عالم برس - مجلة الصباح - تحقيق مولاي ادريس المودن : وضعية الصحة النفسية للمغاربة تبعث على القلق، والآلاف من المرضى النفسيين يجدون ملاذهم في الشارع، وحالات الاعتداء المسجلة من طرفهم في تزايد.. والسؤال الأكثر استعجالا الآن هو: ماذا تنتظر الدولة لتواجه آلاف "القنابل المختلة" التي تتحرك بسلاسة في شوارع المدن المغربية؟ ظل عشرات الراجلين والسائقين من مستعملي ملتقى شارعي محمد السادس وأبي شعيب الدكالي في مدينة الدارالبيضاء، مشدوهين للحظات طويلة أمام منظر شاب في ربيعه الثالث كان يركض بشكل هستيري، بين السيارات والحافلات غير آبه بالخطر الذي يتهدد حياته، وكان بين لحظة وأخرى يطلق صرخات عالية بكلمات غير مفهومة لم يستطع أحد تبيُن مغزاها، قبل أن يُخرج الشاب الجميع من حيرتهم بعدما شرع في نزع ملابسه وهو يعتلي سقف سيارة أجرة، ثم واصل بعدها ركضه عاريا كما ولدته أمه، يوزع شتائمه يمينا ويسارا على كل من صادفه في طريقه، في منظر لم يجد معه الكثير ممن شاهدوه غير الأسف وضرب كف بكف، كما لم يجد معه أفراد دورية للشرطة كانت تنتظر الإشارة الضوئية لتواصل سيرها أي حرج في متابعة المشهد مثلما فعل الجميع، دون أن يقوم أفرادها بأي رد فعل تجاه ما يحدث وكأن الأمر لا يعنيهم في شيء.. حقيقة مرة.. المشهد الذي أثار أسف جميع من شاهدوه يكاد يتكرر كل يوم في أكثر من حي في مدينة بحجم الدارالبيضاء على غرار عدد من المدن المغربية ويكون "أبطاله" شباب وكهول وحتى نساء، يتحولون في لحظات من أناس مسالمين إلى كائنات عدوانية يركلون ويصفعون من يجدونه في طريقهم، بل ويحدث أن يعمد بعضهم إلى تكسير زجاج السيارات أو واجهات المحلات التجارية أو بعض التجهيزات العمومية، دون أن يستطيع أحد صدهم، والحال أن أعدادهم ما فتئت تتزايد في السنين الأخيرة وأضحت الشوارع ملأى بالمئات من المجانين والمعتوهين الذين وجدوا في الشارع ملاذا، بعدما عجزت أسرهم عن تحمل علاجهم بسبب ضيق ذات اليد، أو لأنهم اصطدموا بحقيقة الخصاص المهول الذي يعرفه المغرب في ما يخص المراكز المتخصصة في علاج مثل هذه الحالات، وقِصر يد وزارة الصحة عن بناء مستشفيات لهذا الغرض من خلال توفير أسرة للآلاف ممن يجوبون الشوارع ليل نهار، بدل تركهم يواجهون علتهم النفسية بشكل يهدد حياتهم، مثلما يهدد حياة الكثير من المواطنين الذين يتعرضون لاعتداءات من طرفهم، غالبا ما تتسبب لهم في إصابات أو عاهات أو خسائر في ممتلكاتهم، دون أن يجد المتضررون فصولا قانونية تضمن حقهم في متابعة المعتدين أو ذويهم، لأن القانون المغربي ما يزال يتعامل مع الظاهرة بمنطق أن "القلم مرفوع عن المجانين". ظاهرة الحمقى والمجانين الذين تحتضنهم شوارع المدن المغربية حقيقة مُرة لا يمكن حجبها، وأضحت تفرض، أكثر من أي وقت مضى، الوقوف عندها لشرح أسبابها، كما أضحى من الضروري الاعتراف بعجز المسؤولين عن الشأن الصحي في المغرب عن احتوائها، وعدم نجاعة بعض الحلول المعتمدة بشكل مناسباتي في إيجاد حل لأزمة بدأت تتفاقم يوما عن يوم، بدليل أن آخر الدراسات تؤكد أن عقول المغاربة ليست بخير، وأن قرابة نصف سكان المغرب يعانون مرضا نفسيا، وأن ما يقارب 700 ألف من المواطنين مصابون بانفصام الشخصية، ضمنهم نسبة كبيرة "مسجل خطر" ما يعني أنه مرشح لأن يتحول إلى "قنبلة مختلة" تتجول بكل حرية بين ظهرانينا! أرقام مفزعة.. الأرقام التي كشفت عنها آخر دراسة همت الصحة النفسية للمغاربة تدعو إلى القلق، وإذا علمنا أن الدراسة أنجزتها وزارة الصحة بتعاون مع المنظمة العالمية للصحة ونُشرت نتائجها قبل حوالي 8 أشهر فالأمر يصير أكثر جدية ويفرض البحث عن حلول حقيقية لكثير من الاختلالات. تقول الدراسة، التي همت عينة من ستة آلاف مستجوب من مختلف الشرائح الاجتماعية يفوق عمرهم 15 سنة، إن 48.9 من المستجوبين يعانون نوعا من أعراض المرض النفسي، مع تفاوت درجة الخطورة من شخص إلى آخر (رقم تم تعديله في ما بعد ليتراجع إلى 42 في المائة)، كما يصل عدد المغاربة ممن يعانون مرض الاكتئاب إلى 26 في المائة، أي حوالي أزيد من 10 ملايين مغربي يعانون جراء هذا المرض، ضمنهم 34,3 في المائة من النساء و20.4 من الرجال، في حين يتمركز 31.2 في المائة من المصابين في الوسط الحضري مقابل 21.8 في الوسط القروي. الدراسة كشفت أيضا أن 5.6 في المائة يعانون الأمراض الذهانية، و6.3 في المائة منهم يعانون مرضا آخر يسمى الرهاب الاجتماعي، و6.6 في المائة يعانون الوسواس القهري، و9 في المائة يعانون مرضا نفسيا يسمى " الخوف الداخلي العام". كما تشير الدراسة ذاتها إلى أن نسبة 1 إلى 2 في المائة من المغاربة يعانون مرض انفصام الشخصية أي بعملية بسيطة، يصل عدد المصابين إلى 700 ألف مواطن وأن نسبة كبيرة من هؤلاء حالتهم خطيرة تستوجب خضوعهم للعلاج بسرعة قصوى كونها مرشحة للارتفاع نتيجة تزايد عدد المدمنين على المخدرات والأقراص المهلوسة خصوصا في أوساط الشباب.. وبالنظر إلى الأرقام التي تم الكشف عنها والتي لا تحتاج إلى تعليق يكون المغرب أمام مشكل حقيقي يهم الصحة النفسية لشرائح عريضة من مواطنيه، وهو رأي لا يخالفه عدد من المهتمين بقطاع الصحة النفسية الذين استقت "مجلة الصباح" آراءهم، ولو أن لبعضهم تحفظات على نتائج الدراسة، التي أشرفت عليها وزارة الصحة، من منطلق أنها تفتقد المنهجية العلمية اللازمة، اعتبارا لأنها استندت إلى معطيات جمعها فريق بحث اشتغل فقط على عينة من المستجوبين محصورة في ستة آلاف شخص، وبالتالي فلا يمكن لعينة من هذا العدد أن تعكس حقيقة تفشي هذه الأمراض على الصعيد الوطني أخذا بعين الاعتبار نسبة النمو الديمغرافي للسكان. فضلا عن أن الدراسة، يضيف المشككون، أُسندت إلى فريق بحث من غير المتخصصين في مجال الطب النفسي ولم يتلق أفراده تكوينا جيدا حول الأمراض النفسية حتى يتسنى لهم التوصل إلى معطيات مضبوطة ومنسجمة مع المنهجية العلمية.
خصاص في كل شيء.. لمحاولة فهم بعض الأسباب التي تقود بشكل مباشر، إلى تزايد عدد الحمقى والمرضى النفسيين المنتشرين عبر تراب المملكة، إذ لا يكاد يخلو منهم حي من أحياء المدن حتى الراقية منها، يبدو من الضروري مساءلة بعض الأرقام التي حصلت عليها "مجلة الصباح"، وهي المعطيات التي اعتُمدت في صياغة الخطة الوطنية للصحة النفسية المقررة ضمن مخطط عمل وزارة الصحة للفترة 2008-2012 وتُبين بجلاء، حجم العجز المسجل في الوحدات الاستشفائية الموجهة إلى المرضى النفسيين، وحجم الخصاص في عدد الأسرة بل يتعداه إلى نقص حاد في عدد الأطباء المختصين في الطب النفسي. تقول الأرقام إن مجموع الأطباء المتخصصين في الطب النفسي لا يتعدى 350 طبيبا بمن فيهم الأطباء في فترة تكوين، ويتوزع هذا الرقم على 124 طبيبا من أصل قرابة 6200 طبيبا ينتمون إلى القطاع العام، و76 طبيبا مختصا في الأمراض النفسية من أصل قرابة 6800 طبيب يزاولون في القطاع الخاص، وهو الخصاص الذي قال، بخصوصه، البروفيسور إدريس موساوي مدير مركز الأمراض النفسية بالمستشفى الجامعي ابن رشد في الدارالبيضاء "إن بعض مسبباته تكمن في أن عدد الأطباء الذين كانوا يوجهون للتكوين في مجال الطب النفسي لم يكن يتعدى 15 طبيبا في السنة، قبل أن يرتفع العدد هذه السنة إلى 40 طبيبا، معترفا بأنه رقم ما يزال بعيدا عن سد الحاجيات الملحة للمراكز الاستشفائية الموجودة على قلتها". يضاف إلى ذلك ما يعرفه توزيع الأطباء المتخصصين على جهات المملكة من اختلالات كبيرة، إذ نجد أن المدن الكبرى وحدها تستفيد منهم، وهكذا يزاول 19 طبيبا مختصا مهامه في المستشفى الجامعي ابن سينا في الرباط، ويتوفر المستشفى الجامعي ابن رشد في الدارالبيضاء على 25 طبيبا. في حين لا يتعدى عدد الأطباء في مستشفى ابن النفيس في مراكش 7 أطباء، و ينخفض العدد إلى 4 في مستشفيات مدينتي فاس وسطات. الخصاص يشمل أيضا عدد الأسِرة المخصصة للمرضى النفسيين في مجموع مستشفيات المملكة البالغة 13 مركزا فقط، إذ لا يتعدى 1950 سريرا يمثل نصيب مدينة في حجم الدارالبيضاء حوالي 250 سريرا، وهو ما يعطينا نموذجا صارخا على تردي الخدمات الاستشفائية الموجهة إلى هذه الفئة من المرضى، بدليل أن المركز الطبي ابن رشد، وهو مستشفى جامعي مقارنة مع باقي المستشفيات الإقليمية لا يتوفر سوى على 4 غرف مغلقة مخصصة للمرضى الأكثر خطورة و124 سريرا عاديا، بينما لا يتجاوز عدد الأسرة في مستشفى الملازم بوافي 20 سريرا لا يستغل منها إلا 5 أسرة، بالإضافة إلى 100 سرير بمركز تيط مليل يحتل أغلبها فئات أخرى، خاصة المسنين والمشردين والمتخلى عنهم. عود على بدء.. استقراء كل هذه الأرقام، سواء التي تتحدث عن تفشي الأمراض النفسية بأنواعها بين شرائح واسعة من المواطنين المغاربة، مع تباين درجة خطورة الإصابة بين خفيفة ومتوسطة وخطيرة، أو تلك التي تتحدث عن العجز القاتل في المراكز المتخصصة في الطب النفسي وفي عدد الأسِرّة والأطباء المتخصصين، يمنح المشروعية للذين ينادون بضرورة دق ناقوس الخطر والقول إن الأمور بدأت تخرج عن حدود السيطرة. وبغض النظر عن مدى صحة النتائج التي توصلت إليها دراسة وزارة الصحة، وحتى إذا اعتمدنا هامش خطأ كبيرا، فإن الأرقام المحصل عليها مخيفة وسيكون من المفيد البحث عن حلول ناجعة لجملة من المشاكل المرتبطة بالصحة النفسية للمواطنين، قبل أن يتفاقم الأمر ويتضاعف عدد المصابين بالأنواع الخطيرة، بصورة يصعب معها التحكم في المسألة، ما يعني تحولهم إلى أشخاص عدوانيين يهددون محيطهم ويخلفون وراءهم ضحايا، هم في الغالب مواطنون أبرياء ذنبهم الوحيد وجودهم في المكان والزمان الخطأ مع واحد من آلاف المرضى النفسيين، الذين يفترض أن تجد لهم وزارة الصحة أسرة ليتلقوا علاجا يتناسب وحالتهم النفسية، بدل تركهم يهيمون على وجوههم في الحواري والأزقة يعترضون سبيل المارة. والاعتداءات المسجلة بهذا الخصوص كثيرة، بدليل أن الحالات التي تسجلها محاضر الشرطة أو تستقبلها المراكز الطبية من ضحايا الحمقى والمشردين في تزايد مستمر، ووصلت في حالات معينة حد إزهاق الأرواح أو التسبب في عاهات دائمة للبعض، ناهيك عن حالات أخرى من التخريب والإتلاف التي تمس الممتلكات الشخصية أو العمومية وهي تصرفات غالبا ما تُواجه بحقيقة أن القانون المغربي لم يواكب المسألة بالشكل المطلوب، رغم بعض التعديلات التي مست فصولا من القانون المغربي تتحدث عن المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية للمعتدي المصاب بمرض نفسي أو عقلي وكذا مسؤولية الأهل أو المشرفين عليه في مراكز العلاج. ---- على سبيل المقارنة.. حدة الخصاص في الأسرة الموجهة للمرضى النفسيين في المغرب تظهر بشكل جلي، من خلال إجراء مقارنة بسيطة مع دول قريبة أو حتى أقل مستوى مثل الجزائروتونس، إذ يشكو المغرب نقصا بنسبة 3 إلى أربعة أضعاف ما هو موجود في هذين البلدين، زيادة على أن معدل الأسِرّة هو فقط 0.8 سرير لكل عشرة آلاف مواطن، في حين أن يصل عدد الأسِرة في تونس ومصر إلى 1.3 سريرا، وتتوفر فرنسا على 12.6 سريرا لكل عشرة آلاف نسمة. ويتحدد المعدل العالمي حسب الأرقام الصادرة عن منظمة الصحة العالمية في 4.5 أسِرّة لكل عشرة آلاف مواطن. ---- الطب النفسي "الابن اللقيط" لا تخفي ياسمينة بادو وزيرة الصحة في كثير من استجواباتها الصحافية أن الطب النفسي ظل دائما بمثابة "الابن اللقيط" لقطاع الصحة، ولم يكن أبدا أولوية ضمن مخططات وزارات الصحة المتعاقبة، وترى الوزيرة أن بإمكان أي مصاب بمرض نفسي أن يعيش بشكل عادي لو توفرت له سبل العلاج وتم التكفل بحالته بالشكل المطلوب، بعيدا عن المقاربة الأمنية. وتدافع بادو عن المقتضيات الجديدة التي تضمنها مخطط العمل الذي تبنته وزارة الصحة للفترة 2008-2012 في ما يخص الصحة النفسية من خلال تخصيص لجان عمل وإشراك المتخصصين والجمعيات المهتمة بهدف الوصول إلى صيغ تخرج القطاع من حالة الأزمة التي عاشتها عقودا طويلة. ---- ضريح بويا عمر.. طاقة استيعابية تفوق ما توفره الدولة ضريح "بويا عمر" مدفن لأشهر أولياء المغرب على الإطلاق، يقع على بعد 30 كيلومترا عن مدينة قلعة السراغنة ولا يبعد سوى ب 3 كيلومترات عن قرية العطاوية على ضفاف نهر تسّاوت. يُعرف هذا المكان لدى المغاربة بأنه أكبر "مستشفى للأمراض العقلية" وذاع صيته ليتجاوز الحدود لأنه يضم أزيد من 1200 "نزيل" يلتمسون بركة الولي من أجل التداوي من حالات المس والجنون والخلل العقلي. في هذا المكان، يجد "النزلاء"، ممن استعصى على ذويهم علاجهم في مصحات العلاج النفسي أو لدى المتخصصين في الطب النفسي، ضالتهم مقابل مبالغ مالية يحددها سماسرة يتاجرون في كل شيء، بدء من أسِرّة النوم إلى المواد الغذائية بل حتى في السلاسل التي تُستخدم لتكبيل المرضى أملا، وكما هو معتقد هناك، في تخليصهم من الجن الذي يلبسهم. الجميع يعلم بأمر الضريح والممارسات اللاإنسانية التي تمارس في حق النزلاء، بدءا من أي مواطن عادي إلى أعلى مسؤول حكومي، لكن الجميع يقف عاجزا أمام الظاهرة، ويكتفي كثير من المسؤولين، كما هو حال وزيرة الصحة في إحدى حواراتها الصحافية، بالتأسف على الوضع وتقديم وعود بمنع جميع الأنشطة التي تزاول في الضريح. ورغم عشرات الاستطلاعات الصحافية التي كشفت الفظاعات المرتكبة في الضريح، وضمنها ربورتاج بثته القناة التلفزية الرسمية قبل أسابيع، وقدمت، خلاله، عددا من الشهادات الصادمة لبعض "النزلاء"، ورغم الكثير من الأصوات التي ترتفع من أجل القطع مع ممارسات مماثلة، إلا أن الضريح يأبى إلا أن يستمر في تقديم المساعدة الطبية والنفسية للآلاف من المرضى على مدار السنة ويساهم في سد الخصاص الذي تعترف وزارة الصحة به ولا تجد إلى تقليصه سبيلا.