تحتفل اللغة العربية بيومها العالمي الرابع بعد أن حددت لها منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) يوم 18 دجنبر يوما عالميا على غرار لغات أخرى سمّت لها المنظمة أياما للاحتفاء بها، منها الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والصينية والروسية. ويوم 18 دجنبر هو نفس التاريخ الذي اعتمدت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة اللغة العربية سادس لغة رسمية لها قبل ذلك بنحو أربعة عقود، أي عام 1973. ويرمي اليوم العالمي للغة العربية إلى إبراز الإسهام المعرفي والفكري والعلمي لهذه اللغة وأعلامها في مختلف مناحي المعرفة البشرية عبر التاريخ، فالحضارة العربية الإسلامية لها إسهامات مشهودة في مختلف مناحي العلوم والمعرفة والآداب والفنون، ويعود إليها الفضل الأكبر في النهضة الأوروبية ثم الثورة الصناعية التي كرست قيادة الغرب للعالم منذ أواخر القرون الوسطى. ويسعى اليوم العالمي للغة العربية كذلك إلى التأكيد على مركزية هذه اللغة، التي تعد من أوسع اللغات انتشارا، حيث عدد المتحدثين بها يتجاوز 420 مليون نسمة في البلاد العربية، وفضلا عن ذلك فإن معرفة، ولو محدودة بها، ضرورية لأكثر من مليار مسلم كي يؤدون صلواتهم، كما أنها اللغة المعتمدة لدى عدد من الكنائس المسيحية في المشرق، وكتب بها جزء مهم من التراث الثقافي والديني اليهودي. ويأتي الاحتفال العالمي باللغة العربية وسط نقاش محتدم بين فريقين من الكتاب والمبدعين واللغويين المغاربة. فريق يقول بالحضور الباهت للغة العربية في صلب المجتمع ونمطه التعبيري، حيث هي وإن كانت تعبر في العمق عن روح المجتمع ومعتقداته، باعتبارها لغة القرآن الكريم، تبقى أجنبية، بل غريبة استعمالا وتداولا عن النشأة الكلامية المغربية التي تشكل فيها اللغة الدارجة خزانا تراثيا متراكما بكل تنوعاته وتناقضاته. ويرى الفريق الثاني أنها الأداة التي حملت لنا الإسلام وما انبثق عنه من إشعاع حضاري، وجسدت منذ أبعد العهود أفكارنا وأحاسيسنا، وهي اليوم مقوم من أهم مقومات حياتنا وكياننا. اللغة التي اعتبرها المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير، "أم اللغات وأقواها تخيلا وتجسدا على الإطلاق". وفي سياق الجدل الدائر في الموضوع، ثمة توجه لدى العديد من الكتاب والروائيين المغاربة إلى جعل مفردات الدارجة قطع غيار ضرورية في ماكينة اللغة الفصحى، بحجة اقتراب الأولى من صميم البيئة ونبض الحياة اليومية، وعدم امتلاك الثانية أي الفصحى، مهما طاوعت، القوة اللازمة للنفاذ، أسلوبا وتمثلا ومحاكاة، إلى عمق مجتمع لا يوجد فيه شخص واحد يتداولها شفويا في حياته اليومية. ويذهب هؤلاء إلى أن الفصحى التي سنها رجال اللغة وقننوها لتصبح لغة علمية عالمة لا تتيح، بحكم وعائها النحوي والتركيبي المعقدين، هامشا كبيرا للمناورة الكتابية أو التعبيرية التي تمكن الكاتب من التقاط تفاصيل اللحظة بتدفقاتها المختلفة (أحاسيس، انفعالات...) فيصبح التغليف الدارجي ضروريا لأنه الأقرب فهما وتداولا واستيعابا. ولا يرى هؤلاء عيبا في أن يلجأ بعض المبدعين من روائيين وشعراء وصحفيين إلى انتقاء مفردات من اللغة العامية وسبكها لتشكل شحنة مكثفة ومعبرة بشكل أعمق عن الواقع الذي يعتمل في نفوسهم، لا سيما وأنها، أي الدارجة، تشكل خزانا تراثيا متأصلا في صميم النشأة الكلامية المغربية. أما المدافعون عن نقاوة الفصحى وصفائها والحريصون على سلامتها من شوائب الامتزاج، فيؤكدون أن الأمر أعقد من مجرد مزاوجة بين لغتين. إنه قصور في امتلاك أدوات اللغة وعجز في التجوال باسترخاء وتلقائية في رحابها للعثور على الأعمق والأدق من التراكيب والمفردات وافية المراد مبنى ومضمونا. قد نتفق مع الفريق الأول في كون الدارجة بنكهتها وإيقاعاتها المتميزة هي أكثر عمقا ونفاذا بما هي أداة وظيفية للتواصل بين فئات المجتمع، وقد نتفهم إصرار الفريق الثاني على العيش في أمجاد الفصحى وإمبراطوريتها باعتبارها لغة القرآن الكريم وبالتالي الوعاء الروحي للمجتمع. غير أنه من المنصف للغتين أن يجتهد الإبداع في رسم حدود للمزاوجة والتحاور بينهما، والبحث عن نقط الالتقاء في ثنايا اللغتين بما يضفي لمسة جمالية على الكتابة القصصية أو الروائية أو حتى الصحافية. فاقتراض بعض المفردات العامية وتوظيفها في الحوار بين شخوص وشرائح مختلفة لا يشوش في شيء على البناء اللغوي، بدليل أن معظم المبدعين المغاربة والعرب نجحوا ببراعة في توظيف حوارات باللغة الدارجة. غير أن هذا الاقتراض الذي له من الركائز الموضوعية ما يمنحه حجيته في المحاورة الأدبية، يصبح على التو ضارا بنفسه وبالعربية الفصحى حينما يوظف في البناء السردي للنص الروائي أو القصصي. فكون الفصحى غير متداولة في المعيش اليومي لا يعني في شيء الانتصار للدارجة في كل الأجناس الأدبية، وإلا سنفهم ممن يتكئون باعتباطية على الدارجة أنهم لا يمتلكون أدوات الفصحى وغير قادرين على سبر أغوارها.