كانت وجهتنا إلى الشارع، الذي قدم لنا الصورة الناطقة عن مآسي إنسانية أبطالها أطفال أبرياء، إنهم أطفال الشارع أو بالأحرى، وكما أشار إلى ذاك العديد من الدارسين لهذا الموضوع، الأطفال الذين يعيشون في الشارع، لأنهم ليسوا بأشخاص أوجدهم القدر دون مأوى كظاهرة إنسانية طبيعية تمضي في عرف المسلمات، بل هم نتاج فعلي لخروقات أخلاقية لعبت فيها أيادي الكثيرين من البشر، ورمت بهم إلى أحشاء الشارع دون مسائلة للضمير،هم أطفال لا يفقهون شيئا في أسرار لعبة الحياة، ولكنهم رغما عن ذالك فقد قبلوا بالتنازل عن طفولتهم وتقنصوا شخصية الراشد المكلف، اتقاء لشر الإقصاء السائد في مجتمع يحكمه قانون الغاب على حد تعبيرهم. تمثل ظاهرة الأطفال الذين يعيشون في الشارع، تجسيدا لأكبر المعضلات السائدة بالمجتمع المغربي، التي تكشف عن التصدعات التي تطال الأسرة المغربية، هم أطفال إلى الضياع أقرب وهم ضحايا مجتمع لايعبأ بضعاف القوى من ذويه، وهم خير دليل على نجاحنا كمجتمع إسلامي في إخفاقنا وإفلاسنا إنسانيا، كانت هذه حصيلة آراء تمكنا من استخلاصها بجعلنا الموضوع قيد الحديث موضع تساؤلات عدة. أطفال بلا طفولة. كانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلا، وحينها عقدنا النية للبحث عن هؤلاء الأطفال ظنا منا أنه أمر سيكلفنا الكثير من العناء أثناء عملية البحث، ولكن سرعان ما تبددت هذه الفكرة، حينما أخذنا نلمح أطفالا هنا وهناك، هذا في إحدى الشوارع المنسية يفترش الأرصفة والشوارع، وذاك ربما ينعم بوضعية أرحم ولو بقليل من سابقه لأنه تمكن من أن يظفر لنفسه ببعض القطع الصغيرة من"الكارتون" يتخذها مضجعا متنقلا. سألنا المارة، من الأطفال والشيوخ والرجال والنساء ولم نخطئ أحدا إلا وطلبنا منه كلمة في حق هؤلاء، الذين أسماهم البعض"الشمكارة" "ولاد الزنقة" والبعض الأخر ب"اللقطاء". منهم من وجه أصابع الإتهام إلى الدولة قائلا "الدولة مادايراش خدمتها"، ومن قال أن ظاهرة أطفال الشوارع هي ظاهرة مصطنعة لأن هناك أيادي خفية لا تظهر للعيان تتجاجر في هؤلاء الأطفال، بتحريضهم على التسول واستدرار عطف الناس. كلها كلمات تحتمل قدرا كبيرا من الصواب لكنها لم تصمد أمام الشارع في منتصف الليل الذي كان خير متحدث إلينا، تألق في وصف الظاهرة، لأننا صادفنا أعدادا هائلة من الأطفال الصغار الذين تبددت طفولتهم في زحمة الحياة التي حملتهم مالا طاقة لهم به فباتوا يجيدون التكلم بلغة الرجال، هو الأمر الذي تبين عندما اقتربت من أحدهم وسألته عن سبب تواجده في الشارع رغما عن صغر سنه ليجيب ضاحكا"منين عقلت على راسي وأنا عايش غير فالزنقة علاش فين خاسني نمشي"، هو كلام ينم على أن هؤلاء الأطفال ألفوا العيش الغير الكريم وباتوا يعتبرونه من المسلمات الحتمية بفعل جهلهم لأبسط حقوقهم. طفولة منسية ملقاة على قارعة الطريق. أمام العدد الهائل للأطفال الذين يعمرون الشارع، كان من الصعب علينا اختيار حالات تشاطرنا الحديث حتى ترسم لنا هول الظاهرة على لسان ضحايا واقعيين، فوقع اختيارنا بأحد الشوارع ذات ظلام دامس بالرباط، على طفل صغير السن يجهل حتى كم يبلغ من العمر، صادفناه وهو بصدد بيع المناديل التي لا تجلب له إلا بعض الدراهم القليلة والتي يجدها فرصة يستجدي من خلالها عطف الناس، مايثير الانتباه فعلا كمدعاة للأسف، هي الملابس التي يرتديها والتي تكاد أن تكون مجرد قطع أقمشة غير متناظرة، والكثير من الجروح الغائرة التي تطال رأسه الصغير، وبعد إلحاح في السؤال عن سبب هذه الجروح، قال إن السبب كان هو أحد "الشمكارة" على حد تعبير الطفل، الذي يكبره سنا و الذي منعه من الجلوس بإحدى الأماكن التي يحتجزها لنفسه ويمنع الباقي من الأطفال محاولة استغلالها. الطفل لا يعرف شيئا عن المدرسة التي لم تطأها قدماه يوما، لا يتكلم سوى عن العمل قال إنه اشتغل كل شيء من أجل لا شيء كيف ذالك؟. تبين من خلال كلامه أنه امنتهن أكثر من"عمل" من قبيل مسح الأحذية، غسيل السيارات وحمل الصناديق رغما عن جسمه النحيل الذي لا يتحمل، لكن غالبا ماكان يتلقى مضايقات من أولئك الذين يكبرونه سنا ويتربصون به الدوائر إلى حين يظفرون بما ادخره من مال، المال الذي تطالبه به أمه التي تقول له على حد تعبيره"خرج تخدم على راسك راك راجل". من الحالات الصادمة التي صادفنها أيضا، هي مجموعة إخوة يبلغ عددهم العشرة، 6 منهم ذكور والبقية إناث، الكل في الحي يحكي قصصا متضاربة حولهم،"عرفتي مهوم واحد شاطا ماطا غير كتولد وكتلوحهم لزنقا" كانت هذه إحدى الشهادات الصادمة التي قدمتها سيدة ستينية في حق هؤلاء الأطفال الإخوة، الذين يقضون يومهم يتجولون في الشارع وكل منهم يزاول حرفة معينة البعض يمتهن التسول والبعض الآخر يقضي يومه تحت الشمس الحارقة يتجول بالمناديل الورقية بين السيارات. لكن القصة المؤثرة هي للأخت التي تكبرهم سنا والتي تبلغ من العمر 16 سنة، تحكي أنها وتحت ضغوط والدتها وضعت حدا لدراستها لتنحصر حياتها منذ ذاك الحين في بيع الزهور في الأزقة التي حصدت من ورائها أشواكا على حد تعبيرها، وتضيف أنها جنت العديد من الويلات من الشارع كانت أعظمها أنها تعرضت للاغتصاب من قبل شاب كان يتربص بها منذ فترة طويلة إلى أن أوقعها في شباكه، بالرغم من كون الجاني نال جزاءه بدخوله السجن لمدة سنتين إلا أن حياة الطفلة القاصرة، قد ذهبت في مهب الريح، بعدما فقدت أو بالأحرى أفقدها طمع أمها الذي لا يقيم للعرض اعتبارا أو حسابا أمام المال، إلى جانب جشع مجتمع ذكوري لا محل للإعراب فيه لفتات ضعيفة لا حول لها ولا قوة أمام جبروت رجال أو بالأحرى ذكور متسلطين. كانت هذه كلمات جارحة وافتنا بها الطفلة القاصرة. محمد الملقب من قبل أصدقائه ب"الجن"، هو الآخر نموذج حي لضحايا المجتمع، وتجسيدا حيا لتيمة الغربة والضياع الذي يشهد عليه الشارع المغربي، هو طفل يبلغ من العمر 12 سنة، قال إنه وجد في الشارع ملاذا آمنا بعدما قرر الهروب من البيت، الذي تحول إلى جحيم عقب وفاة والدلته التي حلت محلها زوجة الأب، والتي أصبحت رمزا للتسلط و المعاملة القاسية التي تصل في كثير من الأحيان إلى استعمال وسائل بشعة في تعذيب الطفل كاستعمال النار والتهديدات المتعاقبة بالطرد من البيت. يقول الطفل" ففضلت الخروج من البيت لأعيش في الشارع، وبالرغم من كوني أفتقد لمأوى قار إلا أنني الآن أتمتع بكامل حريتي بعدما تخلصت من الرعب الذي كان ينتابني كلما طرقت باب البيت للولوج والذي ظل موصدا أمامي في الكثير من الليالي الممطرة لأبيت في الشارع ومن ثم فالشارع ليس بالشيء الدخيل على حياتي". لم تكن هذه الحالات السالف ذكرها، الحصيلة السلبية التي خلفتها هذه الآفة التي يفضل العديد تسميتها بظاهرة "الأطفال المتخلى عنهم"، إنما كانت مجرد مطية ومقربة توسلنا من خلالها بهدف تكوين صورة ولو مصغرة عن جسامة الإكراهات التي يكون لها هؤلاء الأطفال عرضة بالشارع حيث لا رقيب ولا حسيب يقيم لهم وزنا يذكر. الشارع يوجه أصابع الإتهام للفقر والطلاق والمشاكل الأسرية. طيلة عملية البحث عن هذه الفئة من الأطفال، كان المنطلق والمنتهى هو الشارع المغربي الذي كان بمثابة الميدان الشاهد على هذه الظاهرة، الأمر الذي أمكننا من تحقيق درجة احتكاك عالية بالمواطنين الذين حرصنا على تضمين آرائهم في الموضوع قيد الدراسة، لا لشيء إلا لأنهم الفاعل الأساسي الذي يساهم في بلورة صورة مقربة حول هذه الظاهرة. سألنا شابة عشرينية عن الأسباب التي تمثل من وراء تفعيل هذه الظاهرة، لتكون إجابتها كالآتي"نستطيع اعتبار الطلاق من الأسباب الرئيسية لاستفحال هذه الظاهرة، لأن افتراق الآباء غالبا ما يعرض الأبناء للتشرد، ويكفي أن نعلم أن 90 في المائة من أطفال الشوارع لديهم آباء وأمهات، أو على الأقل أما أو أبا ومن ثم فهم ليسوا لقطاء وإنما ضحايا لزيجات فاشلة". في نفس الصدد أضافت امرأة ستينية، أن من الأسباب الأساسية نجد المشاكل الأسرية كون الأطفال حساسون بطبعهم، وكل توتر يحدث داخل البيت يؤثر سلبا على نفسية الطفل الهشة سلبا، ليجد حينها الشارع ملاذا لا بأس به بالنسبة لما يعانيه في البيت. كما أشارت أنه من الأسباب الرئيسية التي تكرس لهذه الآفة نجد الفقر وكذاك الانقطاع عن الدراسة خصوصا وأن معظم أطفال الشارع هم أطفال لم يكملوا دراستهم لأسباب عدة، مما يفتح المجال أمام وقت الفراغ حيث تضيق الآفاق المستقبلية، ليجدون حينها الحل في الالتحاق بقافلة التشرد. من الإضافات الأساسية التي أغنت هذا الجانب، هي إضافة لشاب في مقتبل العمر، أكد بنبرة حادة على أن الفقر يحتل ناصية العوامل التي ترفع من حدة هذه الآفة، لأن معظم الأسر المغربية هي أسر لازالت تعاني من الفقر المدقع لا تتوان في دفع فلذات أكبادها إلى الاشتغال بالشارع دونما التفكير في تبعات هذا السلوك الغير الإنساني، بسبب عدم كفاية أجرة الأب في الغالب. أرقام صادمة تحدثنا عن هول الظاهرة. تشير إحصائيات رسمية إلى أن عدد الأطفال المشردين والذين يطلق عليهم أيضا في المجتمع المغربي "الأطفال المتخلى عنهم"، يقدر بنحو 400 ألف طفل. ويزيد من تعقيد مشكلتهم غياب المؤسسات القادرة على إنقاذهم من مخاطر الشارع وتأهيلهم نفسيا وحتى اجتماعيا. وحسب دراسات ميدانية مغربية فإن التسول يأتي في مقدمة الأعمال التي يزاولها أطفال الشارع، ثم يأتي مسح الأحذية وبيع الأكياس البلاستيكية، وغسل السيارات ثم السرقة. وفي نفس الصدد فقد صدر مؤخرا تقرير يشير إلى تراجع نسبة تشغيل الأطفال القاصرين. وفي نفس التقرير ورد أن الأطفال الذين يعملون والبالغين من العمر من 7 إلى 15 عاما بلغ العام الماضي 123 ألف طفل، أي 2,5 في المائة من الأطفال من الذين ينتمون إلى هذه الفئة. كما تأكد من خلال الدراسة ذاتها أن هذه الآفة أصبحت من الظواهر المقلقة والمسيئة لمجتمعنا، خصوصا أمام تناميها وتفاقمها سنة بعد أخرى، إذ أنها لم تقتصر على الأطفال الذكور، وإنما أصبحت تشمل في السنين الأخيرة أعدادا متزايدة من الفتيات اللواتي لجأن لحياة الشارع. وترتبط هذه الظاهرة بالتحولات العميقة و الجذرية التي عرفها المجتمع المغربي، والتي مست بالخصوص بنية المجتمع وبنية الأسرة، لتلقي بظلالها على وضعية الطفل في وسطه الأسري والمجتمعي. كلمة أخصائيين في حق هؤلاء الأطفال. تأتي قضية الأمهات العازبات في مقدمة العوامل المساهمة في تفشي هذه الظاهرة، حيث تدعو المنظمات الحقوقية إلى دعمهن وإعادة إدماجهن في المجتمع، بهدف الحد من تفاقم هذه الآفة، عائشة الشنا التي تعتبر أكبر مدافعة عن حقوق الأمهات العازبات في المغرب ورئيسة جمعية التضامن النسوي تقول في إحدى اللقاءات التي خصصت تحديدا لهذا الموضوع، "لا يجب أن نضحك على أنفسنا، لندعم طفل الشارع يجب أن نساعد أمه أولا. إذا كان وضعها سيئا فستترك وليدها حتما في الشارع عرضة للتشرد. وتشير الناشطة الحقوقية إلى أن بعض الأرقام تفيد أن 24 طفلا يتم التخلي عنهم من أصل 400 طفل، يولدون يوميا، وتعزو أسباب ذالك إلى الفقر والتفكك الأسري. وتضيف الشنا أن هناك حديثا الآن عن دعم الأمهات العازبات وحتى المطلقات والأرامل. وتعلق على ذالك قائلة "يجب مساعدة كل الأمهات، ففي النهاية لا ذنب لطفل ولد لأم عازبة، هو وأمه يظلمهما القانون والمجتمع ويعيشان وضعا أكثر تعقيدا. في عام 2009 ولد قرابة 28 ألف طفل خارج إطار الزواج حسب الشنا، التي تقول إن معظم الأمهات العازبات يرفضن إجهاض أجنتهن حتى اللواتي تعرضن منهن للإغتصاب، كما أن القانون المغربي لا يبيح الإجهاض لغير المتزوجة، أو التي تعرضت للإغتصاب وأيضا في حالة الإعاقة. من جهتها تضيف الناشطة الحقوقية سعاد التوفي في تصريح سابق لها في علاقة بالموضوع "أن أخطر شيء هو أن يفضل الطفل الشارع عن البيت لأسباب عدة منها العنف وغياب الإحساس بالأمن والوجود". وتضيف التوفي أن الأخطر في الظاهرة أنها لا تقتصر على الذكور فقط، بل و الإناث أيضا، وهذا ما يعني أن هناك أطفالا سيولدون في الشارع مستقبلا". وتضيف الناشطة الحقوقية بالقول"ما دمنا في مجتمع فيه فوضى حكومية حيث لكل وزارة استراتيجيتها فحل هذه المشكلة سيكون أكبر مما نتوقع". وتعتقد التوفي أنه ينبغي على الوزارات المتدخلة في هذا المجال أن توحد استراتيجيتها لتحارب من خلالها الظاهرة عن طريق حلول جذرية". وتشير التوفي أيضا إلى مشكل السن أيضا، إذ يجب عدم التخلي عن هؤلاء بمجرد أن يبلغوا الثامنة عشر، مضيفة" طفل اليوم هو رجل الغد، ويجب مراقبته إلى أن يقف على قدميه وليس التخلي عنه عندما يبلغ سن الثامنة عشر". أستاذ علم الاجتماع من جهته، علي الشعباني يؤكد أن الأسباب الماثلة وراء هذه الآفة، هي أسباب واضحة والتي يمكن إجمالها في التغير الذي لحق بمنظومة القيم في المجتمع المغربي، عقب التطور الذي عرفه هذا الأخير بوتيرة متسارعة، مع ما نتج عن ذالك من توسع في العمران وظهور تغيرات جذرية على مستوى الأفكار السائدة، إضافة إلى ظهور مجموعة من القيم الدخيلة في المجتمع المغربي والتي أحدثت تأثيرا سلبيا تمثل في تبدد العديد من المبادئ من قبل الاحترام والتضامن الاجتماعي و الحرص على رعاية الأبناء، مما يفسر انبثاق ظواهر متعددة كظاهرة الأطفال الذين يعيشون في الشوارع. استنادا على ماسبق ذكره، فمن البديهي جدا القول أن ظاهرة الأطفال الذين يعيشون في الشارع، تعتبر من الظواهر المقلقة التي تؤرق المجتمع المغربي، حيث تتعدد الأسباب التي تساهم في تفعيل هذه الآفة والتي تظل المراهنة على استئصالها من أكبر التحديات التي تعترض المجتمع وتحول دون التسريع من وتيرة التنمية، مما يدعو إلى ضرورة العمل على انتشال هؤلاء الضحايا الذين أجمعت الكثير من الأصوات على أن للمجتمع دخل كبير في تهميشهم واستهجانهم وجعلهم في حاشية ملحقة بركب المواطنين.