لقد تساءل جلالة الملك، بمناسبة افتتاح السنة التشريعية 2000 2001 «فهل من قدرنا أن تكون الممارسة الديمقراطية السليمة نوعا من الحلم الضائع أو السراب الخادع؟. وكان جوابه جلالته مطبوعا بالتفاؤل عندما أكد «بلى، إن الدولة عازمة كل العزم بإصرار وفعالية لإعطاء الممارسة الديمقراطية مدلولها الحقيقي السليم المتسم بحرية الاختيار وتطهير قدسيتها من كل الممارسات المشينة». وجاء الخطاب الملكي لتاسع مارس ليجسد هذا الجواب بالإعلان عن فتح ورش الإصلاحات الدستورية والسياسية من أجل ترسيخ دولة الحق والقانون والمؤسسات ولهذه الغاية، اختار جلالة الملك طريقة الديمقراطية التشاركية، بحيث لم يكتف جلالته بالإعلان فقط عن الإصلاحات الدستورية والسياسية المرتقبة، بل وضع الخطوط العريضة والتوجهات العامة والاختيارات الكبرى لهذه الإصلاحات ، وعين لجنة خاصة لمراجعة الدستور تتكلف بإعداد تصور للتعديلات المقترح تقديمها على أحكام الدستور تستجيب لمتطلبات الإصلاح السياسي المنشود ما دامت الإصلاحات الدستورية ليست غاية في حد ذاتها بقدر ما هي وسيلة لإقرار النظام السياسي المراد تطبيقه انطلاقا من أنماط أنظمة الحكم المتعارف عليها في أفق فتح مشاورات واسعة مع الأحزاب السياسية والهيئات النقابية والمجتمع المدني حتى تكون لهذه المقترحات المعدلة للدستور قوتها ومناعتها مادام جلالة الملك قد أعطى للبعد الدستوري للاصلاحات السياسية بعده الحقيقي عندما حرص جلالته على فتح هذا الورش على مصراعيه بهدف «ترسيخ دولة الحق والمؤسسات وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية، وضمان ممارستها، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان بكل أبعادها السياسية والإقتصادية والاجتماعية والتنموية والثقافية والبيئية، ولاسيما بدسترة التوصيات الوجيهة لهيأة الإنصاف والمصالحة، والإلتزامات الدولية للمغرب». ويبقى الخط الأحمر الوحيد لهذا الورش ثوابت الأمة المتمثلة في الدين الإسلامي، النظام الملكي، الوحدة الوطنية والترابية، الخيار الديمقراطي، مادامت هذه التوابت مطبوعة بالقدسية والاجتماع الوطني وغير قابلة للجدال. ولاشك أن الرسالة الملكية قد وصلت إلى الجميع واستوعبها الكل في انتظار ترجمتها إلى مقتضيات دستورية وقانونية لتشريع وثيرة الانتقال الديمقراطي بما يضمن ترسيخ البناء الديمقراطي الحقيقي. بالارتقاء بكل من الجهاز التشريعي، الجهاز الحكومي والجهاز القضائي الى سلطة حقيقية تتمتع بالصلاحيات الكفيلة التي تمكنها من القيام بالمهام الدستورية المنوطة بها على الوجه المطلوب، باحترام مبدأ فصل السلط وتوازنها وتكاملها بعيدا عن سياسة «الهيمنة» و«ثقافة التعليمات» في إطار قواعد اللعبة الديمقراطية المتعارف عليها في الأنظمة الديمقراطية المعاصرة، بإعطاء المؤسسات الدستورية المنتخبة مصداقيتها تحظى بثقة الشعب من خلال إقرار ضمانات حقيقية لنزاهة الانتخابات يبقى فيها الجهاز الإداري محايدا حياداً إيجابياً لتحصين العمليات الانتخابية وضمان احترام الإرادة الشعبية في اختيار ممثلي المواطنين بكامل الحرية بعيدا عن أي ضغوط كيفما كان شكلها، بما فيها الضغوط المادية المتمثلة في استعمال المال للتأثير على إرادة الناخبين حتى يتم الانتقال من مؤسسات منتخبة نابعة من خريطة سياسية مصنوعة إلى مؤسسات قوية بانبثاقها من خريطة سياسية تعززها صناديق الاقتراع بإرادة الناخبين وحدها، وذلك بإعادة النظر جذريا في القوانين الانتخابية حتى تكون أداة لنزاهة الانتخابات وشفافيتها بعد ما كانت سلاحا لإفساد العمليات الانتخابية، بتأهيل العمل البرلماني انطلاقا من برلمان نابع من انتخابات حرة ونزيهة يتمتع باختصاصات واسعة على مستوى التشريع ومراقبة العمل الحكومي ، إعطاء الممارسة البرلمانية مدلولها الحقيقي تشريعا ومراقبة بعيدا عن أن أي تدخل كيفما كان مصدره خارج أحكام الدستور، إعادة النظر كليا في نظام الثنائية البرلمانية الذي أقره دستور 1996 باعتباره يشكل عرقلة حقيقية في وجه تحسين الأداء البرلماني وتطويره، إعطاء المنهجية الديمقراطية مدلولها الحقيقي ليس فقط بتعيين الوزير الأول من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات مجلس النواب على أساس صناديق الاقتراع، ولكن أيضا وبالأساس ضمان انبثاق حكومة منسجمة عن أغلبية نيابية متجانسة في التوجهات والاختيارات لإقرار برنامج حكومي متوافق بشأنه، يكون فيها الوزير الأول المحرك الأساسي والرئيس الفعلي للسلطة التنفيذية والإدارة العمومية، بما فيها المؤسسات العمومية وشركات الدولة، الإدارة الترابية ولاة وعمال وجميع المسؤولين المكلفين بتدبير الشأن العام بعيدا عن الممارسات السابقة المطبوعة بالتجاوزات والتدخلات التي تتنافى ومتطلبات الممارسة الديمقراطية، تأهيل العمل السياسي وتخليقه بإعادة النظر في قانون الأحزاب بما يضمن محاربة الترحال السياسي الذي يفسد المشهد السياسي ويساهم في تمييع الحياة السياسية، تكريس مبدأ ربط ممارسة السلطة والمسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة لمحاربة التسيب وسوء التدبير وفتح ملفات الفساد من طرف القضاء، لإعطاء تخليق الحياة العامة مدلولها الحقيقي ليس فقط بدسترة الهيآت المكلفة بالحكامة الجيدة، ولكن أيضا بتجريم سياسة الامتيازات واقتصاد الريع واستغلال النفوذ، إعطاء الديمقراطية المحلية مدلولها الحقيقي بتوسيع اختصاصات المجالس المنتخبة وفك رقبتها من وزارة الداخلية وإعادة النظر في ظهير 1977 المتعلق باختصاصات العمال. إن البعد الدستوري الذي أعطاه جلالة الملك للاصلاحات السياسية تشكل الضمانة الحقيقية لإعطاء هذا الإصلاح بعده الحقيقي وشموليته التي يتطلع إليها المغاربة.