع في التصريحات، أو بعدم التقاط إشارات كانت قوية، أو بعدم استيعاب التحولات التي يعيشها العالم أو بعدذ فهم طبيعة الدولة أو طبيعة الملكية ! عيب هذا التحليل أنه يستهسل كل شيء، بما في ذلك التفكير في مآلات إنهاء تجربة الإسلاميين المعتدلين الذين يعتبرون من أشد المدافعين عن الملكية وعن الاستقرار، بل إن هذا التحليل لا يكلف أنفسه عناء التفكير في نهاية صيغة من صيغ العمل السياسي الذي أنقذ الإسلاميين من ورطة الصراع مع السلطة، ومن سيجني إرثها بعد انهيار هيكلها؟ هل هي العدل والإحسان التي تعاني الدولة معها دون أن تستطيع كسر شوكتها، أم السلفية في أعنف صورها، بل حتى السلفية التي انتهت إلى صيغتها الحركية، من الذي يستطيع أن يقنعها بالاستمرار في خيار المشاركة إن تم إنهاء الإدماج السياسي للإسلاميين بتلك الصورة غير الديمقراطية؟ التقدير عندي، أن الدولة في جميع محطاتها تبحث عن التركيب الذي يضمن تعايش القوى المتصارعة في إطار من الاستقرار. هي مجبرة على الإصلاح لأن رؤيتها الاستراتيجية وخياراتها الكبرى تحتم ذلك، لكن رؤيتها في تدبيره تختلف قطعا عن رؤية الأحزاب الإصلاحية، ربما تبحث عن إصلاح لا يضر هذه اللوبيات أو لا يؤثر على مصالح بعض مكوناتها. ولذلك، هي تعمل بالحكمة الإنجليزية: "بطيء لكن أكيد" Slow but sure الدولة في تقديري، تتفهم مصالح هذه اللوبيات، وتعرف بطشها وقوتها، وتعرف طبيعة الاشتباك الموجود بين مكوناتها وبين هذه اللوبيات وتدرك أثرها على الاستقرار، ولذلك، فهي تأخذ الوقت الكافي لإيجاد التركيب اللازم لتدبير التعايش بين هذه القوى. بكلمة، الدولة تبحث عن صيغة لتعايش هذه القوى، وهذه الصيغة أصبحت جد صعبة، بعد أن تبعثرت كل الأوراق: التخلص من قيادة البام مكلفة. والتخلص من قيادة الاستقلال مكلفة. وتشكيل حكومة من أربعة أحزاب مكلفة. وعدم دخول الاتحاد الاشتراكي مكلف أيضا كيف ذلك؟ بقاء إلياس العماري على رأس البام معناه فوز آخر للعدالة والتنمية، ولذلك هو يدرك أن مرحلته انتهت، لكنه يملك ملفات وأوراق عديدة لتبرير استمراره في القيادة. نهاية شباط مكلفة أيضا لأنها ستخلط بعض الأوراق التي من المحتمل أ، تشوش على الصورة: صورة السيناريوهات المأمولة وعدم دخول الاتحاد الاشتراكي، ليس بعده من خيار سوى تغيير قيادة الحزب، وهذا يمكن أن يفتح الباب على المجهول. تشكيل حكومة من أربعة أحزاب معناه تقوية بنكيران ضد هذه اللوبيات وجرعة قوية من الإصلاحات تهدد بعض مواقعها. هل يمكن للتجمع الوطني للأحرار أن يمثل حصان طروادة؟ بالتأكيد لا، فهذه مغامرة غير مسحوبة العواقب. أما العدالة والتنمية، فلا شيء يفيد بأنه سيتغير، لاسيما وأن قيادته الحالية تعرف جيدا كيف تنتزع الانتصارات من غير أن تتورط في الصراع مع الدولة. إن صح أن نقول شيئا جديدا ذا أهمية، يمكن أن نقول بأن أزمة تشكيل الحكومة هو خارجها وليس داخلها، أي أن لوبيات المصالح القوية والتشابكة مع مصالح مكونات في الدولة أصبحت غير مطمئنة من وضع الأحزاب المقلق، وهل سيكون مستقبل الحراك بها في مصلحة تدبير التناقض مع حكومة بنكيران من الداخل والخارج، أم سيترك مكونات بالداخل عارية من كل إسناد بالخارج؟ تركيب الوضع- تقديري للسيناريو الذي يتم الاشتغال عليه- أن يحصل تغيير عقلاني في حزب الاستقلال، أي خيار وسط بين كريم غلاب الذي تميل إليه بقوة لوبيات المصالح وبين استمرار شباط الذي يخوض معركة دونكيشوتية مع الجميع لتبرير استمراره على رأس الاستقلال، وأن يتم تدبير الإفراغ التدريجي لحزب البام من الداخل والهجرة المنظمة نحو التجمع الوطني للأحرار من غير إلحاح على قضية تغيير القيادة، وأن يتم التفكير في قيادة أخرى للاتحاد الاشتراكي تحفظ توازنه وجمعه لمكونات هذا الحزب ليقوم بدور ما في مستقبل الخارطة السياسية، أما حزب العدالة والتنمية، فأقرب السيناريوهات أن يتم التفكير في هزمه انتخابيا باعتماد على التكتيكيات الحسابية والانتخابية الدقيقة من غير ارتكاب أخطاء مكلفة كما في السابق. التقدير عندي أن هذا السيناريو هو الذي يجري اليوم، و أن تشكيل الحكومة سيتم الإفراج عنه قريبا حالما تكتمل وصفة هذا السيناريو بدقة وتستبين صورته ويكتسب قوة التنزيل بالدينامية السياسية، بصيغة تضمن معادلة التعايش والصراع بين الإرادتين بحكومة تساوي أو تقل بقليل عن الحكومة السابقة مع معارضة أقل صدامية من السابق، ورهان انتخابي حاد.