مع مقتل السياسي شكري بلعيد دخلت تةنس مأزقا جديدا في تحبير مرحلة ما بعد نظام بنعلي, خسارة شكري بلعيد على المستوى السياسي كانت فادحة, والأسلوب كان قاسيا على تجربة تتلمس طريقها بعد ثورة جاءت بلا موعد... في المغرب الكبير ليست لدينا ثقافة الإغتيال السياسي التي سادت طويلا في المشرق ولا زالت إلى اليوم في بلد كلبنان, وسيلة " للحوار " بين مختلف الفاعلين, هذا لا يعني أن بلدان المغرب الكبير لم تعرف العنف السياسي والذي كان يصدر غالبا عن الدولة وأجهزتها, مع بعض الإستثناءات على مستوى الجامعات والحياة النقابية, لكن بصفة عامة ظل الإغتيال خارج جدول أعمال مختلف الفاعلين. ليس صدفة أن الكثيرين عقدوا مقارنة بين إغتيال فرحات حشاد الزعيم النقابي التونسي في خمسينيات القرن الماضي في عز المعركة من أجل الإستقلال, وبين إغتيال شكري بلعيد, فكما كان إغتيال حشاد شرارة الإنطلاقة مواجهات مع القوات الفرنسية في المغرب والجزائر خلفت العديد من الشهداء, كان إغتيال بلعيد مبررا جديا للتخوف من مصير تونس إذا ما لم تستطع تطويق تداعيات الإغتيال, وإذا ما تم ترسيم إختيار العنف السياسي لحسم الإختلافات الكبيرة والعميقة الموجودة بين مهتلف أطياف مرحلة ما بعد بنعلي. للوضع الحالي في تونس إرتباطات قوية بأزمة الرؤية في تدبير مرحلة ما بعد بنعلي, فإذا كانت فكرة إنتخاب مجلس تأسيسي لوضع دستور جديد للبلاد فكرة مقبولة وإن كانت الفكرة ليست جديدة على تونس, بحكم أن الجمعية التأسيسية التي قادها الراحل بورقيبة كانت لها نتائج بارزة تمثل في تغيير النظام السياسي بإنهاء عهد حكم البايات/الملكية, ودخول مرحلة الحكم الجمهوري, والغريب في الأمر أنه بورقيبة دخلت تونس عمليا في نظام بايات جديد هم بايات الحزب الدستوري الذي أسسه بورقيبة نفسه, فتونس بعد نصف قرن من الإستقلال لم تعرف سوى رئيسين. شكل الدستور منذ البداية حجر الزاوية في بناء الحولة الحديثة في تونس, لكن عوض أن يكون آلية للحكم الديمقراطي, تحول إلى شعار, وليس من الصدفة أن الحزب الحاكم كان دائما يحمل في تركيبته الإسمية عبارة الدستور, وإلى اليوم لازال الدستور يوظف كشعار سياسي أكثر منه تعبير عن إرادة حقيقية في الدخول بالبلاد إلى نادي البلدان الديمقراطية. حركة النهضة ومعها جزء واسع من الطيف السياسي التونسي, تعاملوا مع الجمعية التأسيسية على أساس أنها برلمان منتخب لإفراز حكومة ومؤسسات تقود البلاد, في حين أن طبيعة الجمعية التأسيسية على النقيض من ذلك, لذلك فإن الأزمة اليوم في تونس هي أزمة المعنى الذي يعطيه كل طرف لمؤسسات البلاد, فزعيم النهضة السيد الغنوشي يقول بأن جماعته لن تترك الحكم لأنها منتخب من الشعب, والحقيقة أن الشعب إنتخب جمعية تأسيسية لوضع الدستور, وعلى ضوء هذا الدستور الذي يضع مؤسسات البلاد وإختصاصات السلط والعلاقة بينها, سوف يحدد لمن سيمنح الحكم. الرغبة في الحكم تجرف تونس اليوم إلى نقطة سحيقة قد يصعب العودة منها, وقد شكلت الرغبة التي عبر عنها رئيس الحكومة المستقيل الأمين العام لحزب النهضة السيد الجبالي والمرتكزة على تشكيل حكومة وطنية معتمدة على الكفاءات, إختبارا قاسيا لرغبة الأطراف بالتمسك بالسلطة, وإتضح للجميع أنه على الأقل بالنسبة للنهضة بقيادة الغنوشي ضدا في الأمين العام الجبالي, والحزب الجمهوري لرئيس الجمهورية منصف المرزوقي, يرغبان في الحفاظ على مواقعهما في السلطة ولو كانت هذه السلطة قائمة على قشة, فلا أحد يريد أن يترك السلطة في لحظة تغرق فيها البلاد تدريجيا نحو هوة سحيقة قد لا تعود منها سوى بالكثير من التشوهات والخسائر التي لا تستطيع دولة صغيرة كتونس تحملها. إن حل الأزمة التونسية لا يمر سوى عبر طريق واحد, هو إستعادة المجلس التأسيسي دوره الأساسي والمتمثل في وضع دستور جديد للبلاد و تشكيل حكومة وحدة وطنية تهييئ البلاد لإنتخابات برلمانية تحدد من يمسك بالسلطة, وحتى بعد الإنتخابات لابد للطرف الفائز أن يتعامل مع باقي الأطراف في البلاد على أساس أن تونس في مرحلة إنتقالية, بمعنى أن يتم التعامل في إطار الديمقراطية التوافقية وليس بمنطق الغلبة الإنتخابية والعددية, لأن هذا المنطق في مراحل الإنتقال يكون غير ذي جدوى.