قد تكون تركيا تجاوزت لحظات عصيبة ليلة السبت الجمعة، لكن هذا التجاوز لا يعني أن تركيا ما قبل 15 يوليوز 2016 سيكون شبيها بما يليه، فقد سارت مياه كثيرة تحت جسور البوسفور، و من المفترض أن يستوعب الساسة الأتراك، وخاصة في حزب العدالة والتنمية، أن الديمقراطية ليست فقط صناديق إقتراع وإنتخابات شفافة تفرز أغلبية، بل هي كما قال روبرت دال هي في الأصل حجم الضمانات التي تكتسبها الأقلية، فالديمقراطيات لا تقاس بأغلبياتها بل بأقلياتها أساسا. لماذا فشل الانقلاب العسكري؟ أولا: لأنه لم يكن إنقلابا عسكريا، فهو لم يتجاوز حالة تمرد لعسكريين برتبنج ضعيفة في الجيش التركي لم تتجاوز رتبة عقيد، أبرزهم من سلاح الجو والذي عادة لا يحسم الحروب، فما بالك بالإنقلابات التي تتطلب أساسا السيطرة على كل مفاصل الدولة وعلى الشخصيات السياسية وعلى وسائل الإعلام، وكل ذلك إذا لم يحصل في الساعة الأولى فإنه من الصعب الحديث عن أي نجاح ممكن، فقيادة الأركان ومختلف الجيوش لم تشارك لا في التخطيط ولا في التنفيذ، كما أن عددا من وحدات المدفعية والمدرعات تم توريطها في التمرد بدعوى التصدي لأعمال إرهابية. ثانيا: لأن هذا التمرد العسكري لم يتلقى أي تغطية سياسية في الداخل، وخاصة من قبل المعارضة التي توجد على خلاف كبير مع رجب طيب أردوغان، كما أن الإنقلاب لم يحظى بدعم أبرز حركة دينية إجتماعية ممثلة في حركة "الخدمة" للداعية فتح الله غولن الذي يوجد في المنفى بالولايات المتحدةالأمريكية. ثالثا: لأن هذا التمرد العسكري كان بلاقاعدة إجتماعية، فلم يستطع مواجهة الحشود التي خرجت للشارع رافضة العودة إلى لغة الإنقلابات العسكرية، وذلك في بلد عاش ويلات التدخل العسكري في الحياة السياسية منذ 1960 وهو أمر تكرر تقريبا كل 10 سنوات منذ ذلك التاريخ، حيث لم يعد هناك أي طرف سياسي يقبل بعودة هذه اللغة للحياة السياسية التركية، رغم ما تشهده الديمقراطية في تركيا من إغتيال يومي على يد أردوغان بإسم صناديق الإقتراع. رابعا: حذر المجتمع الدولي من مساندة تغيير السلطة الشرعية بالقوة، فصحيح أن الدول الغربية، وعلى النقيض مما كان مطلوبا منها في اللحظات الأولى للتمرد العسكري، فإنها أبدت مواقف رخوة لم تتضمن الإدانة الصريحة لإعتماد الإنقلاب العسكري لتغيير نظام الحكم في تركيا، بل عبرت بعبارات فضفاضة مجملها كان يتحدث عن نبذ العنف، لكن مع ذلك فصدور التصريحات الأولى المؤيدة للحكومة الشرعية ساهم في إنحسار إمكانية نجاح التمرد العسكري. نجحت تركيا في إجتياز إختبار قاس، لكنه إختبار جدي سيكون له ما بعده، ويبدو من ردود الفعل الأولى لأردوغان، أنه لم يستوعب بعد حجم المخاطر التي تهدد إستقرار تركيا، سواء من خلال إصراره على إستغلال المناسبة لتصفية الحسابات مع حركة "الخدمة" التي وصل معها إلى قطيعة منذ 2013، وكذلك المس بإستقلالية القضاء عبر توقيف أزيد من 2700 قاضي، بدون تحقيقات ولا دلائل وهو ما يجعل المستقبل غامضا في تركيا، التي دخلت مرحلة كسر العظام في ظرفية إقليمية شديدة التعقيد بالنسبة لتركيا. [email protected]