أثناء سفر طارئ في ليلة ماطرة، انعطفنا بالسيارة جانبا لاستراحة قصيرة بعد الشروق، على ضفة نهر أم الربيع ، في مشارف مدينة خنيفرة . تمشينا بضعة أمتار وتوقفنا بجانب صخرة كبيرة عالية عليها نقوش. استبدت بي رغبةٌ جَامِحَةٌ في التدخين ، فصرت أحاول إشعال سيجارتي مستندا إلى الصخرة اتقاءً لريح تُطفئ الولاعة، بينما يحرك الصديق كتفيه وذراعيه ،ويفرك راحتيه طلبا للتسخين. *لفت انتباهي إلى عجوزٍ محنيةِ الظهر تَجُرُّ قدميها ببطءٍ قاتلٍ مستندةً إلى عكازٍ قصير. مرت بجانب الصخرة وتَوارت بين أشجار سِدْرٍ عتيقة على الضفة، حيث توجد مقبرةٌ صغيرةٌ بدون سُور. قُرب مدخل المقبرة، جَثَتْ تُنْبِتُ أحجارا صغيرةً وتُسَوِّي جَانِبَي قبرٍ قديمٍ بالطين، في عنايةٍ وحنانٍ واضحين ، وهي تُرَدِّدُ أَدْعِيَةً . من بين ما وصل مسمعي وفهمتُه من دعائها بالأمازيغية: " اللهم ارحمْه واجعلْ له أُنْساً في وحدته ، طالما رجوتُك يا ربي أن تتوفانا في يوم واحد، لكنها مشيئتُك ، فلك الحمد ، لك الحمد ، لو بقي بعدي لَمَا تَحَمَّلَ العيشَ بين جسدٍ أَضْعَفتْهُ الأيامُ ونفسٍ عزيزة ، في زمن صعب لا يكاد أهله يفكرون في غير أنفسهم. اللهم اشمله برعايتك واجعل لقاءنا في الجنة….". *أَطْبَقَ صمتٌ لم يكن يقطعُه إلا صوتُ قُبَّرةٍ تُحَلِّقُ منتشيةً بجو الصباح البليل. * رميتُ سيجارتي إثر الإحساس بألم احتراقٍ بين أُصْبُعَي. نظر إليَّ الصديقُ في صمتٍ ثم قال مستغربا:" لأول مرة أرى لك دمعتين طيلة سنواتِ صداقتنا ". !؟ أجبتُ : " ربما مساراتُ حياتنا حكمت على الدمعِ بملازمة القلب يَغلي فيه ،فلا يُطِلُّ من العين إلا في مشهد وفاء كالذي رأيت. هيا نَدْعُ للأمواتِ و نواصلْ ، لعل الله يُكرمنا ببعضٍ من ذاك الوفاء . !!!"