بالرجوع لكتاب لوسيان بيانكو «أصول الثورة الصينية»في الفصل الأول، بسط الكاتب الخطوط الرئيسية للأحداث السياسية التي دارت في الصين، بدءا من نهاية العالم الصيني القديم حتى انتصار الثورة الشيوعية 1839 1949 هذا المقتطف من الفصل الثاني من الكتاب، يتحدث عن الأصول الفكرية للثورة الصينية، التي يعتبرها الكاتب، بحق، جذر الأحداث السياسية. وهذا النص الذي نقدمه بين يدي القارئ الذي نقله إلى العربية ياسين الحافظ في مجلة دراسة عربية العدد الثالث لسنة 1976، و يلقي فيه الحافظ الضوء على الاتساق، في التجربة الثورية الصينية، بين الثورية السياسية من جهة والثورية الثقافية من جهة أخرى، كما يبين كيف أن الماركسية انتشرت في صفوف الانتجلنتسيا الصينية فقط، وبدرجة معينة من التحديث والعصرنة. واعتبر بيانكو حركة الرابع من ماي حركة تجديد ثقافي، يسمونها أحيانا «النهضة الصينية». والواقع، إذا كان لا مناص من إجراء مقارنة مع تاريخ أوروبا الفكري أو الثقافي، من الأنسب أن نستدير نحو القرن الثامن عشر. إن حركة 4 ماي هي ضرب من «عصر أنوار» صيني يرفع لواء المثل السامية الحكيمة، كالعلم والديمقراطية. وأكثر من ذلك، هي مشروع تصفية حساب، تبشر وتحضر لسنة1949 عام انتصار الثورة الصينية، على منوال ما كان فولتير يبشر ب 1789. بهذا المعنى، 1919 أكثر أهمية من 1911 ، فلم يعودوا يهاجمون فقط الإمبراطورية والعائلة المالكة، بل هاجموا أيضا الدعامة الإيديولوجية للنظام الإمبراطوري ومنظومة الفكر و التنظيم الاجتماعي التي فرضت نفسها منذ أكثر من الفي عام. إن حركة 4 ماي هي التشكيك بالأساس بالذات الذي يقوم عليه المجتمع الصيني.ولم يكن يساور الشبيبة الطلابية أي شك حول هذا الأساس، وكانت تريد أن تنتهي نهائيا من المسؤول الحقيقي عن الاجواء التي يشتكون منها، وكانت تنقض بحماسة على قلعة الكونفوشيوسية هاتفة «لتسقط الدكانة الكونفوشيوسية». الرفض الكلي لرمز الثقافة الصينية يلاحظ القارئ الأهمية الاستثنائية التي احتلها حركة 4 ماي. فالأصول الفكرية للثورة الصينية انما هي التشكيك بالميراث الثقافي الصيني، الذي واجته الحضارة أو الثقافة الغربية. لذا فإن 4 ماي هي الرفض الكلي والصارم للكونفوشيوسية، رمز الثقافة الصينية القديمة والماضي الصيني. مقدمات 4 ماي الكونفوشيوسية المشكك بها رفض صارم، أي عنيف وضار في الهدم، لكن لم يكن ثمة مفاجأة غير متوقعة في الهجوم. بعيدة عن أن تكون حركة جاءت من لاشيء، حركة 4 ماي جاءت ، على العكس، نتيجة مقدماتها هي كل الهجمات التي زعزعت تدريجيا الكونفوشيوسية منذ 1840 . ثغرات أو اختراقات بقيت زمنا طويلا خجلة متوجسة، فتحت على مضض، لكنها كانت محتومة وما كان ممكنا إلا أن تتوسع وتتفاقم، منذ أن اكتشفوا الحقيقة الحاسمة التي كشفتها وجاءت بها الغزوة التي قام الأوروبيون، الكونفوشيوسية ليست، كما كانوا يعتقدون، التجسيد الوحيد للحضارة، بل إنها تجسد فقط لحضارة معينة من بين حضارات أخرى، حضارة لم تعد الأكثر أهلية لضمان بقاء الصين في عالم من التقدم التقني والمنافسة التي لا ترحم. إن القروض التي استدانها مخاصمو الغرب لا تشكل سوى الجانب الأقل مكرا الذي استخدم في هذه المحاكمة التي أضفت طابعا نسبيا على الثقافة أو الحضارة الكونفوشيوسية قبل مهاجمتها، إن الزاوية التي فهموا من خلالها هذه القروض تكشف عن الوزن الكبير الذي استمروا في إعطائه للحكمة الكونفوشيوسية. فبصورة متعمدة قصروا القروض على الفن العسكري، الذي يعطي القوة، ثم على الصناعة، التي تأتي بالثروة، وأخيرا على العلوم التطبيقية، التي تقود الفن العسكري والصناعة في آن، وتركوا بعناية جانبا الجوهر، الذي لا يتغير ولا يتبدل، الذي تملكه الصين وحدها. أو بالأصح ما وهب الصين منذ حوالي 2500 سنة طبيعتها، وهي تعاليم «كونفوشيوس» ، التي لم تكن حسب بيانكو، مثل هذه الوصفات المستوردة من ما وراء البحار، من نوع انتفاعي أو مؤقت بيد ن العقل الذي قبلوا عبره هذه التجديدات التي لا مفر منها لم يتغير، بالطبع، في تأثيراته. وفيما بعد قليل، بالترجمة وبالتعليم، الغرب كله يتسلل، ثم يفرض نفسه. وأكمل تدمير النظام الذي كانت الأسلحة الحديثة والسكك الحديدية قد أخرجته. في نهاية القرن، القرن 19 ، رال مثل «يان فو» و «لن شو» ينشرون عاما بعد عام ترجمات جديدة لمؤلفات غربية: مؤلفات فلسفية وليس فقط كتب تعليم الجبر والهندسة. المدارس الجديدة، التي تقدم تعليما «عصريا»، أي غربيا، تكاثرت. وهذا لم يمنع عدد الشباب الصينيين، الذين يذهبون للدراسة في الجامعات الأوروبية أو الأمريكية، من التزايد المطرد. وحدث نفس الشيء في الجامعات اليابانية، البؤر التي نشرت طويلا كونفوشيوسية مستوردة. المثقفون والأسلوب المعتاد منذ 1906 ، أصبح عدد الطلاب الصينيين في الأرخبيل الياباني 13000 طالب. في نفس العام، في القارة الصينية، الفحوص التي تجري كل ثلاث سنوات التي سقطت معنويا منذ العام 1906 ، لم تعد تجري، كانت الحكومة الإمبراطورية قد ألغتها في السنة السابقة. إنه لتدبير أساسي، وذلك لأن منظومة الفحوص، باحتفاظها بسائر المناصب الإدارية للمثقفين الذين تلقوا تأهيلا أو تكوينا تقليديا، كانت إحدى أعتى الحصون المؤسسية للكونفوشيوسية. واوضح بيانكو أنه عندما جردت الكونفوشيوسية من قاعدتها الاجتماعية أو أصبحت في طريقها الى هذا الحرمان، غدت موضع اعتراض مكشوف على الصعيد الفكري. إنها أصبحت كذلك بسبب المتمردين «التاينغ» ، وان ترميم النظام قد تم ضدهم باسم الكونفوشيوسية. بيد أن هذا الأمر، كان شيئا جديدا خطيرا، ذلك لأنه طيلة التاريخ الصيني، هؤلاء الذين يعلنون الثورات انما كانوا يتذرعون بفكرة كونفوشيوسية للغاية، فكرة أن العائلة المالكة أضاعت «الوكالة السماوية». في نهاية القرن التاسع عشر، لم تكن الجماعات المتمردة هي وحدها التي تزعزع المكانة القوية التي تحتلها الكونفوشيوسية، بل المثقفون المعترف بهم. فباستخدامهم الأسلوب المعتاد فرضوا على الامبراطور وجهات نظرهم وكذلك اقتراحاتهم الأوروثوذكسية. ولقد نجحوا، لمدة من الزمن، في جعله يتبناها. بيد أن مكانة وهيبة الثقافة الكونفوشيوسية كانت قوية حتى في صفوف أولئك الذين أحسوا بالحاجة إلى اكتشاف، مقنعا بكونفوشيوس التقليد الأورتوذكسي الخانق، كونفوشيوس «حقيقي» . بالطبع، ان هذا الكونفوشيوس بطلب الجماهير والتقدم لم يوجد البتة إلا في مخيلتهم. وفضلا عن ذلك فليس هذا الكونفوشيوس هو المهم، وذو الاعتبار بالنسبة للتاريخ، وهو نفسه الذي يهاجم بضراوة من قبل أعداء التقاليد من رجال 5 ماي هو ذلك الذي يوفر الأساس الإيديولوجي لنظام اعتبره بيانكو استبدادي ومحافظ، النظام الأورثوذكسي، وقال إنه نظام أعداء المصلحين. أعداء أقوياء أيضا، وذلك لأن تجربة التكيف بدون ثورة مع العالم العصري لم تستطع أن تستمر إلا مائة يوم. الضربة القوية الثالثة التي نزلت بالأورثوذكسية الكونفوشيوسية، بعد الألفية المسيحية لرجال التايبنغ ولجوء المصلحين الى روح الحكمة ضد الكنيسة القائمة، وقال بيانكو إن نشر الأفكار الفوضوية في كل السنوات الأخيرة من عمر الإمبراطورية. ثوريون مثل رجال «التايبنغ» ، ومعارضون مثلهم للمذهب الكونفوشيوسي، الفوضويون الصينيون هم، مثل المصلحين، مثقفون متحدرون من الطبقات القيادية. بل، في كثير من الأحيان، كانوا أربع المنعمين مكانة من صفوف ذوي الامتيازات، هؤلاء الذين استطاعوا الذهاب الى الخارج للدراسة. 4ماي حركة طلابية وفي فرنسا وفي اليابان اكتشفوا باكونين وكروبوتكين، وفي فرنسا نشروا جريدتهم الرئيسية ، «العصر الجديد». وبسرعة، حاولوا أن يحققوا في الصين أفكار معلمي الفوضوية الغربيين. وتحت هذا التأثير، أسسوا جمعيات، مثل «جمعية القلب» التي تعهد أعضاؤها باطاعة اثنتي عشرة وصية، كانت في معظمها ممنوعة « التقشف، الوصية ، رفض العادات التقليدية ، والفساد السياسي والاستغلال الاجتماعي والمعتقدات الدينية»، يعتقد أنهم كانوا على صلة بالحلقات الأكثر تصلبا من الطليعة الأوروبية في منعطف العصر. والواقع أن ما يحدد الفوضوية الصينية عشية الحرب العالمية الأولى، تبني نظريات الغرب المعاصر الأكثر راديكالية، مضافا إليه نقد قاس للكونفوشيوسية. وكتب بيانكو أن حركة 4 ماي حركة جماهير، لكن يجب على الفور تبيان أن هذه «الجماهير» تترك جانبا 95 % من الصينيين. لقد عبئت من صفوف الأقلية الضئيلة المثقفة. و4 ماي هي حركة مثقفين، بل كانت في البدء حركة العالم الجامعي، الطلاب والأساتذة كانوا دعامتها. والواقع، بالمعنى الحقيقي، إن حركة 4 ماي هي تظاهرة طلابية حدثت في بكين يوم 4 ماي 1919 للاحتجاج على القرار المتخذ في مؤتمر السلام المنعقد في باريس والقاضي بأن تحول الى اليابان حقوق المانيا في الإقليم الصيني «شاندونغ» . بالمعنى الواسع، حركة 4 ماي هي حركة تجديد وثورة ثقافيتين بدأتا في الواقع قبل عدة سنوات من 1919 واستمرت بعدها. مفهومة على هذا النحو، الحركة حافظت على قاعدة اجتماعية ضيقة جدا ان الجانب الأشد لفتا، وهو الذي ينوه به في معظم الأحيان من جملة هذا التغيير الثقافي، «الثورة الأدبية»، هو قبل كل شيء من صنع الكتاب والصحفيين. اما المبادرتين الأكثر إسهاما في نجاح الحركة، فلا تعتبران حدثين إلا بالنسبة لحلقات ضيقة من الانتلجنتسيا، إصدار صحيفة موجهة لجمهور المثقفين من جهة، إعادة تنظيم جامعة بكين من جهة أخرى. الثورة الأدبية في كانون الثاني 1917 ، يتوجه شاب في السادسة والعشرين إلى هؤلاء الذين، في الصين، يمتهنون الكتابة. طلب إليهم أن يستخدموا منذ الآن فصاعدا اللغة المحكية «بيهوا» وليس اللغة المكتوبة «وينيان». هذا هو قوام «الثورة الأدبية»الذي كان باعثها، «هوشي» ، قد أنجز بالكاد أطروحته في جامعة كولومبيا. تدبير تقني. جدا، بحيث لم يظهر قبل التجربة انه يبرر هذه التسمية المبالغة والواقع، إننا إزاء اختيار رئيسي. الأدباء الصينيون كانوا يكتبون بلغة لم تتطور منذ ألفي عام، لغة، أيا كان جمالها الخاص، كانت لغة ميتة. وكانوا يتكلمون بلغة أخرى، وحدها الحية، وحدها المفهومة من قبل الشعب. كل الأدب الصيني عدا الأنواع المزدراة كالروايات، التي تقرأ بالسر كان مكتوب بال «وينيان». الانتقال من ال «وينيان» الى ال «بيهوا» ، هو من قبيل ما مثله، في أوروبا، هجران اللاتينية لصالح مختلف اللغات القومية. الإصلاح اللغوي والثورة الأدبية بدعوته الى تبني ال «بيهوا» ، تابع «هوشي» هدفا اجتماعيا جعل المؤلفات الأدبية في متناول الجميع. طلب أيضا أن يكون الأدب مرتبطا على نحو أكثر مباشرة بكثير بحياة الشعب. وبعيدا عن أن تقتصر على الإصلاح اللغوي، «الثورة الأدبية» تنطوي في نظره على تجديد للأدب ، للمناهج الأدبية، للأسلوب ، أي، بخاصة، هجران كل التقاليد الأدبية وكل بحث عن الأساليب التي تبهج منذ أكثر من الفي عام الأدباء الاقتضاب المبالغ، الكنايات المبهمة، الاستشهادات المأخوذة ن الأدبيات الكلاسيكية، الخ. ضد أدب الارستقراطيين هذا وهو أدب «متحذلق، غامض، ظلامي أو تجهيلي»، كما قال بعض حلفاء «هوشي» ، كان الأوان قد آن لتشجيع أدب شعبي بسيط، واضح، مفيد. وعندما هوجم «المتحذلقون بهذا القدر من العنف، حاولوا الدفاع عن أنفسهم وعن التقليد الأدبي الكلاسيكي. عبثا أفكار «هوشي» فرضت نفسها بسهولة وسرعة مذهلتين. معظم الكتاب تبنى في الحال ال «بيهوا» كما لو أنه كان بانتظار هذه الإشارة. المجلات فعلت نفس الشيء. من بين مجلات الصف الأول، كانت مجلة «الشبيبة» الدورية الأكثر أهمية في حقبة حركة 4 ماي. «الشبيبة» هي التي نشرت بيان «هوشي» وعنوانه «اقتراحات لإصلاح الأدب»، وفي الشهر التالي شباط 1917، اتخذت موقفا وديا إزاء أطروحات «هوشي»، كتبه وصاغه رئيس تحرير المجلة «شن دو سيو» ، الذي أسس «الشبيبة» قبل ثمانية عشر شهرا، هو إحدى الشخصيات الجذابة جدا في الصين المعاصرة. ولد في نفس السنة التي ولد فيها ستالين وتروتسكي ، عام 1879، في عائلة ماتدارانات. تلقى في البدء تربية كلاسيكية، بيد أنه لم يتابعها حتى النهاية. وبدلا من أن يحضر الصف الثالث والأخير من دورة الفحوص التقليدية، التي تفتح الطريق الى أعلى المناصب في الإدارة الإمبراطورية، فضل أن يتلقى تعليما من طراز «غربي». تابع أولا في «هانغ شو» دروسا في الدراسات البحرية بالفرنسية، ثم سافر ، في الثالثة والعشرين من عمره، للدراسة في طوكيو. ولقد أقام عدة مرات في اليابان، تخللتها فترات عاد فيها الصين، حيث درس ونشر الصحف الثورية. «شن دو سيو» ينتمي إذن إلى هذه الفئة ، طلاب ما وراء البحار، هؤلاء الذين تلقوا في الخارج تكوينا أو تأهيلا عصريا والذين عادوا الى الصين مصممين بشدة على أن يدخلوا في بلدهم ما تعلموه في بلدان أخرى. إن «شن دو سيو» هو النموذج الكامل للتغربي الراديكالي، لقد كان، من بين آخرين، «هرزن» الصين الحديثة. تغربي على درجة من الثقة والقناعة وعلى درجة من قلة الكلف يسقيم التقليد الصيني جعلته يرفض الانضمام الى جماعة «صن يات صن» الثورية، التي رأى في اتجاهها القومي إفراطا. بيد أنه اشترك بثورة 1911، حيث عين غداتها مسؤولا في قطاع التربية في حكومة الإقليم الذي ولد فيه. بعد زمن غير طويل عام 1913، اتخذ موقفا معاديا ضد «يوان شي كاي»، وعندما سحقت «الثورة الثانية» ، سارع الى الهرب الى اليابان. وما كاد يعود من إقامته الجديدة هذه في الأرخبيل الياباني حتى أسس في ايلول 1915، في شنغهاي، مجلة «الشبيبة» . ان راديكاليته وتطرفيته قد انسجمتا مع مناخ تلك الحقبة، ومنذ ذلك الحين فصاعدا، وخلال اثنتي عشرة سنة، لم ينقطع عن احتلال مكان الصدارة على المسرح الأدبي والسياسي في الصين.