تقرير رسمي يرصد تطور أسعار الاستهلاك في مدن شمال المغرب خلال أكتوبر 2024    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    تقرير إخباري: العدالة الدولية تلاحق "أصدقاء الغرب" وتكسر حصانة الكيان الصهيوني    أشرف حكيمي يجدد عقده مع باريس سان جرمان حتى 2029    الرابور مراد يصدر أغنية جديدة إختار تصويرها في أهم شوارع العرائش    انطلاق عملية "رعاية 2024-2025" لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد    بتعليمات سامية من جلالة الملك ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    بعد الإكوادور، بنما تدق مسمارا آخر في نعش الأطروحة الانفصالية بأميركا اللاتينية    ولد الرشيد: رهان المساواة يستوجب اعتماد مقاربة متجددة ضامنة لالتقائية الأبعاد التنموية والحقوقية والسياسية    مواجهات نارية.. نتائج قرعة ربع نهائي دوري الأمم الأوروبية    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    المنتخب الليبي ينسحب من نهائيات "شان 2025"    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    مجلس المنافسة يغرم شركة الأدوية الأمريكية "فياتريس"    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    زَمَالَة مرتقبة مع رونالدو..النصر السعودي يستهدف نجماً مغربياً    التنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب تدعو الزملاء الصحافيين المهنيين والمنتسبين للتوجه إلى ملعب "العربي الزاولي" لأداء واجبهم المهني    تفكيك خلية إرهابية موالية لتنظيم "داعش" بالساحل في إطار العمليات الأمنية المشتركة بين الأجهزة المغربية والاسبانية (المكتب المركزي للأبحاث القضائية)    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو        تفكيك شبكة تزوير وثائق السيارات بتطوان    أسباب الفيتو الأمريكي ضد مشروع قرار وقف الحرب!    لأول مرة في تاريخه.. "البتكوين" يسجل رقماً قياسياً جديداً    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    أداء سلبي في تداولات بورصة البيضاء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    دفاع الناصري يثير تساؤلات بشأن مصداقية رواية "اسكوبار" عن حفل زفافه مع الفنانة لطيفة رأفت    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    زنيبر يبرز الجهود التي تبذلها الرئاسة المغربية لمجلس حقوق الإنسان لإصلاح النظام الأساسي للمجلس    وهبي: مهنة المحاماة تواجهها الكثير من التحديات    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقف والمدينة
في مسرحية الدكتور عبد الرحمن بن زيدان :»زنوبيا في موكب الفينيق»
نشر في العلم يوم 10 - 03 - 2013


الكتابة المسرحية بقناعات السؤال حول معنى التراث
يطوع الدكتور عبد الرحمن بن زيدان في مسرحية (زنوبيا في موكب الفينيق)، أدواته الإجرائية لاستقراء مكنون التاريخ والأسطورة لصياغة مؤلفه، معتمدا في ذلك على تمكنه من لغة إبداعية قوية، جاءت من تمرسه الكبير في الكتابة المسرحية نقدا وتنظيرا ، ثم نصوصا إبداعية. وقد اعتمد لغة ذات نكهة شعرية أضافت للنص جمالية على جمالية، كما حققت مبتغى المبدع في كتابة مسرحية تناسب قناعاته الفكرية والفنية، كما استند إلى نفس درامي عميق امتد من بداية العمل إلى نهايته، فكانت النتيجة نصا مسرحيا أبان فيه? كما عهدنا منه ? عن كعب عال في الكتابة والتأليف، وإضافة نوعية إلى ذخيرته العلمية بشكل خاص وإلى الإبداعية المسرحية العربية بشكل عام.
ينهل الكاتب في مسرحيته من خزان التراث بمنهجية تتغيى تفعيل التراث وفق طرح خاص، فينظر إلى هذا التراث على أنه مصدر إلهام، وإيحاء، فيتم بذلك إخراج الشخوص التراثية من الكتب الصفراء، ليكسبها قضايا الواقع المعاصر من خلال استثمار معانيها، وفي هذا يقول موضحا هذا التصور الخاص للتراث: ( وبهذا التحوير الدلالي، وبهذا التكثيف، والتركيز على الرمز والأسطورة وإبدالاتها، كنت أستثمر معاني وإيحاءات الماضي في القول الدرامي للشخصية المحورية، وأدعم وجودها بالمتناقضات كي تتأهل بقوتها الدلالية الجديدة ) (1).
إن التراث هنا يخرج من القومية الضيقة إلى رحابة التراث الإنساني من خلال رمزي الفينيق وزنوبيا، كما أن علاقة النص المسرحي بالتراث ليست علاقة محاكاة، أو إعادة إنتاج التراث، أو نسخه بقدر ما هي علاقة تنبني على الدينامية والتفاعل العميق مع معطياته، بغية استثمار طاقاته للتعبير عن التجربة الفنية المعاصرة للكاتب، وإيصال أبعادها للقارئ و المتفرج. ومن تم فاستدعاء شخصية (الفينيق) الأسطورية، وشخصية (زنوبيا) التاريخية يهدف إلى إبراز الرؤية المعاصرة للتراث، كما يهدف إلى أن تؤدي هاتان الشخصيتان دورا رئيسا وبارزا في إنتاج شاعرية الخطاب المسرحي في مسرحية (زنوبيا في موكب الفينيق )، واستثمار التراث مع عنصر التخييل عند المؤلف لإنتاج نص يعكس الواقع بعين نقدية تصور الحب ، وعشق الوطن برؤى حالمة.
تتخذ المسرحية زمنا لها هو كل الأزمنة، لأن زمن الفينيق هو زمن متجدد بالاحتراق، والانبعاث، والمكان هو كل الحواضر المحاصرة بالنهب، والاستغلال، والفساد، واستضعاف المواطن. أما بالنسبة للخطاب المسرحي فتتجاذبه ثنائية الخير والشر عبر شخوص المسرحية المتصارعة على مفاتيح المدينة. أما الثنائية التي استخرجناها من هذه المقاربة النقدية فهي ثنائية المثقف والمدينة، واختيار هذه الثنائية دون غيرها من الثنائيات التي تحضر في هذا النص له أسبابه الموضوعية تبرزها نوعية العلاقة القائمة بين الكاتب وموضوعه.
حول ثنائية المثقف والمدينة في المسرحية
إن علاقة المؤلف بالمدينة علاقة عشق، ووجع، وشجن، والبوح بأسرار هذه العلاقة بدأ أواخر الثمانينيات من القرن العشرين عبر منابر جرائد وطنية، قبل أن تجمع هذه الأسرار المعلنة في كتاب (مدن في أوراق عاشق ) سنة 1999، وحول هذا الموضع يقول الناقد عبد الرحمن بن زيدان : (لقد مكنتني زياراتي المتعددة للمدن العربية في أزمنة مختلفة أن أجد نفسي في دفء جميل أحيانا، وأحيانا أخرى أجدها في صهد أو في قر هما سبب استفتاء القلب عن أسباب الغليان في هذه المدن. هذه الزيارات مكنتني الالتقاء بوجه واحد لهذه المدن التي تخاطب فينا نبض المبدأ، ونبض العشق، وحقيقة التاريخ المهمش فينا، فكان هذا التخاطب تعبيرا عن وجه الانتماء إلينا، وكان حقيقة تفصح عن التناقض الذي نصارعه ويصارعنا، الصراع من أجل البقاء، من أجل الحفاظ على الهوية، في لغة الناس، وفي أحاسيسهم، وفي انفعالهم، ووعيهم بحياة مدنهم التي تقلبهم أو تطردهم )(2).
هذا العشق الممتد في الزمن لم يفتر، بل إن الناقد عبد الرحمن بن زيدان ظل وفيا للمدينة/ المدن العربية، وبعد حوالي ثلاثة عشرة سنة يختار أن يضع عباءة المبدع المسرحي التي لاقت استعدادا نفسيا وفكريا لدى الدكتور بن زيدان، وهو استعداد سبقه تردد ممنهج كما يعلن ذلك قائلا: ( ... لكن فعل التأجيل بعيدا عن الإغراء، وبعيدا عن غواية الكتابة، يكون خوفا من كتابة عالم يظل ناقصا، والتعبير عن تناقضاته يبقى هشا في ترابطه وارتباطه بعالم المتخيل، والواقع، وما بين الإغراء والتأجيل، وبين الدخول في حضرة طقوس الكتابة، تتجمع الأفكار والأحلام، والتعابير، والاستهامات، وحالات التذكر، والسهو، والنسيان، لتتأهل الكتابة نفسيا، وفكريا، ودراميا، كي تبدأ في قول قولها، وتسطر الأحرف في المعنى الأول للكلمة الأولى، بالرؤية الأولى التي تغادر عالم النسيان ) (3).
هكذا يحضر هاجس المدينة في هواجس هذا الناقد يريد أن يصور الصراع الدرامي في المدينة( المدن)، حيث تتنوع مظاهر البؤس الأخلاقي، والفكري، والاجتماعي، هذا البؤس الذي خطط له ساسة المدينة وأثرياؤها، وألقوا المدينة في براثن اليأس، والقنوط، والجنون، هذه الخطة الشيطانية كانت تسعى إلى إلجام ألسنة المواطنين، وتعطيل ملكة الفكر، والتفكير أولا، وتهميش كل من يطرح السؤال عن مصير المدينة، وهو ما ظهر معناه في الحوار بين الدمية والعراف:
(الدمية : ( بحزم ) لا تخف. لقد جعلنا لكل جدران المدينة آذانا.
العراف: وبدأنا في تعطيل العقول والكفاءات.
الدمية : وجعل الناس...
العراف: ( مكملا ) دون ألسنة.
الدمية : ودون عقول.) (4).
إن عملية تدجين المواطنين، والاستخفاف بعقولهم، وسلبهم إمكانات تطوير الذات والخروج بها من التبعية والإمعية، لا يمكن أن تنجح مع الكل، إذ مع كل قاعدة استثناء، وإن كان الشاذ لا يقاس عليه، فهو حاضر موجود يدمر كل استراتيجيات الشر، ويؤرق أحلام الاستبداد لدى السادة .
(العراف: زعيم التحريض المذهبي زادت شعبيته.
الدمية : وزادت كراهيته لنا.
العراف: وما العمل؟
الدمية : نلقي القبض على هذا الزعيم.
العراف : وماذا بعد؟ )(5).
الجواب يمتد عبر أزمنة الرفض، والاعتراض، والثورات، و تلفيق التهم الكبرى، بعد فشل سياسة المهادنة، ثم الرشوة، فالصراع ، أي الصراع بين الغالب والمغلوب، إنه صراع حول مفاتيح المدينة، وهي مفاتيح السلطة، والمال، والذهب الأسود، والثروة السمكية، والمضاربات العقارية... وأسلحة الصراع متاحة، سؤال الشرف والضمير ملغى، والتهم مبنية على كل أنواع الأباطيل.
(لدمية : لنلفق له مجموعة من التهم.
العراف : من يصنع هذه التهم؟
الدمية : المهندسون.
العراف : حتى لو بنيناها على بلاغات كاذبة ( بهمس ) كما تعودنا على ذلك؟
الدمية: حتى ولو كانت إنذارا كاذبا نبنيها سافا فوق ساف، وحجرا فوق حجر.)(6).
يأخذ الخطاب بعدا شعريا مختلفا في حديث الفينيق مع زنوبيا، وهو أمر طبيعي بالقياس إلى ثقافة المتحاورين، فزنوبيا ظلت رمزا تاريخيا يوحي بالجمال، والشموخ، والعزيمة التي لا تفتر، زنوبيا أسست وبنت حضارة تدمر بقوة الإرادة، وهي إرادة حديدية لم تلن أمام حضارة روما . فأضحت تدمر حتى بعد أسر زنوبيا نفسها تمثل قوة الحضارة، بينما تمثل روما حضارة القوة. ويشكل الفينيق كطرف أساس في الحوار رمزا للمثقف في المدينة، ورمزا للأمل المتجدد كل يوم بإرادة تنبعث من صهد الرماد معلنة أن الحياة هي الخيار الواحد والوحيد عند من اختار المواجهة بدل الاستسلام السهل، أو من اختار كتابة الانتماء بالاحتراق بدل الموت المهادن، ومن اختار على شاكلة سيزيف أن يحمل الصخرة بدل أن يبجلها ويعبدها. إن اختيار الفينيق كان هو العزلة، والتأمل، والصمت، والحلم إعلانا يتحدى صناع التفاهة واللامعنى والخراب، وفي هذا يقول وهو يحاور نقيضه الدمية:
(الفينيق: الانزواء والعزلة عندي عنيدان مثل هذا الصمت العنيد، بهما أكلمها لأنها ما تزال حية..
الدمية : وماذا يعطيانك بهذا الوهم؟
الفينيق: يعطيان حالات واحدة تساعد على تجرع دلالة الصمت بلسما سحريا يضع حدا للقلق، ويخفف من حدته، ويحجم من سطوته وهيمنته، الأيام مع هذا الانزواء، وهذه العزلة، ومع هذه الدمى اللعينة تجعل الأزمنة تمر بسرعة، وتجعل العمر في عمر المدينة يطوي أعمار الناس، ويجعل عمر المدينة يطوي ما أستنسخه من صفحات تشبهني وتشبهها ولا تشبهني، فأخزن هذه الأيام لأنساها، وأسلو ما جمعته منها لأمحوه وأعيد كتابته كأحلام وأنا أكلم زنوبيا ليست ككوابيس أراها وأنا أسمع إلى متاهاتكم .
الدمية : وماذا ستتعلم من العزلة؟
الفينيق: العزلة تعلم التأمل، والحكمة، وتعلم التحليق في امتدادات السماء، والأكوان لمعرفة الجوهر، وتعلم الذات كيف تنسكب في الذات، والروح كيف تنسكب في الروح.
الدمية : وماذا أيضا؟
الفينيق : تعلم كيف أتمالك نفسي أمام كل متملق ومقرف.)(7).
نجد في تنامي تطور الفعل الدرامي في المسرحية تفعيل الحوارالذي يأخذ دلالة التثوير والتصعيد، خاصة بين الفينيق و الدمى والعراف، فالفينيق يعلن استمرار الرفض والتحدي، والمطالبة بإعادة مفاتيح المدينة، ويفصح عن تعدد المدن في المدينة، فالمدن هنا أكسبها مغتصبوها نفس السمات ونفس الأسمال، هي مدن تمتلئ مجالس نوابها (لورداتها) بالمناورين، ويعبق هوائها بالأفكار المخدرة المختلطة بدخان بقايا الحافلات المستوردة والمنتهية الصلاحية في بلدانها المصنعة، مدن تعج مقاهيها وحاناتها وأنديتها بشباب ضيع رشده وحنط حواسه بالشيشة والحشيش والهيرويين...، مدن سرقت مفاتيحها، فضاعت بوصلاتها واختلطت الاتجاهات فيها، وفقدت كل معاني وجودها، وهي في الأخير مدن خسرت آخر رهاناتها بعد أن عمها الجهل، وأضحت تستمتع بمباهج الأمية النفسية بعد تحويل مكتباتها إلى حانات ومقاه، وبعد القضاء على مسارحها وسينماتها وقاعاتها في منهجية خطيرة تبغي القضاء على آمال المثقفين والمبدعين، وتبطل دورهم الريادي في المدن، ومن تمّ الإجهاز على صوت التفكير الذي يقلق من استحوذ على مفاتيح المدن، وبعد القضاء على المثقف والفنان، و بعد كل هذا الخراب، من يمد طوق النجاة لتدمر، ومن ينجد مكناس والقاهرة وبغداد ودمشق وفاس وتونس وبيروت و...
الفينيق: من يمكنه أن يصحح المفاهيم؟ من يقلبها رأسا على عقب لتصير مفاهيم صحيحة وواقعا مستويا؟ من يرد لمدينة تدمر وبغداد والقاهرة عزتها وصولتها بعد أن نهب تراثها الإنساني ؟ من يساعد الناس على معانقة حالة العافية والرشد فيها عوض الهرب إلى الضياع ؟ لماذا ينظمون مؤتمرات لكل شيء وتكون النتائج لاشيء ؟ لماذا يكثرون من والأسلحة والمأجورة ؟ لماذا يتكاثر في مدينتي من يدعم العلم بالغيب ؟ لماذا يقدسون الرداءة ويقيمون لها الحفلات الباذخة ؟ لماذا يزعجهم قول الكلمة الطيبة ؟ لماذا يغدقون الأموال على الرداءة وعلى الفن المستورد، وفنان مدينتي لا يجد ما يسد به الرمق ويروي العطش ؟ (8).
هنا يختار الكاتب عبد الرحمن بن زيدان الموقف الذي يجعله ينحاز إلى الكلام، ويتبنى خطاباته، لأن الكلام عنده موقف من العالم الذي يرفضه، وبين اختيار الصمت ، والانحياز للكلام جاء رد فعله الموضوعي.
بين اختيار الصمت والانحياز إلى الكلام
يبرز موقف الكاتب في اختيار قلم المثقف، الذي يدرك أن الكتابة شرط لكل الأزمنة، أزمنة الانتصار، وأزمنة الهزيمة، لكن لكل قلم حبره الخاص الذي يميزه، فهناك أقلام اختارت منطق الفيء والغنيمة، أقلام النفاق والمناسبات الرسمية والمدح التكسبي والتسول،والوقوف أمام بلاط أعتاب الوزارات ومجالس (اللوردات)...فاصطفت مع سارقي مفاتيح المدن وجلاديها، وهناك أقلام شعار مدادها يقول: « لا صلح ولا مهادنة «، أقلام مدادها يستمد سواده من وجع المدينة، ومن إحباطها، فيحول هذا اليأس والخراب النفسي إلى أنشودة أمل وقوة تصم آذان السفلة، والقتلة، والى أفكار وأقوال تؤكد أنه ما ضاع حق وراءه طالب، وإن تعددت وسائل الطلب واستعادة المسلوب، والمؤلف طبعا يختار سلاح القلم الثائر، المتمرد، والمخالف .
(الدمية : (بزهو) أنا أكتب أيضا..
الفينيق: تكتب مسرحيات سياسية تروج بها الدجل الديماغوجي بين الناس، وتقدم مسرحيات رديئة في المحافل الدولية، وتغني أغاني ركيكة، وتلقي خطبا مملة. وتفرح فرحا ممسوخا، وتشجع على تحريك الأوراك المتراقصة، والبطون الهزازة...
الدمية : أنا لا أفهم ما كنت تكتب، ولا أفهم ما تقول.
الفينيق: لكي تكتب وتتزين، وتفرح، وتتعطر، عليك أن تقول ما يفهم. وتفهم ما يقال.
الدمية : (بتعنت شديد) أنا لا أفهم، على الأقل، على الأقل أنا أتحدث بصوت عال.
الفينيق : أولا ،لكي تكتب عليك أن تقول شيئا ما.
الدمية : وماذا كنت تقول أنت؟
الفينيق : أنا أفكر بالجماعة عندما أقول قولا فيه لا..
الدمية : وما الذي كنت تقوله؟
الفينيق : (ساخرا) المهم هو الذي لم أقله.) (9).
عندما يضطلع المثقف بمسؤوليته التاريخية، ويصغي إلى ضميره، ويحتكم إلى حسه المواطن، لابد حينئذ أن يهزم قوى الظلام، ووطاويط المؤامرات الظلامية التي تنسج مخططاتها، وتنفذها في غياب العين الناقدة للمثقف/ المواطن، التي تبقي تشير إلى بؤر ومناطق الخلل أولا بأول، دون أن تترك المجال لتحقيق تراكم رصيد الفساد، فيصعب التغلب عليه ومقاومته فيما بعد... وإذا كان لا بد من الغياب فانه ? حسب المؤلف ? غياب وظيفي ، تمليه ضرورة التقاط الأنفاس، والتيقظ من الدهشة والصدمة مما وقع ويقع في المدينة، ومن تم لم شتات الذات المنكسرة، والتفكير فيما هو آت، والاستعداد له عبرعقلنة الخطاب وشحذ العزيمة ، وهو ما أبانت عنه زنوبيا والفينيق حي أعلنا عن نهاية المتلاعبين بالمدينة:
(زنوبيا : انتهى زمن وجودكم معنا. انتهت اللعبة..
الفينيق: كنتم تعتقدون أني أعيش تحت رحمة نظرتكم، وقانونكم، وأنه ليس لي مكان أذهب إليه.
زنوبيا: كلكم كرهتموني لأني أريد أن أوحد الناس حول قضية واحدة.
الفينيق : نحن واهمون..
زنوبيا: واهمون حين يعتقدون أن استسلامي سيتركهم يفسدون العالم، تفكيري يطيل عمري، ويخلصني من صخب الحياة.
الفينيق : (يدور حول الدمى) أنا أموت لأحيا، من زوالي أنبعث وأتجدد، ومن رمادي أبعث. كنتم تعتقدون بعجرفتكم أن السبات يميت القلب والأمل والأحلام، وأن الإهانات التي يلقاها الضعفاء قد توقف الحياة فيهم.(يخاطب الدمى) أنت أيتها الدمية اللعينة اخترت عالم المال).
يعلن الفينيق وزنوبيا تشبثهما بخيار الحب الكبير، حب المدينة الخالد، بدل الخيارات المقترحة من صناع الفساد والموت، وبدل المراهنة على المدينة في مقابل صك العفو والغفران، أو اختيار النفي خارج المدينة تجنبا لتنفيذ حكم الموت فيهما، مختارين بذلك العيش في لجة قطران هذه المدينة بدل عسل البعد عنها، ومفضلين الموت بشجاعة المناضلين في مقابل خيار الموت الرحيم، فالموت اشتياق، واحتراق هو رهان القوة والتحدي من أجل المبدأ، ومن أجل عشق المدينة
(زنوبيا : أنا أرفضكم.. وأرفض مجلسكم .
الدمية : يمكنك أن تساعد نفسك.
الفينيق: لقد تخليت عن نفسي حين كنت كل يوم أخفي مشاعري، وأحفظ عن ظهر قلب وصيتي الأخيرة .
الدمى : وما وصيتك الأخيرة؟ هل تفضل الموت أم الحب؟
الفينيق: الموت.. الموت أقل من الحب، أما الحب.. حب تدمر فخالد.
الدمية : (لزنوبيا) وأنت ما وصيتك الأخيرة؟
زنوبيا :وصيتي هي وصية هذا الطائر) (10).
عمل الدكتور بن زيدان في تأسيس نصه الدرامي « زنوبيا في موكب الفينيق « على حركية التجريب، مواكبا بذلك التحولات والصيرورة المعرفية التي عرفها عالمنا المعاصر، وعاشتها الذات الكاتبة، جعلته يقدّم شهادة عن هذا العالم، شهادة لا تحاكيه بقدر ما تبرز قضاياه وتناقضاته وفوضاه.
إن هذا النص الإبداعي النقدي التجريبي الذي أضافه الأستاذ بن زيدان على التجربة المسرحية العربية ليس مجرد قفزة نوعية فقط أو خطوة غير محسوبة، بل إنها نتيجة عمله الحثيث في الحقل المسرحي العربي بتعدد قضاياه: النص، العرض، المناهج، المصطلح... كما أنه نتيجة تقييم نقدي لما أنجزه الآخرون، وهو تأسيس متين يعتمد النظرة الفاحصة، والدارسة، والقراءة العالمة لجذور التقاليد الثقافية للإبداع المسرحي، وهو فعل يتوخى التمكن ثم التجاوز من أجل وضع لبنة أو لبنات أخرى في صرح الفن المسرحي العربي، إذ يعلن في هذا الصدد «(إن قراءة المسرح، مكنتني من إنتاج خطاب النقد الذي تبعت حقيقته قبل أن أتيه وراء بريقه، كنت في هذا النتاج أتفحص مجالات اشتغالي، وكنت أسبر غور المثقف في المثقف، وأقرأ التاريخي، وأهاب جرأة وغموض وهذيان النفسي، وكنت أحيك قراءتي بمكونات الدرامي والمسرحي واللغوي في النصوص المسرحية، فأقنعت مسيرتي في القراءة أن المسرح كفعل مركب لا يمكن مقاربته بأدوات بسيطة تفقد مقومات المعرفة والعلم بمركبات هذا الفعل )(11).
إن فعلا إبداعيا تأسس على القراءة الرصينة، والتقاط تناقضات المجتمع وإشكالاته وقضاياه بعين ذكية وناقدة، لا يمكن إلا أن يولد نصا يزخر بالدلالات والإشارات القوية، والرؤى الفلسفية والفكرية، وهو الشيء الذي دفع الدكتور عمرو دوارة إلى القول بصعوبة تلقي هذه المسرحية من طرف المتفرج العادي، ف (هي بهذه الصورة قد يصعب تتبعها والتواصل مع دلالاتها المختلفة عند تجسيد النص على خشبات المسارح، فبرغم جمال الصياغة اللغوية إلا أنني أرى أنها تحقق التواصل والمتعة الكاملة فقط مع النخبة المثقفة ومن خلال القراءة المتأنية ) (12).
لا يفضل الدكتور عمرو دوارة كما يقول:(أن يبقى هذا النص حبيس دفات الكتاب، وحصرا على نخبة معينة من القراء، لكن الأمر في اعتقادي أن دلالات النص لا يمكن أن تخطئها عين قارئ مهتم، بقدر كبير من التركيز، أما عندما ينتقل النص إلى خشبة المسرح فلا يمكن أن تخطئ إشاراته، وبقع ضوئه المتفرج العادي، وذلك أن تجسيد هذا النص على الخشبة يوسع دائرة متلقيه بشكل كبير، ويعطي حظوظا لكل مهتم بهذا الفن النبيل أن يستفيد ويستمتع بهذا العمل الفني، فرغم كون المسرحية تمتح من رموز أسطورية ( الفينيق)، وتاريخية ( زنوبيا)، وتتكلم لغة شاعرية قوية قد تصعب على القارئ العادي، وتتطلب قارئا نخبويا، فإن الأمر سيختلف عند نقلها إلى الركح، فهي في أساسها تفعل الصراع الدرامي عبر طرح مشاكل اجتماعية حتى وإن لبست أسئلة فلسفية وفكرية في شكل تداعيات عبر عنها المؤلف بشكل خاص في حوارات الفينيق مع زنوبيا تضمها جنبات المدينة/ المدن العربية. فالنص عندما ينتقل إلى الخشبة سيكتسي بلغة أخرى هي لغة الديكور، والإضاءة، وجسد الممثل، وكلها عناصر ترسل للمتلقي إشارات قد يلتقي في فهمها جل المتفرجين في الوطن العربي ، كما أن تناول النص من طرف مخرج ذي متخيل خاص، تجعله لا يقف عند حدود التنفيذ، بل يسعى إلى انجاز عمل يستثمر فرضيات وبياضات النص، وسيخلق بلا شك فرجة تضمن مشاركة ومعايشة المتلقي، فموضوع النص ( موضوع الفساد في المدينة/ المدن العربية) ،هو موضوع الساعة في ظل ما تمور به هذه المدن من أحداث متلاحقة أشارت المسرحية إلى معظمها و جعلت المواطن العربي يشترك في الألم، ويتوحد في الرفض، ويجتمع على إرادة تجفيف مستنقعات الظلم والفساد، وبالتالي يتفق إلى حد بعيد في فهم على الأقل المضامين الاجتماعية والجمالية في المسرحية.
إن الكاتب لا يقف في برج عاجي يراقب ما تعيشه أمته من غبن وغي، كما أنه لا يسعى في هذا النص الإبداعي إلى المراهنة على إرهاق المتلقي الضعيف المقروئية بقدر ما يراهن على مشاركة هذا المتلقي العربي في تقاسيم هذا الشجن والعشق والرفض في زمن الصحوة والثورة، فالنص المسرحي ? إذا استثنينا حوارات زنوبيا والفينيق التي كانت حبلى بالأسئلة الفكرية والفلسفية جاء في الكثير من أجزائه يتكلم لغة واضحة ومتداولة عند المتلقي، خاصة فيما يخص توجيه النقد إلى تناقضات المجتمع وفساده ، ويؤكد ذلك قول الكاتب (,...كنت لا أفكر إلا في صور الواقع فيها وهي تجوب خيالي وتعبر كلامي وصمتي، وتأخذ معناها مني، لأني كنت مع مخاضها أسابق زمن الكتابة علني أبلغ قصدي بها..)(13).
ويبقى هذا النص الإبداعي منفتحا على تعدد القراءات والتأويلات، فغناه المعرفي والجمالي يعطيه عند كل قراءة دلالات جديدة تختلف من متلق إلى آخر، وذلك حسب تعدد واختلاف مرجعياته الفكرية، كما أن تحقيقه على الخشبة يوسع جغرافية تلقيه في الوطن العربي.
الهوامش
1- د. عبد الرحمان بن زيدان : مسرحية ( زنوبيا في موكب الفينيق)، ،الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى 2012. المقدمة، ص : 31/32.
2- د. عبد الرحمان بن زيدان: (مدن في أوراق عاشق) ، مطبعة سيندي، مكناس، الطبعة الأولى، 1999.
3- د. عبد الرحمان بن زيدان: (زنوبيا في موكب الفينيق ) ص : 26.
4- المرجع نفسه: ص : 50.
5- المرجع نفسه:ص : 51
6- المرجع نفسه: ص : 55
7- المرجع نفسه: ص : 71/72
8- المرجع نفسه: ص : 102
9- المرجع نفسه: ص : 121/122
10- المرجع نفسه:ص 140
11- د عبد الرحمان بن زيدان: ( التجريب في النقد والدراما ) منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، 2001.
12- د عبد الرحمان بن زيدان ( زنوبيا في موكب الفينيق ) ص : 17.
13- المرجع نفسه: ص : 30.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.