هل تبيت ملكة بريطانيا في العراء؟! سؤال غريب فعلاً وجوابه واضح، لكنه يأتي في ظل حالة كبيرة من الجدل لا تزال تشهدها المملكة المتحدة منذ إعلان الحكومة في شهر نوفمبر 2016 إجراء أعمال تجديد لقصر باكنغهام، المقر الرئيسي للملكة. لكن فكرة الترميم، في حد ذاتها، لم تكن هي المسببة لحالة الجدل تلك؛ بل تكاليف الترميمات والإصلاحات، التي من المقرر أن يتحملها الشعب البريطاني، هي التي دفعت عشرات الآلاف من النشطاء البريطانيين لتوقيع عريضة إلكترونية تطالب قاطنة قصر باكنغهام الملكة إليزابيث بتحمل نفقات الترميم، التي من المحتمل أن تبلغ نحو 370 مليون جنيه إسترليني (نحو 454 مليون دولار). بينما رد آخرون بتدشين عريضة مؤيدة لتمويل الترميمات من الخزينة العامة، وهو ما جعل الأمر محل جدل وتجاذب في الأوساط البريطانية من يتحمل تكاليف الإصلاحات المتوقفة منذ نصف قرن؟ وأعلنت الحكومة البريطانية، برئاسة تيريزا ماي في نوفمبر 2016، موافقتها المبدئية على تخصيص نحو 370 مليون جنيه إسترليني من الخزينة العامة لترميم القصر وإصلاحه، وهو ما أثار العديد من ردود الفعل الرافضة للقرار، التي كان أولها تدشين عريضة إلكترونية لجمع توقيعات الرافضين لقرار الترميم؛ نظراً لمعاناة البلاد ضائقة اقتصادية كبيرة تتمثل في أزمتي السكن والنظام الصحي الحكومي.وهو ما عبر عنه الناشط مارك جونسون المشرف على تدشين العريضة الرافضة لترميم القصر من أموال البريطانيين، حيث اعتبر في تصريحات صحفية له أن توقيت إعلان الترميم غير صائب. وقال إنه في الوقت الذي تتخذ فيه الحكومة إجراءات تقشفية قاسية، فإنه من غير المقبول أن يتكفل الشعب بنفقات الترميم، مؤكداً في الوقت ذاته أهمية ترميم القصر كمَعلم لاستقطاب السياح، غير أنه يرى تأجيل الأمر إلى وقت تتحسن فيه الظروف الاقتصادية للبلاد، حسب قوله. ويوافق جونسون في رأيه الرافض لعمليات الترميم في الوقت الحالي، غراهام سميث، الرئيس التنفيذي لمجموعة "الجمهورية" المناهضة للملكية، الذي اعتبر القرار دليلاً واضحاً على سوء الإدارة المالية للملكة لأكثر من 6 عقود. في الوقت ذاته، ذكرت تقارير صحفية أن بعض المؤيدين لتمويل أعمال الترميم من الخزينة العامة بدأوا في إعداد عريضة إلكترونية مضادة للعريضة الرافضة لتمويل الترميمات، وهو ما يزيد من حالة الجدل في الشارع البريطاني الذي ما زال يعاني حالةً انقساميةً كبيرةً منذ خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي. أكبر من ثروة الملكة النشطاء المعارضون لمبدأ الترميم في الآونة الحالية يرون أن المنحة الملكية التي تتلقاها العائلة المالكة سنوياً من الخزانة العامة سترتفع بنسبة 10%، وتمثل هذه المنحة السيادية السنوية حالياً 15% من إيرادات شركة "التاج الملكي" التي تدير العقارات الملكية في البلاد، ولكن تكلفة الترميم سوف تتطلب رفع تلك النسبة إلى 25% مع بدء أعمال الترميم . وبحسب مجلة Forbes الأميركية، فإن لدى الملكة ما يقدر بنحو 277 مليون جنيه إسترليني (370 مليون دولار) من الثروة الشخصية فقط (أي أقل من تكاليف الإصلاح البالغة نحو 370 مليون جنيه إسترليني، في حين يقدر إجمالي الأموال المملوكة من قِبل النظام الملكي بنحو 8.6 مليار دولار، فضلاً عن مئات الملايين التي تتلقاها العائلة سنوياً من أموال دافعي الضرائب عن طريق المنحة الملكية. إدارة القصر: إصلاحات لا بد منها وترى الإدارة الفنية لقصر باكنغهام أن عملية إصلاح القصر وترميمه باتت من الضرورة بمكان. فبحسب بيان أصدره المكتب الإعلامي للقصر، فإن تقريراً أعده خبراء مختصون مستقلون أوصى بضرورة التدخل العاجل لحماية القصر من احتمالات تعرضه لأضرار جسيمة. وذكر البيان الملكي أن الأشغال ستشمل تغيير الأنابيب القديمة وأجهزة التدفئة والكابلات الكهربائية العائدة لأكثر من 600 عاماً. ومن المفترض أن تنطلق أعمال الترميم مطلع أبريل 2017 وتستمر ما لا يقل عن 10 سنوات مع توزيع الأعمال بطريقة تسمح للملكة اليزابيث الثانية وزوجها الأمير فيليب بالاستمرار في الإقامة بالقصر وعدم تعطيل الجولات السياحية فيه. وترمي أعمال الترميم أيضاً إلى تحسين القصر وتأهيله لاستقبال أكبر عدد من السياح، كما أوضح البيان أنه مع الانتهاء من أعمال الترميم فإن النتيجة ستكون خفض الإنفاق السنوي للقصر بقيمة 3.4 مليون جنيه إسترليني وتخفيض انبعاث الكربون منه بنسبة 40%. وتعود آخر أعمال ترميم جرت في القصر إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وذلك لإصلاح الأضرار التي لحقت به جراء القصف الألماني. السنة المريعة للملكة ويذكّر الوضع الحالي بعام 1992، الذي وصفته الملكة بالسنة المريعة، حين تحوّل الرأي العام ضدّ العائلة المالكة، وسط مخاوف تحميل دافعي الضرائب من أبناء الشعب البريطاني مسؤولية دفع فاتورة إصلاحات قلعة ويندسور بعد أن اشتعلت فيها النيران والتهمت جزءاً كبيراً منها، ما دفع الملكة في نهاية الأمر إلى الموافقة على دفع نسبة 70 في المائة من أصل 36.5 مليون جنيه إسترليني لإتمام الإصلاحات، وذلك من خلال فتح قصر باكنغهام للعامّة للمرّة الأولى؛ بغية إيجاد مصدر دخل إضافي. واليوم، يحتاج "باكنغهام" -المقر السكني الرسمي للملوك البريطانيين وأحد أبرز المعالم السياحية البريطانية- إلى إصلاحات واسعة تعيد إليه بريقه السياسي والسياحي مرة أخرى باعتباره أحد أشهر صروح العالم. باكنغهام.. الوجهة السياسية والسياحية ويعد "باكنغهام" هو القصر الأهم لعموم البريطانيين؛ لقيمته السياسية المتمثلة في إقامة الأسرة المالكة فيه واستقبال الوفود الدولية القادمة للبلاد داخل أروقته، ما يجعله صاحب رمزية سياسية كبيرة للشعب البريطاني، فضلاً عن كونه وجهة سياحية يتردد عليها أكثر من نصف مليون سائح سنوياً من شتى بقاع الأرض؛ لما يحويه القصر من عبق تاريخي ومعماري متميّز. فالمباني التي يحويها القصر تحتل مساحة قدرها 77 ألف متر مربع تتألف من أكثر من 600 غرفة؛ منها 52 مخصصة لنوم أفراد الأسرة المالكة وضيوف القصر، و188 غرفة لطاقم العاملين، و92 مكتباً، و78 حماماً. هذا ويقدّر وكلاء العقارات، قيمة "باكنغهام" وحده بما يزيد على 2.2 مليار جنيه إسترليني.