مشيت على شاطئ البحر. الموج ساكن والرمل ناشف. كنت حافي الذاكرة والوجدان، أقتفي خطى يسوع الناصرة علها تقودني إلى جبل المناجاة في مدينة لم تستقبل رسالة سماوية قط هي مدينة الرباط. مررت ببضع حواريين. عرفتهم من شعورهم الشعثاء وملابسهم المهملة وعصيهم الطويلة. كانوا يصيدون سمكا في مركب صغير ولم يكن سمكهم سوى سردين ملوث عافته القروش ولم يلفظه البحر بعد لشاطئ الأوداية. ألقيت عليهم تحية عابرة لم يردوها. لم أكترث فلا أحد يحيي أحدا في هذه المدينة. مرت فوقي سحابة أخذتني إلى حيث تتثاءب شمس الظهيرة الحارقة. اكتشفت متأخرا أنها كانت سحب دخان سام تنفثه معامل عشوائية لا تنتج شيئا مفيدا. وكانت تلك قيامتي. بعدها بأربعين يوما قضيتها مشردا بين المزابل، ناعسا في المقابر والحفر، محتميا بالسيارات الرابضة في ظلمة الأزقة من كلاب الليل وقططه، عثرت على ضالتي. صوت سماوي كأنه الرعد حينا، كأنه الهمس حينا، خاطب سكان العمارة المجتمعين عند الباب... الفتى الذي رأيتموه يذرع شوارع المدينة نهارا ويختفي ليلا، الفتى الذي مشى على شاطئ البحر، الفتى الذي(...) سينزل الآن من سحابته مطرا، ليحرس عمارتكم من الإنس والجن والشياطين. تثاءبوا غير مصدقين وأخذت بعضهم غفوة. تفشت الجريمة في مدينتهم وأضحت الشوارع والساحات ميادين حرب. عجزت الأبواب الموصدة والبيوت المشيدة والجدران العالية عن حماية قاطنيها. بحث سكان العمارة عن حارس قوي أمين مهاب الجانب يحميهم ويصد عنهم أذى اللصوص والقتلة. انتظروا «مهديهم» وطال انتظارهم فيئسوا منه ومن ظهوره في زمن لم يعد فيه أحد قادرا على حماية نفسه فكيف يحرس عمارة كاملة؟ قال الصوت السماوي: سيأتي فتاكم على متن حافلة عمرها ثلاثون حولا، ولم يعين لهم وقتا معلوما لمجيئي. لكنني جئت بأسرع مما توقعوا. جئت من سحابة عابرة حجبت شمس الظهيرة. حملتني إلى مدينتهم الصاخبة حافلة قديمة تعبر قريتنا البعيدة في الجنوب عصر كل خميس. عندما جاءت أول مرة تطير منها آباؤنا وسموها الأفعى ظانين أنها ستقلب قريتهم رأسا على عقب. تحمل إليهم الغرباء والدخلاء والعادات السيئة، ويجد الفارون من العدالة والمجرمون ملاذا في حقولهم ودروبهم الضيقة وينشرون الرذيلة. لم يحدث شيء من ذلك، لكن القرية بدأت تفقد أبناءها أسبوعا بعد آخر. تسللوا إلى مقاعدها فأخذتهم إلى محطتها الأخيرة حيث تلتقي السماء بماء المحيط، وحيث لم تنزل رسالة سماوية أبدا. وجدوني في غمرة يأسهم وكان يوما مشهودا. وجدوا حارسا نادرا باسق القامة قوي البدن، لا يأبه بما يخشاه الناس ويهابونه. لا يأبه بالقتلة واللصوص والمجرمين. قال سأحرس عمارتكم عن طيب خاطر وطوية. قبل مجيئي تساءلوا عني، كيف تكون هيئتي وشكلي؟ ما اسمي وما كنيتي؟ من أية مدينة أو قرية أنحدر؟ هل أفد عليهم من الأرض أم السماء؟ من الشمال أم الجنوب؟ هل تلدني امرأة أم أنبثق من نور أو خيط دخان؟ هل أنا حقيقة أم خرافة أم حكاية؟ قال فريق: سيأتي حارس العمارة من الشمال، من البرد والثلج والمطر ملفوفا في معطف فرو أو محمولا على عربة تجرها الكلاب. وقال فريق: سيأتي من الجنوب، من الرمل والشمس ممتطيا صهوة الصمت. وقال آخرون: ستمطره سحابة فيهبط على سطح العمارة ثم يقفز إلى الأرض ويقف على قدميه سالما أمامنا. وقال آخرون، وكانوا قلة: لن يأتي مثل هذا الحارس أبدا، انتهى زمن الحراس وعلى الناس أن يحرسوا أنفسهم بأنفسهم. ولكنني جئت. وسألت نفسي وهي موزعة بين الشك واليقين: هل أتيت حقا؟ وكدت أقع في الشرك بنفسي، فأجحدني وأنكر وجودي وأنزل إلى شوارع المدينة أنهب وأسلب وأصلب وأسفك الدماء وأوزع الحقد والكراهية والجهل والشر... لولا تداركتني رحمة الذاكرة ونجم قرمزي لمع في ليل الشك البهيم. اسمي: عبد الستار. هكذا سماني أبي وهكذا دون موظف الجماعة القروية في سجلاته القديمة . واسمي: عبد الناصر. هكذا سمتني أمي ضد رغبة أبي. وسماني الناس: العساس، وبهذا الاسم عرفت في المدينة وبه ناداني الناس باستثناء أمي وأبي. تهت بين أسمائي ولم أعرف إلى أيها أنتمي، تعددت فتعددت صفاتي وشخصياتي. فأنا الصبور المطيع عند أبي، الثائر المتمرد عند أمي، الكادح الخدوم عند سائر الناس. ولم أكن شيئا من هذا أو ذاك عند نفسي لأنني عشت من أجل الناس ونسيت نفسي. ولدت في عام قحط ومجاعة نجوت من عواقبهما بمعجزة فلم يورثاني وهنا أو هزالا. ولدت في ظهيرة صيف قائظة ذاب لها الحجر وتبخر التراب واحترق الهواء، من أب فلاح وأم تمتهن كل الحرف ولم يعترف لها أحد بمهنة محددة.ورثت عن أبي صبره وتحمله وحبه للعمل، وعن أمي هدوءها وصمتها وخجلها، ولا أظنني سأورث شيئا لأحد من بعدي. ولدت في حوش الدار المترب. لملمتني أمي على عجل وأخفت معالم قدومي المفاجئ: حبلي السري وما لفظه رحمها وصرختي الخافتة. رأفة بي وضعتني تحت جرة الماء وعادت تنهي أشغالها المنزلية كأن شيئا لم يحدث. هل حدث شيء حقا؟ لم يحدث شيء. خامس مولود لعائلة لا تعاني من نقص الذرية وقلة النسل أبدا. أضفت صراخي ولغطي إلى صراخ من سبقني من إخوتي ولغطهم، وأضفت لأعباء أمي عبئا جديدا. وتعاقب الليل والنهار وأنا كالكرة أرمى من يد إلى يد، يتسلى بي الصغار ويشفق علي الكبار، تحملني أمي على ظهرها حينا وتضعني على رمل مبلل تحت جرة الماء أحيانا لأنجو من حر لا ينجو منه الكائن الحي بسهولة. وكبرت بسرعة، إذ لا وقت لنمو يأتي على مهل، ولا وقت لأبوي يهدرانه في رعايتي وتربيتي. لقمة العيش صعبة تستأثر بكل وقتهما وجهدهما. تناسل الناس في القرية مثل الناموس ولم تنقطع سنوات القحط. وكلما شحت السماء وجفت الأرض، أمعن الناس في النسل تعويضا عن بطالتهم وفراغ أوقاتهم. ضاقت البيوت بقاطنيها وعجت الدروب المتربة بالأطفال والشباب العاطل. كثرت النزاعات واستفحلت الخصومات والعداوات بسبب الماء والمراعي والحطب وشغب الصغار وبدون سبب في كثير من الأوقات. غصت القرية بالشر... كنت أشاهد الغمام الأسود يغطي سماءها أياما وأسابيع دون أن يجود بقطرة مطر واحدة. ولم تعد الشمس ترحم أحدا قط. كانت تشوي الرؤوس حتى في أيام الشتاء. رأيت في ذلك نذير شؤم فآويت إلى جبل وانتظرت سحابة تحملني إلى السماء، فحملتني الحافلة إلى مغرب الشمس لآتي منها، وهي نائمة، بقبس. ومشيت على شاطئ البحر والرمل ناشف، ثم هبطت على سطح العمارة، وصبحا هبطت درجاتها القذرة وقضيت ما تبقى من عمري أصعد السلالم وأهبط منها. أسكن عش لقلاق يجاور قرص الشمس أتعثر بأعقاب السجائر وغبار الأحذية وصياح الأطفال وكراتهم. أغسل السيارات وأصعد بالأحمال الثقيلة إلى الطوابق العليا. وجد الناس «مهديهم» المنتظر ولم أجد نفسي. ما زلت أسألها، وهي موزعة بين الشك واليقين: هل أتيت حقا؟