يقتضي نهج الحكامة الجيدة وجود أجهزة لتقييم السياسات العمومية وتدبير الشأن العام، التي بإمكانها القيام بالدراسات العلمية والموضوعية حول مدى نجاعة تدبير السياسات الحكومية والعمومية بشكل عام. وإذا كان المغرب قد أقدم في السنين الأخيرة على إنشاء أجهزة للرقابة المالية والافتحاص ودسترة المجلس الأعلى والمجالس الجهوية للحسابات ، وتفعيل أجهزة الافتحاص الداخلية ، إلا أنه في المقابل لم يول اهتماما حقيقيا بتقييم السياسات العمومية حيث ظل هذا المجال ملكا مشاعا تنشط فيه أساليب الشعبوية والسياسوية ، والحروب بالوكالة الممولة بكل أنواع الدعم المادي ، بعيدا عن التحليل العلمي والموضوعي الرصين. مناسبة هذه الملاحظة، ما أقدمت عليه في عددها الأخير مجلة جون أفريك ، حيث قامت بتنقيط رئيس و أعضاء الحكومة ، وهو التنقيط الذي يطرح أكثر من علامات استفهام حول مدى علميته و جديته والمعايير والمؤشرات المعتمد عليها والخلفيات الحقيقية وراءه خصوصا في هذه الفترة التي تسبق الاستحقاقات الانتخابية مما يطرح تساؤلات حول الأهداف الحقيقية للجهات التي تقف وراءه ؟ إن قيادة الأستاذ عباس الفاسي لحزب الاستقلال بجدارة ولثلاث مؤتمرات متتالية من خلال الثقة التي يضعها الاستقلاليون والاستقلاليات في أمينهم العام، والمواقف الوطنية التي تميز بها الحزب دائما ، ورص التنظيم الداخلي للحزب وتقويته وانتظامية اشتغال مؤسساته ، وتعبئته المستمرة للشعب المغربي لربح الرهانات الكبرى لبلادنا ، وتجذره في جميع الأقاليم والمداشر والقرى جعل منه حزبا دائم الإنصات للشعب المغربي ولتطلعاته وانتظاراته، وفيا لالتزاماته التي قطعها على نفسه أمام المواطنين. و كل هذا يؤشر بوضوح على نجاح قيادة الحزب في المشاركة الفاعلة والوازنة في أهم المحطات السياسية والدستورية التي عرفها المغرب ، وفي إقرار العديد من الإصلاحات الجوهرية في السنين الأخيرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وحقوق الإنسان بالرغم من وجود ظرفية اقتصادية دولية صعبة ، وحراك داخلي مستمر، مما جعل من شخص الأمين العام رجل المرحلة الصعبة في هذا الظرف الدقيق الذي تجتازه بلادنا. إن حزب الاستقلال حزب ديمقراطي ومسؤول ، ويسعى إلى ترسيخ تقاليد ديمقراطية في الممارسة السياسية بالمغرب ، لذلك فهو منذ توليه قيادة الحكومة في شخص أمينه العام لم يتردد في الإعلان عن ضرورة تقديم الحساب أمام المواطنين في إطار التزامه بالأخلاق والأعراف الديمقراطية تماشيا مع مبدأ الحكامة الذي اختاره كمنهج و اختيار في عمله السياسي والحكومي ، وفي هذا الإطار لا بد أن نستحضر مبادرة رئيس الحكومة لتقديم حصيلة منتصف الولاية أمام البرلمان ، وحاليا حصيلة أربع سنوات من التدبير الحكومي من خلال إطلاقه للموقع الإلكتروني و مكاسب للتواصل مع المواطنين مباشرة وللتعريف بالمنجزات التي تحققت معززة بالأرقام والإحصائيات الدالة . وبدراسة مقارنة لمضامين التصريح الحكومي الذي كان قد تقدم به رئيس الحكومة في أكتوير 2007 ، مع الحصيلة الحكومية خلال أربع سنوات ، يتبين لكل باحث موضوعي أن 80 في المائة من هذه الالتزامات قد تم تنفيذها خلال أربع سنوات فقط. إن قضاء الأستاذ عباس الفاسي أربع سنوات في قيادة الحكومة ، لم تكن سهلة ، فهي انطلقت كأغلبية نسبية في البداية ، إلا أن بعض الإكراهات المرتبطة بالأحزاب المشكلة لها ، أثر شيئا ما على وضعها ، هذا بالإضافة إلى الاستهدافات المتكررة التي عبأت لها عدة جهات، ومع ذلك ، فقد استطاع رئيس الحكومة أن يتجاوز جميع الصعاب ، وأن يحرص على الحفاظ على تماسك الأغلبية الحكومية وعلى انسجام الفريق الحكومي ، انطلاقا من مسؤولياته الوطنية كرجل دولة موثرا المصلحة العليا للوطن على ربح معارك سياسية هامشية. وعلى المستوى الدولي ، وبتوجيهات سديدة من جلالة الملك ،اشتغلت الحكومة بكفاءة عالية على مستوى علاقة المغرب بمحيطه ، و ازداد الإشعاع الخارجي للمغرب و ثقة المنتظم الدولي فيه نظرا للمهام التي تقوم بها بلادنا على مستوى المهام الإنسانية ، والدبلوماسية .. مما مكننا من ربح مقعد غير دائم في مجلس الأمن ، كما ازداد اقتناع المنتظم الدولي بالطرح المغربي الرامي إلى تسوية سياسية لملف الصحراء المغربية عبر تقديمه لمقترح الحكم الذاتي. واعتبرت القوى العظمى المقترح المغربي مقترحا جديا واقعيا وقابلا للتطبيق، وفي نفس الوقت ربحت بلادنا عدة معارك في مواجهة خصوم وحدتنا الترابية ، حيث سحبت العديد من الدول اعترافها بجمهورية الوهم . إن منح المغرب الوضع المتقدم مع الاتحاد الأوربي لم يكن هبة من أحد ، ولكنه نتاج للإصلاحات التي باشرتها الحكومة وللثقة التي تمكنت بلادنا من كسبها مع شركائنا الاقتصاديين. وفي هذا الإطار لا بد من التذكير بالدينامية التي اشتغل بها رئيس الحكومة ، فبتكليف من جلالة الملك ، مثل الأستاذ عباس الفاسي جلالته في عدة محافل دولية كالأمم المتحدة ، ولقاءات دولية على مستوى رؤساء الدول ، في إفريقيا وأوربا والعالم العربي وأمريكا، وآسيا ،كما مثل المغرب في عدة منتديات ومنظمات إقليمية ودولية . وقد كان لهذا التكليف مكاسب دبلوماسية هامة ، ولحظات قوية روجت لصورة إيجابية للمغرب كبلد يعرف تحولات ديمقراطية لافتة. لقد استطاع المغرب أن يتقدم ب21 رتبة في الترتيب الذي يمنحه البنك الدولي بالنسبة لمناخ الأعمال ، وذلك بفضل الإصلاحات التي باشرتها اللجنة الوطنية لتحسين مناخ الأعمال برئاسة رئيس الحكومة. إن الميزة الأساسية التي تميزت بها الحكومة هو القدرة على مواجهة الأزمات ، حيث واجهت الحكومة ثلاث أزمات دولية وهي أزمة الغذاء وأزمة البترول والأزمة الاقتصادية والمالية العالمية ، وواجهت أزمات داخلية تجلت في موجة الفيضانات التي عرفها المغرب في السنين الماضية، وقد تعاملت الحكومة مع هذه الأزمات بتدبير استباقي وبيقظة سياسية كبيرة، أثارت إعجاب الدول الكبرى والمؤسسات والمنتديات الاقتصادية العالمية، حيث كان المغرب أمام عدة سيناريوهات لمواجهة هذه الأزمات ، لكن رئيس الحكومة اختار بكل إرادة سياسية أن يجعل السياسات العمومية في خدمة المواطن وأن يساند المواطنين ويدعم قدرتهم الشرائية ويحسن مدخولهم ويضمن لهم الشغل والعيش الكريم ، عوض أن ينساق وراء الحسابات الموازناتية الصرفة كما كان يريد البعض أنذاك. وعلى الرغم من ذلك استطاع المغرب أن يحقق خلال الأربع سنوات نسب نمو محترمة أي 5 في المائة كمعدل ، في الوقت الذي سجلت فيه نسب النمو نسبا سالبة في بعض الدول ، وعرفت أخرى تهديدا حقيقيا بالإفلاس . وعلى مستوى الشغل ، قامت الحكومة خلال الأربع سنوات بخلق 71.000 منصب شغل في الوظيفة العمومية أي بمعدل 17.000 منصب في السنة في الوقت الذي لم يكن يتجاوز فيه معدل المناصب المحدثة خلال الولاية الحكومية السابقة 7000 منصب . كما قامت الحكومة بتوظيف 40.000 من حاملي الشهادات منهم 8961 منصب لفائدة مجموعات الشباب حاملي الشهادات العليا العاطلين (دكتوراه، ماستر) في إطار كوطا حددتها الحكومة في10 %، بينما لم يكن يخصص لهذه الفئة طيلة الولاية الحكومية السابقة سوى 1000 منصب. وأمام تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية على النسيج الاقتصادي الوطني عمدت الحكومة إلى الرفع من حجم الاستثمار العمومي من 82 مليار درهم سنة 2007 إلى 167,3 مليار درهم سنة 2011، مما ساهم في إحداث 190.000 فرصة شغل في قطاعات البناء والأشغال العمومية خلال الثلاث سنوات الأخيرة. كما حافظت الحكومة على 100.000 فرصة عمل كان سيسرح أصحابها لولا تدخل الحكومة في إطار لجنة اليقظة الاستراتيجية. وعلى مستوى مساندة القدرة الشرائية للمواطنين، وأمام الارتفاعات المهولة للمواد البترولية والغذائية في الأسواق العالمية ، عبأت الحكومة خلال الأربع سنوات ما مجموعه 108 مليار درهم لدعم المواد الأساسية من خلال صندوق المقاصة ، للحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين وعدم المساس بها. كما خصصت الحكومة ما مجموعه 32,2 مليار درهم للحوار الاجتماعي من أجل تحسين وضعية الموظفين ، وهو ما يتجاوز مجموع ما تم تخصيصه للحوار الاجتماعي خلال العشر سنوات الماضية ب 30 %. وهكذا رفعت من أجور جميع الموظفين بما لا يقل عن 900 درهم كما رفعت الحد الأدنى للأجر في الوظيفة العمومية من 1600 إلى 2800 درهم، ورفعت متوسط الأجر في الوظيفة العمومية من 5500 درهم إلى 7200 درهم وقامت بإعفاء 95 % من المتقاعدين من الضريبة على الدخل، كما قامت بمضاعفة الحد الأدنى للتقاعد من 500 درهم الى 1000 درهم وبالنسبة للعمال رفعت الحد الأدنى للأجر في القطاع الخاص ب 25 % أي من 1936,74 درهم إلى 2337,84 درهم ، كما تم إعفاء 500.000 ملزم من الضريبة على الدخل، وتمت الزيادة في الحد الأدنى للأجر الفلاحي وإقرار التعويضات العائلية لأول مرة بالنسبة للعمال الفلاحين. كما ساندت الفلاحين إبان الفيضانات التي عرفتها بلادنا في الثلاث سنوات الماضية وخصصت دعما ماديا لهم لشراء الماشية والعلف واقتناء المساكن... لقد اختار رئيس الحكومة اعتماد سياسة التقشف وترشيد النفقات العمومية في هذه الظرفية الاقتصادية العالمية الصعبة ، حيث أمر بتقليص النفقات ما بين 15 و 20 %، و ترشيد الإنفاق العام من خلال اعتماد حكامة مالية على مستوى نمط عيش الإدارة . لقد انكبت الحكومة على ورش تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد ، حيث أصدرت قانون التصريح بالممتلكات تفعيلا لمبدأ من أين لك هذا ، وأصدرت المراسيم التطبيقية له ، وقدم أكثر من 100 ألف مسؤول عن تدبير الشأن العام تصريحاتهم للمجلس الأعلى للحسابات الذي يقوم بمتابعتها والتدقيق في تطور هذه الممتلكات. كما أحدثت الحكومة الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة وتمت دسترتها، كما تم إصدار قانون حماية الضحايا والشهود والخبراء والمبلغين في ما يخص جريمة الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ وغيرها. وفي هذا الإطار رفعت الحكومة من وتيرة محاربة الرشوة ، حيث ارتفع عدد المتابعين في قضايا الرشوة والفساد إلى 29.340 شخص خلال الأربع سنوات الأخيرة، أي بمعدل سنوي يتجاوز 7000 في حين لم يتجاوز عدد المتابعين سنة 2006 حوالي 3000 شخص. هذه بعض الأرقام التي تعرفها جيدا مجلة جون أفريك ، وهي واردة في تقارير دولية ووطنية كتقرير بنك المغرب ، وتقارير المندوبية السامية للتخطيط ، لكنها آثرت ألا ترى إلا أن تقوم بتقييم ذاتي لا يستند على معطيات علمية ، وأن تنتصر لأشخاص ولاعتبارات سياسية معلنة عن انخراطها في حملة انتخابية سابقة لأوانها . لقد قام السياسيون المهربون بتهريب النقاش العمومي والسياسي من إطاره الرصين والهادف المبني على التقييم الموضوعي إلى نقاش يركز على الأشخاص ، لذلك فقد قاموا بتنصيب أنفسهم في مراكز القرار قبل أن يقول الشعب كلمته في الانتخابات محاولين فرض وصاية على المواطنين ، وهم على كل حال لم يفهموا بعد المغزى العميق للدستور الجديد ، ولا الإشارات القوية للجماهير الشعبية ..