نشأ في بلدة رْفالَة المجاورة لخميس أولاد عيَّاد في ذلك الزمن الصعب بقحطه ومجاعاته .نشأ يتيم الأب والأم معا فتكفل به عمه . لازم الكتَّاب منذ نعومة أظافره إلى أن أتمَّ الذكر الحكيم . شعر أن ما تلقاه عن فقيه البلدة لم يشف غليله ، فقررأن يشد الرحال إلى جهات عديدة يستزيد من علوم الدين خاصة التفسير والحديث . توجه إلى مراكش التي لازم بعض شيوخها ، ثم قصد تارودانت ، وبعد العودة من الجنوب مكث مدة بين ذويه حتى استرد أنفاسه ، ثم توجه راجلا عبر زاوية الشيخ إلى سْكورَة التي سمع بضلوع شيوخها في علوم الدين. بعدغياب طويل عاد إلى بلدته كامل الرجولة،وحافظا للقرآن الكريم مستوعبا له عكس العديد من الفقهاء الذين يكتفون بالحفظ دون ما يكفي من إلمام بمعانيه . جرت العادة أن يقام حفل احتفاء بختم الآيات البيِّنات . أركبوه جوادا في أبهى ما يمكن سَرْجا ولجاما وتفاصيل أخرى، وطافوا به البلدة كلها بالهتاف والزغاريد ، ثم أعادوه إلى البيت الكبيرحيث العشيرة كلها،كي يستقبل المهنئين ، ويتلقى الهدايا . كان ذلك فخرا عارما لأقربائه ، بل لأهل البلدة كلها لما كان يمثله القرآن المجيد من قيمة في نفوسهم . مكث مدة استعاد فيها ألفة كانت مع أصدقاء الطفولة ، ثم بدا له أن يشد الرحال جهة آيت بوزيت بالأطلس المتوسط بحثا عن المهمة المنذورلها كإمام مسجد ، وفقيه كتَّاب . كان الصعود من السهل إلى الجبل بداية حياة غنية بالمفاجئات السارة. مرَّ بعدة قرى ومداشر ودواوير. بدءا من الجيران أيت عِتاب مرورا بأيت تكَلاَ رعاة شلالات أزود . لم يتمكن من الحصول على ما يصبو إليه ، لكن أينما حل وارتحل يُستضاف،خصوصا عندما علموا أنه من حفظة القرآن الكريم . يقصد المسجد ولا يجد عناء كبيرا في كسب مودة الإمام ، وذلك لأنه خلال طوافه خبر الناس أصنافا وطباعا . يأتي المصلون إلى المسجد ويعلمون بأن غريبا حل ضيفا على بيت الرَّب ، وجرت العادة أن يتفقوا فيما بينهم على إطعامه بالتناوب إلى أن يغادر إلى وجهة أخرى . واصل السير باتجاه أيت حمزة وأيت بوزيت الآهلتين بعدة تجمعات سكنية و دواوير وقرى . من سوق إلى آخر إلى أن دلَّه أحدهم على بلدة حلوان التي يبحث أهلها عن فقيه يؤمهم في الصلاة ويعلم أبناءهم قراءة الألواح . في نهاية الأربعينيات من الألفية الثانية وصل إلى حلوان . استبشر الناس خيرا بقدومه .عينوا له أجره وأسكنوه بيتا على مقربة من المَسجد . لم تمض بعض الأيام حتى نال هذا الفقيه الشاب إعجابهم . فهو حريص على الاستيقاظ والذهاب إلى المسجد قبل صلاة الفجر. يشعل النار ويملأ بالماء الآنية النحاسية الكبيرة المعلقة بسلسلة حديدية إلى السَّقف . ولا يكاد يَصِل المصلون حتى يكون الماء جاهزا للوضوء ، أوللاغتسال مما اقترفوه ليلا من محبات . بعد الصلاة يلتحق الصغاروالنوم عالق بأهدابهم . يكتب لكل واحد لوحته وعليهم أن يستظهروا عن ظهر قلب ، ومن غير تردد أو تلعثم ، ما احتوته من سُوَرٍ قصيرة . ومن لم يستطع كان عقابه هو عدَم السماح له بالذهاب إلى بيته لتناول وجبة الفطور. يمكث في مكانه ، ويحرص على الحفظ وإلَّا لامفرَّ من الفلاقة وشماتة أقرانه . هذا الحزم في تربية النشء من الأشياء المحببة عندهم .كان أيضا كلما استفسَروه في شأن ديني أو دنيوي يجيبهم مستشهدا بما يكفي من القرآن والحديث . إلا أن الشيء الذي كان يؤرقهم هو أن هذا الفقيه الشاب لابد له من زوجة . كان هو الآخر يفكر في الأمر، وحين فاتح أحد الشيوخ ذات عصر دلَّه على المرأة المناسبة ، وعليه فقط أن يوافق ليخبر أهلها. انتظر إلى أن أكملت عِدَّتها لأنها مطلقة، ولا أمل في الصلح لأن مُطلِّقها اقترن بغيرها . كان حفل الزواج عبارة عن عشاء دُعي إليه بعض أعيان القبيلة وبعض الفقهاء من الدواوير المجاورة بالإضافة إلى أهل العروس أما أهله هو فلم يحضر منهم أحد لبعد المسافة . مضى عامان على هذا الزواج الذي لم يُثمر إنْجابا ، فقرَّرالطلاق، كما جرت العادة لأن الغاية السامية من الزواج هي الحصول على الذرية وامتداد النسل . مرت مدة غير قصيرة فاقترن بامرأة أخرى . كانت حديثة العهد بالطلاق ، وهي من عشيرة كبيرة أكرمته ، ومنحته بيتا فسيحا ، ولما أنجب ساعدوه على امتلاك بعض رؤوس البقر التي ألحقوها بقطيعهم كي تتوالد وتتكاثر، وكلما بيع منها رأس كان له نصيب من ثمن البيع يأخذ منه ما يكفيه لسد حاجياته وتوفيرالباقي لدوائر الزمن كما كان يقول. أمضى عدة سنين بهذه البادية الساحرة بجمالها إماما للمسجد ، وخياطا للجلابيب والبرانس الصوفية إلى أن حدث خلاف بين عشيرة زوجته وعشيرة أخرى. وكنوع من الانتقام أوقفوا الفقيه من أداء مهامِّه . لم يستهدفوه هو بالذات ،بل زوجته لأنها من الطرف المتنازع معه . بهذا السلوك المشين كانوا ينتظرون من الفقيه أن يشد الرحال إلى وجهة أخرى ،وهذا لم يحدث أبدا ،لأنهم لايعرفون من أي معدن هو. فصمته المعهود له يخفي شخصية قوية لا تستسلم ولا تلين. هجرالمسجد وقاطع الصلاة معهم .أما عائلة زوجته فقد شجعته على البقاء لأنه بإمكانه أن يضمن مصاريف التسوق بما يكسبه من مهنة الخياطة التي يتقنها.أهدته فدَّانا بكامله شيد فيه بيتا جميلا وما تبقى من الأرض غرس فيه عدة أشجار الزيتون. أما ما كان يوفره من مال فقد اشترى به آلتين للخياطة واحدة يخيط بها في سوق أربعاء واويزَغْتْ والثانية في سوق الأحد ِببَيْن الويدان، بالإضافة إلى آلة أخرى في البيت كان قد اشتراها. استطاع أن يعلم الزوجة التي تساعده أثناء غيابه ، حتى الأبناء استطاعوا أن يتعلموا بعض أمور الخياطة. بين السوقين يلزم بيته ،ولا يكاد يخرج . يقضي معظم النهارفي خياطة ما كلفه به صديقه لَعْتابي الذي يتاجر في الأثواب والملابس الجاهزة . يمده بكمية من الثوب على أساس أن يفصِّل ويخيط منه المتفق عليه من السراويل الفضفاضة التقليدية والقمصان الطويلة الزاهية الألوان . يأخذ أجره الذي يكفيه ما يحتاجه من السوق طيلة أسبوع أو يزيد . في الليل يتفرغ لخياطة جلباب أوبُرْنُسٍ بمساعدة الزوجة أوالأبناء الذين يتناوبون في الإمساك بالبرَّشمان .كانوا يجلسون في ما يسمى بتانَصْريتْ ؛ وهي الغرفة الفسيحة والأنيقة المخصصة عادة لاستقبال الضيوف.و كان الفقيه يقول ضاحكا :ألسنا ضيوفا؟في هذا المكان يروج الحديث عن اليومي ، ثم يجنح إلى المستظرف من الكلام والحكايات العجيبة التي ترويها الأم الريِّقة المزاج أوالأب كلما عنَّ له ذلك. إلا أن الفرق بين حكيهما هو أن الأم تسرد باللسان الأمازيغي بينما الأب غالبا ما يحكي باللسان العربي الدارج . وكثيرا ما يفسدون عليه تتبع الخيط الرابط لفصول المحكي باستفسارات عن كلمات لا يدركون معناها فيعمل على ترجمتها إلى لغة الأم . كانت مرْوياته كثيرا ما تتعلق بما التقطته أذنه في الصبا والتجوال ، أو ما ورد في القرآن الكريم من قصص الأنبياء الباذخة بالإثارة والتشويق كقصص نوح وموسى و يوسف المؤثرة . كان ضوء المصباح الباهت يضفي على تلك الحكايات سحرا غامضا ، خاصة كلما شحُب الضوء وبدت ظلال الرؤوس تتراقص وتتضاءل على الجدران . هكذا كانت أيام السي لكبير في حَلوان الأثيرة . في هذا المكان بعيدا عن أهله وخلانه قضى أكثرعمره،أما الباقي فقد أمضى منه النزر اليسير في البلدة والباقي في الطواف طلبا للعلم .تأتيه نوبات من الحنين ويشعره بغربة المكان،وكثيرا ما كان يردد عبارة : أنا غْريبْ . هذا الشعور ازداد الإحساس به عندما كبر الأولاد وغادروا إلى وجهات بعيدة . لم يعد في البيت غيره والزوجة والسنين التي بدأت تزحف بهما تدريجيا باتجاه الشيخوخة.المكان نفسه بدأ يشيخ . فمعظم الناس نزلوا من إقاماتهم في حلوان العليا إلى الأسفل ، واستبدلوا منازلهم بأخرى شيَّدوها قريبا من الطريق الإسفلتي الذاهب إلى القرى والمدن . خلاء المكان ووحشته جعل الفقيه هو الآخر يفكر في المغادرة . التحق بالقرية التي تبعد بنحو سبعة كيلومترات تاركا حلوان وراءه . في هذه الإقامة الإسمنتية الجديدة أمضى ما تبقى من حياته . يزور بين الحين والآخر أبناءه في المدن التي يقيمون فيها. لما حدس قرب أجله صبيحة ذلك اليوم لم يخبر أحدا ، وإنما طلب حضورأصدقائه الفقهاء الذين التحقوا به في الظهيرة ظانين أن الأمر مجرد دعوة لقراءة القرآن الكريم طلبا للاستشفاء من مرض عضال لازمه . اسقبلهم بابتسامته المعهودة وبعد الاستفسارعن الصحة والأحوال شرعوا في القراءة جهرا. كان هو الآخر يُرتِّل معهم ما تيسر من الذكر الحكيم إلى أن بدا لهم متعبا.امتد كمن يريد الاسترخاء .حين شرع في التَّشهُّد لم يصدقوا أن الموت كان يحلق فوق رؤوسهم ، فارتعبوا. أما هو فكان يومئ بالسبابة طلبا لجرعة ماء . أخذها بيده المرتعشة . شرب منها قدرا يسيرا ثم غفا إلى الأبد وعلى وجهه أكثرمن لغز وابتسامة .