على سبيل البدء هكذا ترك البحر وراءه وأخذ يصعد العقبة، ولابد له أن يعبر من جوار القهوة، هناك سوف يجد الطبيب جالسا يدخن ويحتسي قهوة الصباح. الطبيب اعتاد أن يفعل ذلك كل يوم قبل أن يوافي إلى فحص الأموات. وهو صاحب العربة من يحمل إليه الأخبار، يلتقطها في الليل حين يخرج إلى عمله مع نزول الظلام، وبعد أن يكون الناس قد دخلوا بيوتهم وآووا إلى أحضان نسائهم. ويمضي يعبر دروب المدينة النائمة بحثا عن الرزق الحلال، ينقب في الأوعية وأكوام القمامة، طيلة حياته اشتغل جامعا ولاقطا. كان لا يعاف شيئا، فالماء الطهور- كما يعلم كثير من الموتى ? يطهر جميع الأدران. ثم يكون عليه أن يتوجه إلى الربوة المشرفة على المحروسة، عند سفح الغابة حيث تفرغ الشاحنة حمولتها من القمامة. وينكب على العمل رفقة كلبه باحثا عن قطع الحديد والأثواب البالية والكرطون. وكل ذلك يعود به إلى المتجر في «الحفرة»، ويتحصل من البضاعة على بعض القطع النقدية. ومع مطلع الصباح يترك العربة في الفندق، حيث يحرر البغل من الأرسان ويدعه يستريح من عناء الليل. ملابسات علاقة مع أذان الفجر يحدث له أن يتوقف إلى جوار الطاحونة، على مقربة منها مجموعة من الدكاكين أحدها كان قد فتح أبوابه، وأمامه لا تزال المنصة الخشبية وقد تعاقب عليها بضعة رجال للحديث عن برامجهم الإنتخابية ، وعلى الجانب الآخر حيث الطريق المترب المؤدي إلى رحبة الغواسلية، كانت ترتكن كثير من العربات، بعضها مما يجره الحمالون والأخرى خاصة بالدواب، واحدة من العربات علق صاحبها عَلاّفة في عنق الحمار وتركه يجتر طعامه في هدوء. وأحيانا كان الحمار يحرك رأسه الطويل ليطرد الهوام أو ليجعل ما تبقى من الشعير أو النخالة في متناوله. حين كان قادما من طريق «سيدي وعدود»، اضطر أن يقف طويلا عند الجدار العالي ، منه تتشكل الأسوار البرتغالية، وقد تآكلت من الأطراف والحواشي. وقف يستند إلى جذع شجرة عقيم، يريد أن يريح البغل والعربة، كلاهما أخذت منه الأيام .وجلس على الحائط القصير بجوار سيارة عتيقة مهملة هناك. كان فُقِد أحد أبوابها وتداعى زجاجها من الخلف والأمام، وباتت مرتعا للأطفال والصدإ والنفاية. وما أن أشعل السيجارة وأخذ يدخن حتى شعر بالألم في صدره، كان غادر مستشفى «بلعياشي» قبل أيام، وكان في فترة نقاهة. ولعل الطبيب بما لديه من نفوذ واسع هو من دفع به للعلاج. وحين المغادرة حذره من العودة إلى التدخين، قائلا له إنه من طقوس الأموات. لكن صاحب العربة لم يكترث لذلك. ولهذا فكر أن يدخن قبل ملاقاة الطبيب. كان اعتاد أن يحمل إليه بعض الأشياء الغريبة والنادرة. وفي إحدى المرات حمل إليه جثة كلب مشرف على الهلاك، وعالجه الطبيب بعملية في الرأس أنقذته من الموت المحقق. لم يكن الطبيب يرفض أي شيء: حيوانات معطوبة أو ميتة، أجهزة معطلة، أعواد وأحجار غريبة.. كان مهووسا بالأشياء العتيقة، يهواها ويحتفظ بها . وأحيانا يشتغل عليها في مخزنه أو مختبره. وفي السابق حمل إليه مجموعة من العقارب والثعابين، وأنواعا مختلفة من الطيور والخنافس والحشرات .لكنها اليوم في طريقها إلى الاختفاء. لقد كان الطبيب لا يتوانى، يسخو عليه ويساعده لأنه يستخدمه ويستفيد منه، ولهذا يجزي له الثمن دون مساومات تذكر. ماذا يحدث في الميدان ارتفعت ضجة بعض السيارات السهرانة، وعبرت شاحنة متوجهة إلى السوق الأسبوعي . ومن ضفة الوادي صعد ثلاثة سكارى، كانوا يغنون، يتضاحكون ويترنحون. كانت إلى جوارهم فتاة حاسرة الرأس وقد كشفت عن صدرها من فتحة الثوب. وحين اختفوا في اتجاه درب»السكويلا» تردد خلفهم صدى الغناء: - مالو.. مالو.. أش أش غير حالو.. كان كلبه توارى يتشمم بين جذوع أشجار الطلح، ثم ظهر بين الكلاب الضالة وهي تمضي بحثا عن الطعام، وعند مجموعة الدكاكين توقفت سيارة، لفظت اثنتين من بنات الليل وانطلقت، وعاد الميدان مقفرا كما كان . وبعد قليل سوف يأخذ الأطفال يعبرون فرادى أو جماعات إلى المدرسة. وقريبا إلى الشجرة العقيم تناثرت بقايا قطع الكرطون، كان يستعملها الرجال الذين يلعبون الورق .ومتى غادر الأطفال من فصولهم في الحادية عشرة، انجذبوا للتحلق حول اللاعبين، وهؤلاء يتصايحون ويتلاسنون. ويدرك الأطفال الوقت من خلال عبور حافلة « لاستيام» المتوجهة إلى البيضاء. إنها تستدير في وُسْعاية الميدان وتتوقف إلى جانب المكتب قبالة باب «سيدي المخفي»، الباب الرئيس للمدينة العتيقة. وبعدها بدقائق تنطلق الحافلة مخلفة وراءها سحابة من الغبار المعدني. الجثة في العربة كانت القهوة بالقرب من جامع الزيتونة، وكان من عادة الطبيب أن يخرج مبكرا للجلوس هناك في مكانه المعتاد، ينعزل على كرسي تحت مصباح كهربائي، يدخن ويتصفح الجريدة. وإذا لم تكن الأجواء ممطرة فإنه يلبس بطريقة متأنقة. كان في نظر صاحب العربة لا يختلف عن الديك الرومي، كثيرا ما كان يضحك من ملبسه في سره ! وقد علم الطبيب من أحدهم أن عجوزا ماتت في درب «القشلة». ومتى طلع النهار وانتشر الضياء، التحق بالعنوان لفحصها. قبل يومين استدعاه الطبيب الشرعي في المستشفى المركزي، وطلب منه العمل معه على فحص جثة القتيل تحت الجسر في جهة سيدي علي. ودعاه ليسجل ملاحظاته حول الجثة. وبالفعل قدم له تقريرا مطولا، ولكنه في ما بعد توضحت له بعض الأخطاء صدرت عنه في ذلك التقرير، قال مع نفسه : من ذا الذي لا يخطئ ! وقال أيضا: ليس في الأمر مشكل ! وكان صاحب العربة ترك العربة بالقرب من مركز البريد، وسار باتجاه الطبيب .هتف بالتحية كما يريدها الطبيب: صباح الخير يا دكتور. وإذا به يرفع بصره عن الجريدة ويرد عليه بعبارة: أهلا وسهلا، ثم يسأله عن صحته. فأدرك صاحب العربة مغزى السؤال، وكرر: لا باس، لا باس.. ثم أفصح للطبيب بأن لديه شيئا يهمه ! اعتقد هذا أنه سوف يخبره عن موت المرأة العجوز، لكنه تساءل بعينيه ورأسه، ماذا تقصد؟ فقال صاحب العربة: لقد عثرت لك على جثة ! هتف الطبيب : جثة ! ما نوعها؟ قديمة أم حديثة؟ إنها جثة رجل متوسط العمر، لعلها حديثة العهد بالموت. أشار عليه الطبيب أن يوافيه في الضيعة مع العاشرة . وأدار وجهه إلى الجريدة يكمل قراءة ما كان أثاره من صراع حاد بين « الأورو» و « الدولار». وكان صاحب العربة يعرف منه هذا السلوك، ويعلم ماذا عليه أن يفعل بعدها، وذلك قبل أن ينعزل الطبيب في مختبره ويقيم حاجزا بينه وبين تفاهات هذا العالم. الاشتياق إلى الراحة بعد فحصه لاثنين أو ثلاثة من الأموات ، عاد الطبيب إلى ضيعته قبل العاشرة، لم يكن يفلت منه شيء في المحروسة، وإذا حصل وأفْلَت فإن هناك من يبلغه إياه. وبما أنه في حاجة إلى قهوة بدون سكر كما تعود ، فقد تنازل وشربها بقليل من السكر مع صاحب العربة، لكنه لم يسمح له بالتدخين، كما أنه لم يدخن أمامه.. وأخذا يتحدثان عن شؤون المحروسة وهما في الشرفة الصغيرة أمام الباب. هناك اعتاد الطبيب أن يجلس مرخيا العنان لخيالاته تسرح على امتداد الأفق. وكانت الشمس لا تزال جاثمة بدون حراك مثل الوحش العنيد. أشار صاحب العربة أن طقسا رهيبا قادم من الشمال. وأخذ يستعد للذهاب قبل هبوب العاصفة المرتقبة. أخبره الطبيب أنه لا يساوم حول الجثث البشرية وأن الأثمان حول ذلك محددة سلفا، من المحفل العالمي ، وأنه سوف يجد نقوده عند التاجر السوسي صاحب الدكان. هناك كان يودعها له في مظروف عليه اسمه بالفرنسية. وهما على أهبة الافتراق أكد عليه الطبيب أن يتجنب التدخين ،وعاود كلب الطبيب النباح لإبعاد كلب صاحب العربة، نهره الطبيب، واستدرك على الرجل : ألم تلاحظ أن صحتك تتحسن ! كانت كلماته قاطعة وآمرة. هكذا كان يحلل لنفسه ما يحرم على الناس شأن الذئب والخروف. ومتى تسلّم الطبيب الجثة وضعها في القبو ومضى يرتب بعض الأشياء في مكتبته، بينما استقر المكان بالجثة فوق المشرحة. ومن المكان ذاته استدارت العينان، وأخذت تستعرض ما في الغرفة من الأشياء. كانت غرفة واسعة وباردة تحت الأرض، امتلأت عن آخرها بروائح النفتالين والكحول والأدوية، وتراكمت على رفوفها التحف واللقى والأغراض التي كان على جامع الهوايات، الذي هو الطبيب أن يحيط نفسه بها، مثلما كان يفعل العلماء والأطباء المزيفون في القرن التاسع عشر. ولاحظت الجثة أن أقدم تلك اللقى يعود إلى الألف الأولى قبل الميلاد مثل العظام الأحفورية وهياكل العظايات، وجزء من جمجمة قديمة وحيوان برمائي تجمد بمحلول الكافور. هذا بالإضافة إلى مجموعة من الجثث المركونة في الزاوية القصية خلف ستارة بيضاء من القماش السميك، والى جوارها تراكمت مجموعة من الخرائط والصور والرسوم التي تحمل تصاوير لنباتات وحيوانات ما قبل التاريخ. ما أن عبر الطبيب إلى جوار الجثة حتى سمع كلاما يصدر عنها. توقف. لم يندهش . توقف يريد أن يصغي إلى نوع الكلام . كان عبارة عن غمغمات غير مفهومة. وتقدم أكثر فألفى الجثة صامتة، تنظر في شرود إلى الأفق، مع ارتعاشة خفيفة على الشفة السفلى، هل كانت تبتسم أم تسخر ؟ تساءل مع نفسه. كانت الجثة لرجل متعب وشبه حالم، وفي شوق إلى الراحة ومزيد من الراحة. مع الجثة وجها لوجه النظرة الأولى إلى الجثة أثارت الريبة لدى الطبيب .قال: كيف استطاعت الجثة أن تحافظ على لونها المشرق ؟ لماذا هي غير جافة ولا ناشفة، ولم يطرأ عليها التحلل، ولا توجد بها آثار للتعفن؟ وبما أن الطبيب من المشتغلين بهموم الآخرة )وليس المقصود بذلك القهوة والجريدة والسيجارة! ( . فقد كان بخبرته يعلم أن من يموت نتيجة التسمم يظل جسمه بدون تحلل أو تعفن لمدة طويلة. وقبل تحنيط الأجسام تزال عنها الأحشاء لأنها أول ما يتحلل، وتضاف إليها مجموعة من المواد الكيماوية والتوابل، التي من بينها بعض السموم، للمحافظة على الأنسجة اللينة. هكذا أخذ الطبيب يطيل التأمل في الجثة، ويراقب التنفس ثم يفحص خفقان القلب في الصدر وفي النبض، ويقارن بين الجمجمة وجماجم أخرى يتوفر عليها، منها واحدة موغلة في التاريخ توجد على مسلة قصيرة بالقرب منه. ولاحظ أن الجثة تتوفر على جمجمة تشبه معظم الجماجم، إلا أنها مسطحة عند الجبين وذات حاجب منعدم البروز . وتساءل إلى أي شيء يمكن أن يعزى ذلك الانعدام والاختفاء! ومضى يزيح الغطاء عن الجسم مرة أخرى، وأخذ يمسح ببصره ما على البدن من الكدمات والعلامات. وجذب انتباهه نوع غريب من الضربات فوق الصدر الأيسر، وأسفل الأعضاء التناسلية، وعند كعوب الأقدام. وفي ما بعد سوف يتأكد بأنها ناتجة عن التعذيب بالصعق الكهربي. وهاله ما بلغته الإنسانية من التقدم في هذا المجال، وإن كان ذلك لم يثر لديه أي استغراب. واسترجع في ذهنه المراحل الأولى للإنسانية: من الديدان إلى الحشرات إلى الفقريات إلى الثدييات.. وبعدها راح يستعرض أعمال الشيوخ مثل كوفييه و برنار و لامارك و ابن سينا وابن باجة وفايسمان وليسنكو و ابن رشد و جاكار.. تلك كانت الملاحظات الأولى، وما يتوجب القيام به في بداية أي فحص. وقبل هبوط المساء قرر أن يُخضع الجثة للفحص المخبري بطريقة تختلف عمّا سار عليه سابقا. ثم تقدم بالنظارة والقفازين وبالمبضع في يده، وأخذ قطعة من جلد الجثة تحت الأضلاع اليسرى حيث كدمة سوداء. وقطعة أخرى من الخاصرة، وثالثة من أسفل أحد الجراح. وكان عليه أن يضع كل قطعة في إناء زجاجي منفصل به محلول الحجرة الزرقاء و برمكانات. كان يستخدم هذا الأسلوب في مثل هذه الحالات للتأكد من وجود «الدنا» ) الحامض النووي الحيوي( أو غيابه، وسوف يعرض المحلول لطريقة دقيقة في التحليل العضوي. ثم تحرك بالقرب من النافذة الصغيرة، وجلس على كرسي بدون ظهر يتأمل المشهد في الخارج .كان الأفق تنوّر في لحظة قصيرة بالضياء، لولا السحب الداكنة التي تسد عين الشمس. فكر في العاصفة المقبلة، لماذا تأخرت؟ بدا له الجو غامضا، لا هو بالخريفي ولا بالشتائي، حتى إنه أحيانا تسود الحرارة القائظة ، وأخرى يعمُّ فيها البرد القارس والأمطار المفزعة. قال مع نفسه: يا له من طقس «جوراسي» يعود إلى عصور ما قبل التاريخ! إنه من المعجبين «بالحديقة الجوراسية» ،وهو يفضل الرواية على الشريط، الذي امتلأ ? في نظره ? بالمؤثرات السطحية حتى هيمنت عليه الفجاجة .أما الرواية فإنه يقرأها باستمرار ويحافظ عليها ضمن مراجعه. كم كان يود أن يشتغل في حديقة مماثلة لما في العهود السحيقة، حيث يمكنه ? كما قال ? ترويض الحيوانات التي في طريقها إلى الانقراض، مثل هذه الجثة. على سبيل الختم أدار الجثة من أجل إلقاء نظرة فاحصة عليها من الخلف. كان على الإليتين جراح وآثار دماء، وأسفل المخيخ ? عند مبتدإ النخاع الشوكي- طلقتان من الرصاص. وقف مشدوها يحدق إليَّ وأنا على المشرحة .