كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن المواطنة ومقارباتها المتعددة. فقد دأبت العديد من المؤسسات والمراكز على تنظيم ملتقيات عدة لتدارس الموضوع والتفكير الجماعي فيه، متنقلة بين ثناياه بحثا عن رسم معالم سلوكية للمواطنة. واختيار الموضوع والحرص عليه قائم على بعث روح المواطنة في الإنسان وتأطير سلوكاته بقيم معينة تؤمن الانتماء والحفاظ على سدى اللحمة الاجتماعية. وكأن المواطنة رديف مفهومي للأمن والخدمة الاجتماعية والخضوع للواجبات القانونية. حيث يغيب المواطن لصالح الوطن. وإذا كانت الهوية منظومة من القيم الثقافية ونسيجا معرفيا يؤسس للانتماء الاجتماعي، فإن المواطنة هي قيد قانوني بالأساس. أي أن المواطنة انتساب جغرافي وقانوني والهوية انتساب ثقافي. والمواطنة انتساب إلى أرض معينة والهوية انتساب إلى معتقدات وقيم ومعايير معينة. فالمواطن هو ذات قانونية أي مجردة عليه جملة من الواجبات وله جملة من الحقوق تمثل عقدا اجتماعيا جديدا يضمن التعايش بين الأفراد ويضبط علاقة هؤلاء بالسلطة وهي اليوم تجسد خطا احمر لا يجوز لأي سلطة مهما كانت قداستها أن تتخطاه. وكما يظهر فإن مفهوم المواطنة يتجاوز حدود الانتماءات الهوياتية لدرجة الحديث عن التعارض والتناقض بين المكونين لأن المواطنة تتجاوز سمات الهوية وتتعالى على كل الخصوصيات العرقية والدينية واللغوية. وتتحقق المواطنة للفرد كامل الأهلية من خلال مشاركته في الجماعة الوطنية، والتي تعني أي فرد يحمل جنسية الوطن الذي يعيش على أرضه وتفرض عليه واجبات ويتمتع بحقوق شان الآخرين دون اعتبار للون أو الجنس أو العرق أو الدين. هذا على الصعيد النظري. لكن الأكيد أن طرح إشكال التعارض بين الهوية والمواطنة ليس في طبيعتهما النظرية وإنما في واقع غياب فكرة المواطنة التي تتأسس على الواجبات أكثر من الحقوق وسيطرة الاستبداد في عالمنا. فالانغلاق على الهوية هو غالبا ما يكون ملاذا وملجئا عندما تتعثر معايير الانتماء وتتوتر آليات الإدماج والانصهار داخل الوطن الواحد. وحتى حين تطرح قضايا الهوية مثل الأقليات والشعوب الأصيلة فليس من باب الصدفة أن لا تطرح إلا في ظل الأنظمة المستبدة حيث وضع الأكثريات والأقليات على السواء مأساوي. لذا فإشكالات الهوية المختلفة مرتبطة بمفردات الدمقرطة والجواب عنها لا يمكن أن يتأتى إلا ديمقراطيا. والعكس يكون انطواء وهوسا بالنقاء والصفاء والطهارة والانغلاق على الذات الذي يفتح هوة سحيقة بين الأنا "النقية " والمتورمة وبين الآخر المشيطن. ويبدو أن هذا الهوس وهذا الإدراك السلبي للآخر هو المسؤول عن الصراعات الاثنية المختلفة تارة باسم الدين وتارة باسم العرق وتارة باسم اللغة .فهذه الخطابات المؤسسة على رفض الآخر الجهنمي بتعبير سارتر تكون حاضرة في ثنايا المنطق الكلياني الشمولي الذي يؤسسه الاستبداد فيتم رفض كل مختلف. لكن السؤال الذي ينبغي طرحه هو هل القانون يحل الإشكال الهوياتي؟ يبدو أن اللجوء إلى فرض هويات معينة منمطة قد يؤدي إلى إضاعة الحقوق، لكن في المقابل لم تستطع القوانين ولا الصياغات الدستورية المختلفة حل الإشكال. فالقانون ضروري لحماية الحقوق الثقافية والاجتماعية خاصة بالنسبة للأقليات لكنه ليس كافيا لبناء نظام ديموقراطي مستقر. ففي المغرب لم تستطع ولن تستطيع التغييرات الدستورية التي حاولت احتواء التوترات الهوياتية حل مشكل الهوية. فبالرغم من حرص المشرع على الإشارة إلى الهويات السبعة في الفصل الخامس وتركيزه على إدراج لغات ولهجات في ثنايا النص، لم يتوقف النقاش الاجتماعي والتجاذب الهوياتي لأسباب عدة تتحكم في منطق تدبير الفاعل السياسي حيث النقاش الهوياتي ليس عنصرا أساسيا في مخيال السلطة بل انحصر الانشغال في ضبط التوازن الاجتماعي، حيث يتغلب الفهم السياسي الذي يتلخص في تسيير الظرفي بالمتاح على الاهتمام بالحاجات الحضارية للأمة. أي أن القراءة السلطوية لم تنبع من تفكير عميق حول الحل الشمولي لإشكال الهوية وتركيبته والأسباب التاريخية الفاعلة في تشكله مثل التجزئة الاستعمارية وصناعة الدولة القطرية التي غدت مشرعنة فكريا وإيديولوجيا ومنظومة القيم المتداولة...، وإنما اتجه البحث نحو الحل العرضي السياسي. فلا محاجة اليوم بأن المجتمع العربي يشهد إعادة النظر في تركيبته الهوياتية بشكل يقطع مع التدبير القديم للدولة القومية، وفي نفس الوقت يعيد إنتاج نمط جديد من الأنسجة الاجتماعية يكون للمفاصلة الهوياتية الدور الأسمى. ليبقى التحدي الأسمى هو: كيف يمكن تحقيق الانسجام الهوياتي داخل إطار المواطنة دون التخلي عن العمق القومي والحضاري للوطن؟