الملك محمد الخامس رحمه الله الملك الواحد والعشرون من ملوك الدولة العلوية التي أسسها مولاي الشريف بن علي سنة 1631م، ولد المغفور له محمد الخامس بمدينة فاس يوم الجمعة 10 غشت 1909م، اعتلى العرش يوم 18 نونبر 1927 وسنه لا يتجاوز 18 سنة. كانت الظروف التي تولى فيها الملك ظروفاً عصيبة وخطيرة بالنسبة للمغرب الذي جزأه الاستعمار إلى مناطق خاضعة للحماية الفرنسية في الجنوب، والإسبانية في الشمال، والدولية في مدينة طنجة، فالملك محمد بن يوسف الذي كنا نسميه محمد الخامس رغم صغر سنه فتح عينيه على الثورات المتلاحقة التي خاضها الشعب المغربي من أجل مقاومة الأطماع الاستعمارية ولا سيما منها الفرنسية والإسبانية على الخصوص، كما أنه بالإضافة إلى ذلك كان ديبلوماسياً بالفطرة يمتزج في نفسه الحذر مع الحس السياسي المرهف والإيمان بأنه من أصحاب الرسالات لأنه سليل الأسرة العلوية المنحدرة من النبي محمد صلى الله عليه وسلم. في مدينة الرباط نشأ محمد الخامس، ففتح عينيه على جيوش الاحتلال وهي تجوب أرض الوطن، والغرباء يمتلكون مقدراته، ويتصرفون في خيراته وأبنائه. كان الملك الشاب يرافق والده في كثير من أسفاره داخل الوطن للتعرف على أحوال البلاد. في سنة 1926 سافر مع والده السلطان مولاي يوسف لافتتاح مسجد باريس، فاطلع من خلال هذه الرحلة على الحضارة الغربية عن كثب، فشاهد بنفسه الحقوق التي يتمتع بها الفرنسيون في بلادهم مقارناً لها بالظلم الذي يخضع له المغاربة من طرف المستعمرين الفرنسيين والإسبان الذين يدعون أنهم أصحاب حضارة، فكانت هذه الرحلة بذرة ثورة غرست في روح محمد الخامس، فنمت وترعرعت واشتد عودها، وأعطت نتاجها الوطني، الذي هيّأ في الحقل الوطني رجالاً يؤمنون بقضية وطنهم التي تتجلى في الحرية والكرامة والعيش الشريف. لقد واجهت الملك الشاب منذ اعتلاء العرش عدة قضايا في مقدمتها الاستعمار الفرنسي الإسباني والدولي في طنجة، فكان تفكيره ينصب نحو تحرير البلاد وتخليص المغاربة من العبودية والجهل والتخلف. حاول المستعمر أن يقسم المغاربة فئتين: عرب وبربر فاستصدر «الظهير البربري» في مايو 1930 فكان محمد الخامس أول الرافضين لهذا الظهير، لأن هذا الظهير كان القصد منه تمزيق وحدة الشعب المغربي وإبعاد الأمازيغ عن العروبة والإسلام، ولمواجهة مخططات المستعمر تكونت لجنة المطالب الوطنية سنة 1934 التي أنشئت للمطالبة بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فحظيت هذه اللجنة بعطف الملك محمد الخامس الذي وقف إلى جانب الحركة الوطنية في كل خطواتها، يباركها ويعمل على تقويتها، ومساندتها بالقول والفعل، حيث أعطى المثل من نفسه ومن أسرته. فكانت سنة 1934 مناسبة عظيمة امتزج فيها الحب والوفاء بين العرش والشعب وهكذا أصبحت الحركة الوطنية كتلة للعمل الوطني يدعمها محمد الخامس ويجتمع بأعضائها من أجل التشاور وإعطاء توجيهات جلالته لزعمائها. وهكذا ما أن سُمح للأستاذ علال الفاسي بالعودة من فرنسا إلى الرباط، حتى استدعاه الملك محمد الخامس إلى مقابلته في القصر الملكي فكانت هذه أول مرة يحظى فيها زعيم وطني بمقابلة الملك بقصره منذ فرض الحماية على المغرب وقد قال المرحوم علال عن هذه المقابلة (1): «لقد حظيت بمقابلة جلالة السلطان مقابلة خاصة استغرقت ساعة كاملة، وكانت هذه أولى المرات التي يحظى فيها زعيم وطني بمقابلة جلالته، وقد أراد جلالته أن يعبر بذلك عن تكذيبه لما يروجه الفرنسيون من ثورة الوطنيين عليه، وعدم رضى جلالته عن الحركة التحريرية القائمة، وقد لمست في شخصية سيدي محمد بن يوسف محمد الخامس الملك العظيم الذي ظهرت آثار عظمته فيما بعد في الكفاح المستميت الذي لم يزل حفظه الله يوليه لمصلحة الأمة واستقلال البلاد برباطة جأش وثبات قلب واطمئنان نفس ونبل روح، ولما شرحت لجلالته الغاية من حركاتنا صرح لي بأنه راض كل الرضى عن كل ما من شأنه أن يساعد على تقدم البلاد وازدهارها وقال لي: «إن ما ضاع من حقوقنا ناشئ عن عدم معرفة من مضى من المسؤولين بالأساليب التي يجب أن تتبع، منذ الآن لن يضيع لبلاد حق، بل سأعمل على استرجاع كل ماضاع». شعبية محمد الخامس ووطنيته تتجلى وطنية الملك محمد الخامس وشعبيته رحمه الله في عدة نواحي نخص منها على الخصوص، الزيارتين التاريخيتين اللتين قام بهما لمدينة فاس ومدينة طنجة. ففي مدينة فاس التي زارها محمد الخامس ضداً للمستعمر نظم الجمهور إقبالاَ شعبياً زالت منه السدود والحدود التي أراد المستعمر وضعها حائلاً بين الملك وشعبه، وسار الملك وسط شعبه دون حراس ولاحجاب، وكانت هذه الزيارة الملكية الشعبية مؤشراً جديداً أبان للإدارة الاستعمارية أن هذا الملك الذي يحظى بهذه الثقة الشعبية، وبهذا الحب الكبير لن يكون أداة طيعة للحماية ورجالها، ولذلك فقد بدأ التحول في السياسة السارية نحو القصر الملكي، واعتبرت الحماية أن لافرق بين هذا الملك وشعبه، وأنها خسرت ورقة كانت تظنها رابحة لحسابها. ومن ثم فقد انصب الاضطهاد على الحركة الوطنية التي احتضنها الملك وشجعها وظهر التحامها مع الشعب من خلال هذه الزيارة الملكية لمدينة فاس العريقة مهد القرويين والعلم والعلماء والوطنيين الأفذاذ. وفي 10 أبريل 1947 قام محمد الخامس بزيارة مدينة طنجة. هذه المدينة التي كانت تخضع لنظام دولي، والتي لم يسبق لأي سلطان متوج من سلاطين المغرب أن زارها منذ سنة 1889، فاستقبل جلالته استقبالاً عظيما وبحفاوة كبيرة، فألقى في شعبه خطاباً تاريخياَ أجمع كل الذين أرخوا للمغرب عرباً وأجانب على القول بأنه كان خطاباً كون منعطفاً حاداً في خط سير المغرب الحديث، لأن محمد الخامس نادى صراحة لأول مرة منذ بدء الحماية أن المغرب المسلم سيبقى متشبثا بعروبته وإسلامه، وأن المجهودات التي يبذلها كسلطان وأمير للمؤمنين لنشر العلم والثقافة بين أبْناء المغرب وبناته ترمي لغاية وحيدة بعيدة، غاية توحيد اتجاهات المغرب وذهنية شعبه مع الاتجاهات والذهنية العالمية الحديثة، كما ألقى الأمير مولاي الحسن الملك الحسن الثاني خطابا غلب عليه الطابع السياسي ركز فيه على المنهاج الإصلاحي الذي وضعه والده محمد الخامس، كما ألقت الأميرة للاعائشة خطابا تناولت فيه تعليم الفتاة وفق الإصلاح الذي ينشده أبوها والرقي بوضعية المرأة والطفولة. فمن خلال زيارة الملك محمد الخامس لمدينة فاس ومدينة طنجة يتجلى كيف كان جلالته يصارع الاستعمار في جبهات متعددة، فبعد 34 سنة من فرض الحماية على المغرب تدنى مستوى البلاد في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ووجد المغاربة وملكهم أنفسهم قد فقدوا كل سلطة حقيقية، فحكومة المخزن صورية، وزمام الأمور كلها بين الفرنسيين ينفذون التعليمات بواسطة جهاز إداري بإمرة الإقامة العامة، وفي الميدان الاجتماعي سلك المستعمر سياسة التجهيل والتفقير، فالتعليم منعدم واللغة القومية العربية محاربة، والمؤسسات الوطنية الإسلامية تخضع لرقابة المستعمر وتوجهاته والأوضاع الصحية للمواطنين مزرية وكذلك الشأن بالنسبة للعدالة. كان محمد الخامس يعمل بدأب وجد وبكل الوسائل التي تمكنه من العمل لأجل بث حركة الوعي والتشجيع بالمال والعمل مع الجماعة الوطنية بهدف إفشال مخططات الاستعمار. فقام إلى جانب أعباء الملك بدور المربي الناصح الذي يهدف إلى تطبيب الأجواء التي يعيشها المجتمع. لقد بث في شعبه روح الإقبال على التعليم، وساهم في المشروعات التعليمية بماله الخاص، وشجع في خطبه على الإقبال على التعليم ودشن الكثير من المدارس الحرة بمدن فاس والدار البيضاءوالرباطوطنجة، وغيرها من المدن الأخرى التي حملت اسمه وأسماء أنجاله، لأن جلالته كان يرى أن التعليم هو الملاذ لخروج البلاد من التخلف. هذه الأفكار والمواقف الوطنية التي كان يعبر عنها ملك البلاد في كل وقت وحين جعلت المستعمر لايطيقها ويضيق بها ذرعاً فدبر مؤامرة النفي وإبعاد محمد الخامس عن عرشه وشعبه هو وأسرته الكريمة في 20 غشت 1983، فتقبل مخططات الاستعمار بصبر وجهاد نفس وإيمان بالله وثقة في شعبه المتعلق به وبالعرش العلوي، فبرز في ميدان الشرف مقاومون أبطال وفدائيون أحرار أرغموا المستعمر على الرضوخ لمطالب الشعب وفي مقدمتها عودة الملك الشرعي إلى عرشه وتمتيع الشعب المغربي بالحرية والإستقلال. فعاد محمد الخامس إلى وطنه عزيزا مبجلا من منفاه السحيق، عاد مظفراً ليبدأ الجهاد الأكبر لتأسيس المغرب الجديد، تالياً جلالته قول الله تعالى: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} مخاطباً شعبه قائلاً: (أيها الشعب العزيز وعدت بالإخلاص، ووفيت أحسن الوفاء، وكنت من الصابرين، فكان لك ما وعد الله به {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} مبشراً شعبه ببشرى انتهاء عهد الحجر والحماية وبزوغ فجر الحرية والاستقلال، حيث دشن العهد الجديد بتأسيس القوات المسلحة الملكية للدفاع عن حوزة الوطن وأسس الأمن الوطني لينعم المواطن بأمنه وأنشأ مرفق التعليم والصحة والسكن فأعلن عن تشكيل أول حكومة والتي كلف وزراؤها بعدة مهام من تعليم وعدل وصحة وشؤون خارجية. وعين السفراء لدى دول العالم واستقبل سفراء تلك البلدان وكان يولي جلالته أهمية كبرى للقضايا الاقتصادية والاجتماعية، كما قام بزيارة شعبه في مدن مختلفة ولا سيما بالأقاليم الصحراوية فزيارته لإقليم باعمران يسجلها التاريخ بمداد الفخر والاعتزاز حيث التقى بشعبه هناك كما أمر جلالته، بإنجاز طريق الوحدة الذي تطوع له الأمير مولاي الحسن كما قام جلالته بزيارته الميمونة لدول المشرق العربي فأدى العمرة وزيارة المسجد الأقصى بالقدس الشريف، وفي 10 رمضان من عام 1380 ه التحق الملك الشهم المغوار محمد الخامس بالرفيق الأعلى بعد جهاد ونضال عظيم، فتقلد ولي عهده الحسن الثاني الملك فكان نعم خلف لخير سلف ومن أعظم منجزاته المسيرة الخضراء المظفرة التي وحد بها تراب المملكة وخلص بها البلاد من الاستعمار الإسباني وها هو خلفه محمد السادس نصره الله يواصل جهاد توحيد أطراف البلاد والنهوض والنماء بالاقتصاد الوطني وجعل المغرب واحة وارفة للديمقراطية استظل بها كل مواطن ومواطنة من أجل العيش الكريم ورفاء وازدهار المغرب الوطن الحبيب. * أستاذ باحث - د. عبد الرحيم بن سلامة ----------- هوامش: 1- راجع كتاب (الحركات الاستقلالية في المغرب العربي) للأستاذ علال الفاسي.