في مهنة الصحافة أخبار كزبد البحر تُعجب بها لحظة لتنساها في اللحظة التالية، وأخبار أخرى تثير التفكير وتحرّك مضاعفات لكنها أيضاً لاتدوم أكثر من عمر الورود. لكن ثمة أخبار دهرية (إذا ما جاز التعبير) تؤدي إلى تغييرات وتحرّك ديناميكيات في المجتمعات البشرية تدوم عقوداً وأحياناً قرونا. لكن، في مهنة الصحافة أيضاً ليس من الضروري أن يكون الخبر الدهري حدثاً جللاً. في بعض الأحيان قد يكون مجرد بيان سريع أو تصريح مقتضب، لكنه مع ذلك يرمز إلى هذا البعد الدهري نفسه. يوم الخميس الماضي شهد العالم عينة من هذا النوع الاخباري، تمثّل في البيان المختصر الذي أدلى به وانغ كيشان، نائب رئيس الوزراء الصيني ورئيس وفد بلاده إلى مؤتمر _الحوار الاقتصادي الاستراتيجي_ بين الصين والولاياتالمتحدة الذي عقد الأسبوع الماضي في بكين. قال كيشان: _نأمل أن يتخذ الجانب الأمريكي الإجراءات الضرورية لتحقيق الاستقرار في اقتصاداته وأسواقه المالية، وكذلك ضمان سلامة الأصول المالية والاستثمارات الصينية في الولاياتالمتحدة_. وبعد كيشان جاء دور محافظ البنك المركزي الصيني زهو كسيوشوان، الذي حث الولاياتالمتحدة على إعادة التوازن إلى اقتصادها، مشدداً على ان _الاستهلاك المفرط والاعتماد الأكثر إفراطاً على القروض هما سبب الأزمة الاقتصادية المالية الحالية_. صحيفة _فاينناشال تايمز_ الرأسمالية الرزينة وصفت التصريحات الصينية بأنها بمثابة _محاضرة_ من أساتذة صينيين إلى تلاميذ أمريكيين. وهي أعادت إلى الأذهان أنه قبل سنتين فقط، وبالتحديد العام ،2006 كانت الولاياتالمتحدة هي التي تبادر إلى الإدلاء بمحاضرات على الصين حول كيفية إدارة اقتصادها وحول ضرورة فتح نظامها المالي وزيادة قيمة عملتها. أما إيسوار براساد، الباحث البارز في مؤسسة بروكينغز فقد رأى إلى التصريحات الصينية على أنها دليل على أن الولاياتالمتحدة _لم تعد لها اليد العليا لإلقاء المحاضرات على الصين حيال السياسات المالية أو الاقتصادية الكلية_. استنتاجات صحيحة بالطبع. لكن ما أغفلته الصحيفة والباحث هو أن هذه قد تكون المرة الاولى منذ 500 عام، أي عملياً منذ بدء السيطرة الغربية على العالم، التي تقوم فيها أمة أو حضارة شرقية بإلقاء المحاضرات الاقتصادية على دولة غربية. وكيف؟ عبر استخدام أدوات التحليل الرأسمالية نفسها التي اخترعها الغرب نفسه. ولكي لاتبقى مسألة المحاضرات مجرد حدث _ثقافي_ عابر، ينبغي التذكير هنا بأن للصين ودائع في الولاياتالمتحدة تقدّر قيمتها بأكثر من 4 تريليونات دولار. وإذا ما قررت بكين، لسبب ما، سحب هذه الأصول أو بعضها، فسيتسبب ذلك في سقوط مريع وسريع لكل من أسعار الأسهم وقيمة الدولار. أجل. _المحاضرة_ الصينية على الأمريكيين خبر دهري ستكون له مضاعفاته الهائلة على العالم إن لم يكن اليوم فغداً، وإن لم يكن غداً، فبعد غد. لكن هذه المضاعفات آتية لامحالة وهي ستضع الشرق فوق والغرب تحت..