الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    أخبار الساحة    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة        تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية        بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقف والمدينة
في مسرحية الدكتور عبد الرحمن بن زيدان :»زنوبيا في موكب الفينيق»
نشر في العلم يوم 10 - 03 - 2013


الكتابة المسرحية بقناعات السؤال حول معنى التراث
يطوع الدكتور عبد الرحمن بن زيدان في مسرحية (زنوبيا في موكب الفينيق)، أدواته الإجرائية لاستقراء مكنون التاريخ والأسطورة لصياغة مؤلفه، معتمدا في ذلك على تمكنه من لغة إبداعية قوية، جاءت من تمرسه الكبير في الكتابة المسرحية نقدا وتنظيرا ، ثم نصوصا إبداعية. وقد اعتمد لغة ذات نكهة شعرية أضافت للنص جمالية على جمالية، كما حققت مبتغى المبدع في كتابة مسرحية تناسب قناعاته الفكرية والفنية، كما استند إلى نفس درامي عميق امتد من بداية العمل إلى نهايته، فكانت النتيجة نصا مسرحيا أبان فيه? كما عهدنا منه ? عن كعب عال في الكتابة والتأليف، وإضافة نوعية إلى ذخيرته العلمية بشكل خاص وإلى الإبداعية المسرحية العربية بشكل عام.
ينهل الكاتب في مسرحيته من خزان التراث بمنهجية تتغيى تفعيل التراث وفق طرح خاص، فينظر إلى هذا التراث على أنه مصدر إلهام، وإيحاء، فيتم بذلك إخراج الشخوص التراثية من الكتب الصفراء، ليكسبها قضايا الواقع المعاصر من خلال استثمار معانيها، وفي هذا يقول موضحا هذا التصور الخاص للتراث: ( وبهذا التحوير الدلالي، وبهذا التكثيف، والتركيز على الرمز والأسطورة وإبدالاتها، كنت أستثمر معاني وإيحاءات الماضي في القول الدرامي للشخصية المحورية، وأدعم وجودها بالمتناقضات كي تتأهل بقوتها الدلالية الجديدة ) (1).
إن التراث هنا يخرج من القومية الضيقة إلى رحابة التراث الإنساني من خلال رمزي الفينيق وزنوبيا، كما أن علاقة النص المسرحي بالتراث ليست علاقة محاكاة، أو إعادة إنتاج التراث، أو نسخه بقدر ما هي علاقة تنبني على الدينامية والتفاعل العميق مع معطياته، بغية استثمار طاقاته للتعبير عن التجربة الفنية المعاصرة للكاتب، وإيصال أبعادها للقارئ و المتفرج. ومن تم فاستدعاء شخصية (الفينيق) الأسطورية، وشخصية (زنوبيا) التاريخية يهدف إلى إبراز الرؤية المعاصرة للتراث، كما يهدف إلى أن تؤدي هاتان الشخصيتان دورا رئيسا وبارزا في إنتاج شاعرية الخطاب المسرحي في مسرحية (زنوبيا في موكب الفينيق )، واستثمار التراث مع عنصر التخييل عند المؤلف لإنتاج نص يعكس الواقع بعين نقدية تصور الحب ، وعشق الوطن برؤى حالمة.
تتخذ المسرحية زمنا لها هو كل الأزمنة، لأن زمن الفينيق هو زمن متجدد بالاحتراق، والانبعاث، والمكان هو كل الحواضر المحاصرة بالنهب، والاستغلال، والفساد، واستضعاف المواطن. أما بالنسبة للخطاب المسرحي فتتجاذبه ثنائية الخير والشر عبر شخوص المسرحية المتصارعة على مفاتيح المدينة. أما الثنائية التي استخرجناها من هذه المقاربة النقدية فهي ثنائية المثقف والمدينة، واختيار هذه الثنائية دون غيرها من الثنائيات التي تحضر في هذا النص له أسبابه الموضوعية تبرزها نوعية العلاقة القائمة بين الكاتب وموضوعه.
حول ثنائية المثقف والمدينة في المسرحية
إن علاقة المؤلف بالمدينة علاقة عشق، ووجع، وشجن، والبوح بأسرار هذه العلاقة بدأ أواخر الثمانينيات من القرن العشرين عبر منابر جرائد وطنية، قبل أن تجمع هذه الأسرار المعلنة في كتاب (مدن في أوراق عاشق ) سنة 1999، وحول هذا الموضع يقول الناقد عبد الرحمن بن زيدان : (لقد مكنتني زياراتي المتعددة للمدن العربية في أزمنة مختلفة أن أجد نفسي في دفء جميل أحيانا، وأحيانا أخرى أجدها في صهد أو في قر هما سبب استفتاء القلب عن أسباب الغليان في هذه المدن. هذه الزيارات مكنتني الالتقاء بوجه واحد لهذه المدن التي تخاطب فينا نبض المبدأ، ونبض العشق، وحقيقة التاريخ المهمش فينا، فكان هذا التخاطب تعبيرا عن وجه الانتماء إلينا، وكان حقيقة تفصح عن التناقض الذي نصارعه ويصارعنا، الصراع من أجل البقاء، من أجل الحفاظ على الهوية، في لغة الناس، وفي أحاسيسهم، وفي انفعالهم، ووعيهم بحياة مدنهم التي تقلبهم أو تطردهم )(2).
هذا العشق الممتد في الزمن لم يفتر، بل إن الناقد عبد الرحمن بن زيدان ظل وفيا للمدينة/ المدن العربية، وبعد حوالي ثلاثة عشرة سنة يختار أن يضع عباءة المبدع المسرحي التي لاقت استعدادا نفسيا وفكريا لدى الدكتور بن زيدان، وهو استعداد سبقه تردد ممنهج كما يعلن ذلك قائلا: ( ... لكن فعل التأجيل بعيدا عن الإغراء، وبعيدا عن غواية الكتابة، يكون خوفا من كتابة عالم يظل ناقصا، والتعبير عن تناقضاته يبقى هشا في ترابطه وارتباطه بعالم المتخيل، والواقع، وما بين الإغراء والتأجيل، وبين الدخول في حضرة طقوس الكتابة، تتجمع الأفكار والأحلام، والتعابير، والاستهامات، وحالات التذكر، والسهو، والنسيان، لتتأهل الكتابة نفسيا، وفكريا، ودراميا، كي تبدأ في قول قولها، وتسطر الأحرف في المعنى الأول للكلمة الأولى، بالرؤية الأولى التي تغادر عالم النسيان ) (3).
هكذا يحضر هاجس المدينة في هواجس هذا الناقد يريد أن يصور الصراع الدرامي في المدينة( المدن)، حيث تتنوع مظاهر البؤس الأخلاقي، والفكري، والاجتماعي، هذا البؤس الذي خطط له ساسة المدينة وأثرياؤها، وألقوا المدينة في براثن اليأس، والقنوط، والجنون، هذه الخطة الشيطانية كانت تسعى إلى إلجام ألسنة المواطنين، وتعطيل ملكة الفكر، والتفكير أولا، وتهميش كل من يطرح السؤال عن مصير المدينة، وهو ما ظهر معناه في الحوار بين الدمية والعراف:
(الدمية : ( بحزم ) لا تخف. لقد جعلنا لكل جدران المدينة آذانا.
العراف: وبدأنا في تعطيل العقول والكفاءات.
الدمية : وجعل الناس...
العراف: ( مكملا ) دون ألسنة.
الدمية : ودون عقول.) (4).
إن عملية تدجين المواطنين، والاستخفاف بعقولهم، وسلبهم إمكانات تطوير الذات والخروج بها من التبعية والإمعية، لا يمكن أن تنجح مع الكل، إذ مع كل قاعدة استثناء، وإن كان الشاذ لا يقاس عليه، فهو حاضر موجود يدمر كل استراتيجيات الشر، ويؤرق أحلام الاستبداد لدى السادة .
(العراف: زعيم التحريض المذهبي زادت شعبيته.
الدمية : وزادت كراهيته لنا.
العراف: وما العمل؟
الدمية : نلقي القبض على هذا الزعيم.
العراف : وماذا بعد؟ )(5).
الجواب يمتد عبر أزمنة الرفض، والاعتراض، والثورات، و تلفيق التهم الكبرى، بعد فشل سياسة المهادنة، ثم الرشوة، فالصراع ، أي الصراع بين الغالب والمغلوب، إنه صراع حول مفاتيح المدينة، وهي مفاتيح السلطة، والمال، والذهب الأسود، والثروة السمكية، والمضاربات العقارية... وأسلحة الصراع متاحة، سؤال الشرف والضمير ملغى، والتهم مبنية على كل أنواع الأباطيل.
(لدمية : لنلفق له مجموعة من التهم.
العراف : من يصنع هذه التهم؟
الدمية : المهندسون.
العراف : حتى لو بنيناها على بلاغات كاذبة ( بهمس ) كما تعودنا على ذلك؟
الدمية: حتى ولو كانت إنذارا كاذبا نبنيها سافا فوق ساف، وحجرا فوق حجر.)(6).
يأخذ الخطاب بعدا شعريا مختلفا في حديث الفينيق مع زنوبيا، وهو أمر طبيعي بالقياس إلى ثقافة المتحاورين، فزنوبيا ظلت رمزا تاريخيا يوحي بالجمال، والشموخ، والعزيمة التي لا تفتر، زنوبيا أسست وبنت حضارة تدمر بقوة الإرادة، وهي إرادة حديدية لم تلن أمام حضارة روما . فأضحت تدمر حتى بعد أسر زنوبيا نفسها تمثل قوة الحضارة، بينما تمثل روما حضارة القوة. ويشكل الفينيق كطرف أساس في الحوار رمزا للمثقف في المدينة، ورمزا للأمل المتجدد كل يوم بإرادة تنبعث من صهد الرماد معلنة أن الحياة هي الخيار الواحد والوحيد عند من اختار المواجهة بدل الاستسلام السهل، أو من اختار كتابة الانتماء بالاحتراق بدل الموت المهادن، ومن اختار على شاكلة سيزيف أن يحمل الصخرة بدل أن يبجلها ويعبدها. إن اختيار الفينيق كان هو العزلة، والتأمل، والصمت، والحلم إعلانا يتحدى صناع التفاهة واللامعنى والخراب، وفي هذا يقول وهو يحاور نقيضه الدمية:
(الفينيق: الانزواء والعزلة عندي عنيدان مثل هذا الصمت العنيد، بهما أكلمها لأنها ما تزال حية..
الدمية : وماذا يعطيانك بهذا الوهم؟
الفينيق: يعطيان حالات واحدة تساعد على تجرع دلالة الصمت بلسما سحريا يضع حدا للقلق، ويخفف من حدته، ويحجم من سطوته وهيمنته، الأيام مع هذا الانزواء، وهذه العزلة، ومع هذه الدمى اللعينة تجعل الأزمنة تمر بسرعة، وتجعل العمر في عمر المدينة يطوي أعمار الناس، ويجعل عمر المدينة يطوي ما أستنسخه من صفحات تشبهني وتشبهها ولا تشبهني، فأخزن هذه الأيام لأنساها، وأسلو ما جمعته منها لأمحوه وأعيد كتابته كأحلام وأنا أكلم زنوبيا ليست ككوابيس أراها وأنا أسمع إلى متاهاتكم .
الدمية : وماذا ستتعلم من العزلة؟
الفينيق: العزلة تعلم التأمل، والحكمة، وتعلم التحليق في امتدادات السماء، والأكوان لمعرفة الجوهر، وتعلم الذات كيف تنسكب في الذات، والروح كيف تنسكب في الروح.
الدمية : وماذا أيضا؟
الفينيق : تعلم كيف أتمالك نفسي أمام كل متملق ومقرف.)(7).
نجد في تنامي تطور الفعل الدرامي في المسرحية تفعيل الحوارالذي يأخذ دلالة التثوير والتصعيد، خاصة بين الفينيق و الدمى والعراف، فالفينيق يعلن استمرار الرفض والتحدي، والمطالبة بإعادة مفاتيح المدينة، ويفصح عن تعدد المدن في المدينة، فالمدن هنا أكسبها مغتصبوها نفس السمات ونفس الأسمال، هي مدن تمتلئ مجالس نوابها (لورداتها) بالمناورين، ويعبق هوائها بالأفكار المخدرة المختلطة بدخان بقايا الحافلات المستوردة والمنتهية الصلاحية في بلدانها المصنعة، مدن تعج مقاهيها وحاناتها وأنديتها بشباب ضيع رشده وحنط حواسه بالشيشة والحشيش والهيرويين...، مدن سرقت مفاتيحها، فضاعت بوصلاتها واختلطت الاتجاهات فيها، وفقدت كل معاني وجودها، وهي في الأخير مدن خسرت آخر رهاناتها بعد أن عمها الجهل، وأضحت تستمتع بمباهج الأمية النفسية بعد تحويل مكتباتها إلى حانات ومقاه، وبعد القضاء على مسارحها وسينماتها وقاعاتها في منهجية خطيرة تبغي القضاء على آمال المثقفين والمبدعين، وتبطل دورهم الريادي في المدن، ومن تمّ الإجهاز على صوت التفكير الذي يقلق من استحوذ على مفاتيح المدن، وبعد القضاء على المثقف والفنان، و بعد كل هذا الخراب، من يمد طوق النجاة لتدمر، ومن ينجد مكناس والقاهرة وبغداد ودمشق وفاس وتونس وبيروت و...
الفينيق: من يمكنه أن يصحح المفاهيم؟ من يقلبها رأسا على عقب لتصير مفاهيم صحيحة وواقعا مستويا؟ من يرد لمدينة تدمر وبغداد والقاهرة عزتها وصولتها بعد أن نهب تراثها الإنساني ؟ من يساعد الناس على معانقة حالة العافية والرشد فيها عوض الهرب إلى الضياع ؟ لماذا ينظمون مؤتمرات لكل شيء وتكون النتائج لاشيء ؟ لماذا يكثرون من والأسلحة والمأجورة ؟ لماذا يتكاثر في مدينتي من يدعم العلم بالغيب ؟ لماذا يقدسون الرداءة ويقيمون لها الحفلات الباذخة ؟ لماذا يزعجهم قول الكلمة الطيبة ؟ لماذا يغدقون الأموال على الرداءة وعلى الفن المستورد، وفنان مدينتي لا يجد ما يسد به الرمق ويروي العطش ؟ (8).
هنا يختار الكاتب عبد الرحمن بن زيدان الموقف الذي يجعله ينحاز إلى الكلام، ويتبنى خطاباته، لأن الكلام عنده موقف من العالم الذي يرفضه، وبين اختيار الصمت ، والانحياز للكلام جاء رد فعله الموضوعي.
بين اختيار الصمت والانحياز إلى الكلام
يبرز موقف الكاتب في اختيار قلم المثقف، الذي يدرك أن الكتابة شرط لكل الأزمنة، أزمنة الانتصار، وأزمنة الهزيمة، لكن لكل قلم حبره الخاص الذي يميزه، فهناك أقلام اختارت منطق الفيء والغنيمة، أقلام النفاق والمناسبات الرسمية والمدح التكسبي والتسول،والوقوف أمام بلاط أعتاب الوزارات ومجالس (اللوردات)...فاصطفت مع سارقي مفاتيح المدن وجلاديها، وهناك أقلام شعار مدادها يقول: « لا صلح ولا مهادنة «، أقلام مدادها يستمد سواده من وجع المدينة، ومن إحباطها، فيحول هذا اليأس والخراب النفسي إلى أنشودة أمل وقوة تصم آذان السفلة، والقتلة، والى أفكار وأقوال تؤكد أنه ما ضاع حق وراءه طالب، وإن تعددت وسائل الطلب واستعادة المسلوب، والمؤلف طبعا يختار سلاح القلم الثائر، المتمرد، والمخالف .
(الدمية : (بزهو) أنا أكتب أيضا..
الفينيق: تكتب مسرحيات سياسية تروج بها الدجل الديماغوجي بين الناس، وتقدم مسرحيات رديئة في المحافل الدولية، وتغني أغاني ركيكة، وتلقي خطبا مملة. وتفرح فرحا ممسوخا، وتشجع على تحريك الأوراك المتراقصة، والبطون الهزازة...
الدمية : أنا لا أفهم ما كنت تكتب، ولا أفهم ما تقول.
الفينيق: لكي تكتب وتتزين، وتفرح، وتتعطر، عليك أن تقول ما يفهم. وتفهم ما يقال.
الدمية : (بتعنت شديد) أنا لا أفهم، على الأقل، على الأقل أنا أتحدث بصوت عال.
الفينيق : أولا ،لكي تكتب عليك أن تقول شيئا ما.
الدمية : وماذا كنت تقول أنت؟
الفينيق : أنا أفكر بالجماعة عندما أقول قولا فيه لا..
الدمية : وما الذي كنت تقوله؟
الفينيق : (ساخرا) المهم هو الذي لم أقله.) (9).
عندما يضطلع المثقف بمسؤوليته التاريخية، ويصغي إلى ضميره، ويحتكم إلى حسه المواطن، لابد حينئذ أن يهزم قوى الظلام، ووطاويط المؤامرات الظلامية التي تنسج مخططاتها، وتنفذها في غياب العين الناقدة للمثقف/ المواطن، التي تبقي تشير إلى بؤر ومناطق الخلل أولا بأول، دون أن تترك المجال لتحقيق تراكم رصيد الفساد، فيصعب التغلب عليه ومقاومته فيما بعد... وإذا كان لا بد من الغياب فانه ? حسب المؤلف ? غياب وظيفي ، تمليه ضرورة التقاط الأنفاس، والتيقظ من الدهشة والصدمة مما وقع ويقع في المدينة، ومن تم لم شتات الذات المنكسرة، والتفكير فيما هو آت، والاستعداد له عبرعقلنة الخطاب وشحذ العزيمة ، وهو ما أبانت عنه زنوبيا والفينيق حي أعلنا عن نهاية المتلاعبين بالمدينة:
(زنوبيا : انتهى زمن وجودكم معنا. انتهت اللعبة..
الفينيق: كنتم تعتقدون أني أعيش تحت رحمة نظرتكم، وقانونكم، وأنه ليس لي مكان أذهب إليه.
زنوبيا: كلكم كرهتموني لأني أريد أن أوحد الناس حول قضية واحدة.
الفينيق : نحن واهمون..
زنوبيا: واهمون حين يعتقدون أن استسلامي سيتركهم يفسدون العالم، تفكيري يطيل عمري، ويخلصني من صخب الحياة.
الفينيق : (يدور حول الدمى) أنا أموت لأحيا، من زوالي أنبعث وأتجدد، ومن رمادي أبعث. كنتم تعتقدون بعجرفتكم أن السبات يميت القلب والأمل والأحلام، وأن الإهانات التي يلقاها الضعفاء قد توقف الحياة فيهم.(يخاطب الدمى) أنت أيتها الدمية اللعينة اخترت عالم المال).
يعلن الفينيق وزنوبيا تشبثهما بخيار الحب الكبير، حب المدينة الخالد، بدل الخيارات المقترحة من صناع الفساد والموت، وبدل المراهنة على المدينة في مقابل صك العفو والغفران، أو اختيار النفي خارج المدينة تجنبا لتنفيذ حكم الموت فيهما، مختارين بذلك العيش في لجة قطران هذه المدينة بدل عسل البعد عنها، ومفضلين الموت بشجاعة المناضلين في مقابل خيار الموت الرحيم، فالموت اشتياق، واحتراق هو رهان القوة والتحدي من أجل المبدأ، ومن أجل عشق المدينة
(زنوبيا : أنا أرفضكم.. وأرفض مجلسكم .
الدمية : يمكنك أن تساعد نفسك.
الفينيق: لقد تخليت عن نفسي حين كنت كل يوم أخفي مشاعري، وأحفظ عن ظهر قلب وصيتي الأخيرة .
الدمى : وما وصيتك الأخيرة؟ هل تفضل الموت أم الحب؟
الفينيق: الموت.. الموت أقل من الحب، أما الحب.. حب تدمر فخالد.
الدمية : (لزنوبيا) وأنت ما وصيتك الأخيرة؟
زنوبيا :وصيتي هي وصية هذا الطائر) (10).
عمل الدكتور بن زيدان في تأسيس نصه الدرامي « زنوبيا في موكب الفينيق « على حركية التجريب، مواكبا بذلك التحولات والصيرورة المعرفية التي عرفها عالمنا المعاصر، وعاشتها الذات الكاتبة، جعلته يقدّم شهادة عن هذا العالم، شهادة لا تحاكيه بقدر ما تبرز قضاياه وتناقضاته وفوضاه.
إن هذا النص الإبداعي النقدي التجريبي الذي أضافه الأستاذ بن زيدان على التجربة المسرحية العربية ليس مجرد قفزة نوعية فقط أو خطوة غير محسوبة، بل إنها نتيجة عمله الحثيث في الحقل المسرحي العربي بتعدد قضاياه: النص، العرض، المناهج، المصطلح... كما أنه نتيجة تقييم نقدي لما أنجزه الآخرون، وهو تأسيس متين يعتمد النظرة الفاحصة، والدارسة، والقراءة العالمة لجذور التقاليد الثقافية للإبداع المسرحي، وهو فعل يتوخى التمكن ثم التجاوز من أجل وضع لبنة أو لبنات أخرى في صرح الفن المسرحي العربي، إذ يعلن في هذا الصدد «(إن قراءة المسرح، مكنتني من إنتاج خطاب النقد الذي تبعت حقيقته قبل أن أتيه وراء بريقه، كنت في هذا النتاج أتفحص مجالات اشتغالي، وكنت أسبر غور المثقف في المثقف، وأقرأ التاريخي، وأهاب جرأة وغموض وهذيان النفسي، وكنت أحيك قراءتي بمكونات الدرامي والمسرحي واللغوي في النصوص المسرحية، فأقنعت مسيرتي في القراءة أن المسرح كفعل مركب لا يمكن مقاربته بأدوات بسيطة تفقد مقومات المعرفة والعلم بمركبات هذا الفعل )(11).
إن فعلا إبداعيا تأسس على القراءة الرصينة، والتقاط تناقضات المجتمع وإشكالاته وقضاياه بعين ذكية وناقدة، لا يمكن إلا أن يولد نصا يزخر بالدلالات والإشارات القوية، والرؤى الفلسفية والفكرية، وهو الشيء الذي دفع الدكتور عمرو دوارة إلى القول بصعوبة تلقي هذه المسرحية من طرف المتفرج العادي، ف (هي بهذه الصورة قد يصعب تتبعها والتواصل مع دلالاتها المختلفة عند تجسيد النص على خشبات المسارح، فبرغم جمال الصياغة اللغوية إلا أنني أرى أنها تحقق التواصل والمتعة الكاملة فقط مع النخبة المثقفة ومن خلال القراءة المتأنية ) (12).
لا يفضل الدكتور عمرو دوارة كما يقول:(أن يبقى هذا النص حبيس دفات الكتاب، وحصرا على نخبة معينة من القراء، لكن الأمر في اعتقادي أن دلالات النص لا يمكن أن تخطئها عين قارئ مهتم، بقدر كبير من التركيز، أما عندما ينتقل النص إلى خشبة المسرح فلا يمكن أن تخطئ إشاراته، وبقع ضوئه المتفرج العادي، وذلك أن تجسيد هذا النص على الخشبة يوسع دائرة متلقيه بشكل كبير، ويعطي حظوظا لكل مهتم بهذا الفن النبيل أن يستفيد ويستمتع بهذا العمل الفني، فرغم كون المسرحية تمتح من رموز أسطورية ( الفينيق)، وتاريخية ( زنوبيا)، وتتكلم لغة شاعرية قوية قد تصعب على القارئ العادي، وتتطلب قارئا نخبويا، فإن الأمر سيختلف عند نقلها إلى الركح، فهي في أساسها تفعل الصراع الدرامي عبر طرح مشاكل اجتماعية حتى وإن لبست أسئلة فلسفية وفكرية في شكل تداعيات عبر عنها المؤلف بشكل خاص في حوارات الفينيق مع زنوبيا تضمها جنبات المدينة/ المدن العربية. فالنص عندما ينتقل إلى الخشبة سيكتسي بلغة أخرى هي لغة الديكور، والإضاءة، وجسد الممثل، وكلها عناصر ترسل للمتلقي إشارات قد يلتقي في فهمها جل المتفرجين في الوطن العربي ، كما أن تناول النص من طرف مخرج ذي متخيل خاص، تجعله لا يقف عند حدود التنفيذ، بل يسعى إلى انجاز عمل يستثمر فرضيات وبياضات النص، وسيخلق بلا شك فرجة تضمن مشاركة ومعايشة المتلقي، فموضوع النص ( موضوع الفساد في المدينة/ المدن العربية) ،هو موضوع الساعة في ظل ما تمور به هذه المدن من أحداث متلاحقة أشارت المسرحية إلى معظمها و جعلت المواطن العربي يشترك في الألم، ويتوحد في الرفض، ويجتمع على إرادة تجفيف مستنقعات الظلم والفساد، وبالتالي يتفق إلى حد بعيد في فهم على الأقل المضامين الاجتماعية والجمالية في المسرحية.
إن الكاتب لا يقف في برج عاجي يراقب ما تعيشه أمته من غبن وغي، كما أنه لا يسعى في هذا النص الإبداعي إلى المراهنة على إرهاق المتلقي الضعيف المقروئية بقدر ما يراهن على مشاركة هذا المتلقي العربي في تقاسيم هذا الشجن والعشق والرفض في زمن الصحوة والثورة، فالنص المسرحي ? إذا استثنينا حوارات زنوبيا والفينيق التي كانت حبلى بالأسئلة الفكرية والفلسفية جاء في الكثير من أجزائه يتكلم لغة واضحة ومتداولة عند المتلقي، خاصة فيما يخص توجيه النقد إلى تناقضات المجتمع وفساده ، ويؤكد ذلك قول الكاتب (,...كنت لا أفكر إلا في صور الواقع فيها وهي تجوب خيالي وتعبر كلامي وصمتي، وتأخذ معناها مني، لأني كنت مع مخاضها أسابق زمن الكتابة علني أبلغ قصدي بها..)(13).
ويبقى هذا النص الإبداعي منفتحا على تعدد القراءات والتأويلات، فغناه المعرفي والجمالي يعطيه عند كل قراءة دلالات جديدة تختلف من متلق إلى آخر، وذلك حسب تعدد واختلاف مرجعياته الفكرية، كما أن تحقيقه على الخشبة يوسع جغرافية تلقيه في الوطن العربي.
الهوامش
1- د. عبد الرحمان بن زيدان : مسرحية ( زنوبيا في موكب الفينيق)، ،الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى 2012. المقدمة، ص : 31/32.
2- د. عبد الرحمان بن زيدان: (مدن في أوراق عاشق) ، مطبعة سيندي، مكناس، الطبعة الأولى، 1999.
3- د. عبد الرحمان بن زيدان: (زنوبيا في موكب الفينيق ) ص : 26.
4- المرجع نفسه: ص : 50.
5- المرجع نفسه:ص : 51
6- المرجع نفسه: ص : 55
7- المرجع نفسه: ص : 71/72
8- المرجع نفسه: ص : 102
9- المرجع نفسه: ص : 121/122
10- المرجع نفسه:ص 140
11- د عبد الرحمان بن زيدان: ( التجريب في النقد والدراما ) منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، 2001.
12- د عبد الرحمان بن زيدان ( زنوبيا في موكب الفينيق ) ص : 17.
13- المرجع نفسه: ص : 30.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.