منذ إقرار الدستور الأخير وتبشيره بإحداث المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، لم تتوقف النخبة المثقفة والسياسية عن محاولات تفكيك مفاصله بغية فهمه تارة، وتأويله وتوجيهه نحو مقاصدها الخاصة في أحيان كثيرة. وحتى لا يغدو المجلس محطة للتجاذب وإعادة نفس الحالة النقاشية التي واكبت التعديل الدستوري لابد من قراءة النص دون مزايدات فهومية أو قراءات توجيهية. وتستوقفنا في النص الدستوري عدة أمور: 1. يحدد النص الغاية من إنشاء المجلس التي في:"حماية وتنمية اللغات العربية والأمازيغية" مما يثبت أن الأبعاد الأساسية التي شغلت ذهن واضعي النص تتلخص في الحفاظ على الموجود وتطويره. فالحفاظ يعني وجود خطر محدق والتطوير يحيل على القصور الحالي . 2. يستحضر الفصل الخامس حين حديثه عن العربية دور الدولة في حماية وتطوير اللغة العربية. لكن في حديثه عن الأمازيغية يركز على البعد المشترك بكونها "رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء". وحين الحديث عن وظائف المجلس يشير إلى "حماية وتنمية اللغات العربية والأمازيغية، ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية، تراثا وإبداعا أصيلا". ولعل المقصود أن تخرج الأمازيغية من التجاذب الهوياتي والإيديولوجي باعتبارها مكونا أساسيا في الشخصية المغربية، في حين أن الاعتراف المشترك بموقع العربية يجعل دور الدولة هو الحاسم في حمايتها وتنميتها. 3. قراءة عرضية للنص تجعلنا نطرح السؤال الاستشكالي: ما غرض المشرع بالنص على هذا المجلس؟ هل هو إحساس دفين بالحاجة إلى توزيع تكاملي بين اللغات والمكونات الثقافية الأخرى أم هو حل لمعضلة اجتماعية بدأت تفرض نفسها على المجتمع وتهدد تماسكه الاجتماعي وتغدو مع الوقت مشكلة سياسية؟ وفي كل الأحوال فإن وعي المشرع بالفوضى اللغوية/الهوياتية التي عاشها المغرب منذ الاستقلال ومازالت آثارها بادية في الواقع اللساني حيث لم تستطع الدولة ضبط فسيفساء التعبيرات اللسانية الوطنية مما يسر الأمر على الفرنكفونية لغزو السوق وفرض الفرنسية لغة للاقتصاد والفكر والإدارة والتواصل العام. والأكيد أنها ليست المرة الأولى التي تطرح فيها مثل هذه الهيئة العليا لضبط السوق اللغوية خاصة بعد احتدام النقاش حول وظائف اللغات الوطنية ودور كل منها في مسار التنمية والمعرفة. فقبل بروز النقاش بين المناهضين والمدافعين عن ترسيم الأمازيغية، كانت الساحة الفكرية المغربية تعج بسجالات علمية وإعلامية حول اللهجات وموقعها من التعامل العلمي والتربوي لدرجة أن غدا بعض المثقفين والإعلاميين يتحدث عن لغة "مغربية" تمتح من العربية واللغات المجاورة. بل الأكثر من ذلك، فإن الواقع اللغوي يشهد نوعا من الإجحاف الذي تعانيه العربية على الخصوص جراء السيطرة المتصاعدة للغات القوة والهيمنة الاقتصادية والسياسية. في هذا الواقع كان من المفروض إنشاء هيئة لغوية عليا تهتم بالتوزيع الوظيفي للغات في المغرب وتجيب عن إشكالات لغوية بحتة فشل المجلس الأعلى للتعليم في الخروج من ندوته حول"تدريس اللغات وتعلمها"برؤية استراتيجية للمستقبل اللغوي للمغاربة. فالفكرة جميلة إن قصد بها ضبط الفوضى اللغوية والصراعات الهوياتية من خلال فتح حوار حقيقي وجدي وعلمي يروم التنسيق بين الكيانات اللسانية والتوزيع العادل لها بشكل يجنبنا التجاذب والصراع الذي لن يستفيد منه المغربي التائه بين واقع هيمنة اللغات الأجنبية وحديث "الوعاظ" عن لغات الهوية. 4. لعل أهم وظائف المجلس هي السهر على"انسجام السياسة اللغوية والثقافية الوطنية". لذلك أتى النص واضحا في تحديد مكوناته التي هي" كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات، ويحدد قانون تنظيمي صلاحياته وتركيبته وكيفيات سيره". وهو إحساس بضرورة إشراك الأكاديميين والمؤسسات المختصة في المجال الثقافي واللغوي. قد لا نحتاج لتأويل النص الدستوري لنفهم أن الأمر محاولة لخلق نوع من التوازن بين كل الكيانات اللسانية. وإذا كان الأمر معقولا فيما يخص اللغات الوطنية وتدبير مجالها الاستعمالي، فإن إدماج اللهجات قد يزيد من التشرذم الهوياتي. والتجارب العالمية تشهد بأن المقصود بالضبط اللساني من خلال إنشاء مجلس وطني أو أعلى ليس اللهجات وإنما اللغات الوطنية الناشئة عن تكوين الدولة السياسي والإثني. وإذا كان من المفروض أن لكل لغة رسمية مؤسسة عليا تهتم بها وتنسق جهود المؤسسات البحثية. لكن السؤال هو من سيمثل العربية في غياب الأكاديمية؟ فالأكاديمية التي يفترض أن تكون قد عرفت النور في موسم 2001 2002، كما نص على ذلك ميثاق التربية والتكوين، مازالت متعثرة في دواليب أصحاب القرار.