أثيرت في منتدى فاس حول (الدبلوماسية الدينية والثقافية في خدمة الأمن والسلم العالميين)، دورة علال الفاسي، كثير من القضايا الفكرية التي تشغل حيزاً واسعاً من اهتمامات النخب الثقافية والأكاديمية، سواء في العالم العربي الإسلامي، أو في دول العالم كافة. ومن هذه القضايا ما كان للزعيم علال الفاسي فيها قدم راسخة ومشاركة فاعلة وحضور مشع واجتهاد وإبداع فكريان متميزان. ولقد كانت الكلمة الضافية الغنية بالأفكار البناءة، التي شارك بها الأخ الأستاذ عباس الفاسي، الأمين العام لحزب الاستقلال، الوزير الأول، والتي ألقاها بالنيابة، الأخ الأستاذ شيبة ماء العينين، معبرة أوْفَى ما يكون التعبير وأقواه، عن شخصية المفكر الرائد علال الفاسي الذي كان سباقاً إلى تبني الأفكار التجديدية والمفاهيم الحديثة التي يعرفها العالم في هذه المرحلة، ومنها حوار الثقافات وتحالف الحضارات، والاحترام المتبادل بين الدول، والتعايش بين الشعوب، والتعددية الثقافية، والحق في الاختلاف، واحترام الرأي الآخر، والتسامح، والانفتاح على تيارات العصر وأفكاره الكبرى، والتعاون الإنساني من أجل بناء عالم جديد يخلو من أسباب التوتر والنزاع والصراع والصدام والاحتراب ونذر الحروب والأزمات، وتعزيز دور الفكر الإنساني في صياغة نظام عالمي جديد، وفي صناعة المستقبل الآمن الخالي من الحروب والنزاعات والتوترات. ولقد بدأ الزعيم علال الفاسي حياته النضالية مفكراً مجدّداً، ففي سلسلة مقالات نشرها خلال الفترة من سنة 1926 إلى سنة 1936، أكد على فكرة التجديد في الدين، والتجديد في الفكر، والتجديد في الأخلاق، وتجديد حياة المجتمع، بعضها نشر له في مجلة (الشهاب) الجزائرية التي كانت تصدر من قسنطينة، وبعضها نشر له في جريدة (إظهار الحق) التي كانت تصدر من طنجة، وبعضها نشر له في مجلة )السلام( وفي مجلة (المغرب الجديد) اللتين كانتا تصدران من تطوان. وهذا يعني أن الزعيم علال قد انخرط في حركة التجديد الإسلامي المستنير، في وقت مبكر من حياته، وقبل مرحلة النفي (1937-1946). ففي تلك الفترة كانت الدعوة إلى التجديد في الدين وفي الفكر، أمراً غير مألوف، خصوصاً في المغرب الذي كان غارقاً في التخلف الفكري، وواقعاً تحت تأثير طبقة من المنتفعين بالعلوم الدينية، وبالتصوف الذي كاد أن يكون مقطوع الصلة بصحيح الدين. فلما ظهر علال بقلمه الجريء، وبلسانه البليغ، وبشخصيته النافذة المؤثرة الجاذبة، لفت إليه الأنظار، بل شدَّ إليه الأنظار، فكان رمزاً للتجديد، ومثالاً للفكر المبدع للأفكار التي تبني ولا تهدم، وتوحد ولا تفرق. وتبث في المجتمع روح الأمل والتفاؤل وحب الحياة الحرة الكريمة. وفكرة التجديد في مناحي الحياة كافة، التي كانت الطابع المميز للانطلاقة المبكرة للزعيم علال الفاسي، نضجت وتبلورت في أفكار رائدة انفرد بها بين أقرانه ممن كانوا ينشرون في الصحافة، ويخطبون في المنتديات، ويلقون الدروس في المساجد. بل إننا نجد المفكر المجدّد المبدع علال الفاسي، يسبق عصره بمراحل، ويتفوق على تلك الكوكبة المضيئة من أعلام الفكر، وأقطاب القلم، وأرباب العلم التي ظهرت في المشرق العربي في تلك الفترة. إن التفكير المبدع هو الذي ينتج الأفكار التي تقاوم الجمود، وتدعو إلى التغيير والإصلاح على أسس منطقية ووفق خطط مدروسة. وليس كلّ مفكر منتجاً للأفكار البناءة، وليس كلّ مفكر مجدّداً صاعداً نحو الاتجاه الصحيح. فالمفكر المبدع المنتج للأفكار المجدّد في فكره وفي محيطه وفي مجتمعه، هو ذلك المفكر الجسور الذي يملك الشجاعة العقلية للخروج على المألوف المتوارث من الأفكار البالية، والتقاليد الرثة، والمفاهيم المغلوطة، والمعتقدات الفاسدة. وهو نوعٌ محمودٌ من التمرد على الواقع الذي يقوم على أسس هشّة متداعية. وكذلك هو المفكر المبدع الذي يؤمن بالتقدم، وبالتطوّر، وبالتجديد، وبالتحديث، وبمسايرة روح العصر الذي يعيش فيه، ويتطلع بأفكاره ونظرياته ورؤاه وأحلامه إلى المستقبل. وبذلك لا يكون المفكر المبدع ابن وقته، وإنما هو ابن غده، إن صحَّ التعبير، فهو لا يعيش يومه، ولا يعايش الواقع، ولا يتعايش مع مجتمعه في ظروفه القائمة وأحواله السائدة وموروثاته الطاغية على العقل الجماعي، ولكنه يعيش مع أحلامه وأشواقه وتطلعه الدائم إلى المستقبل. وكان الزعيم علال الفاسي من هذه الطبقة الراقية تفكيراً وإبداعاً وتجديداً ونضالاً وممارسة في الحياة العامة. كان مفكراً مبدعاً منتجاً للأفكار الواقعية التي تتجه نحو تحرير العقل من أسر الجمود والتخلف، وتخليص البلاد من قبضة المحتل المستعمر، وفتح أبواب الأمل والثقة بالنفس والاعتزاز بالذات أمام أبناء الوطن جميعاً. كان مفكراً تجديدياً في فترة مظلمة ساد فيها الانغلاق والتزمت والانحراف عن جادة الدين الحنيف ومحجة تعاليمه السامية ومبادئه السمحة. ولا أحب أن أستخدم عبارة (المفكر الثائر) التي يستخدمها بعضُهم في هذا السياق، فالثورة من حيث هي، خبط عشواء، وتمرد أهوج، وحركة مرتجلة، وفوضى، وعدم، ومغامرة غير مأمونة العواقب. ولذلك كان وصف المفكر المبدع، المجدّد، الشجاع، الجسور، المقدام، الحالم بالمستقبل المشرق، بأنه (مفكر ثائر)، وصفاً غير سليم يتناقض مع واقع الحال؛ لأن (المفكر الثائر) يفتقد عنصراً أساساً من عناصر التفكير السليم، هو الاتزان الذي يُفضي إلى التوازن في فهم الواقع، وفي إدراك الحقائق، وفي الحكم على الأشياء. لم تكن الثورة أبداً إبداعاً تجديدياً، إنها فساد في الفكر، وفساد في الفعل، وفساد في الأرض، وتدمير لروح الإنسان، وحجر على العقل. على الرغم من أن هذه العبارة راجت على نطاق واسع، ونالت إعجاب القطاع الأوسع من الناس. ولكن ليس كلّ الناس يعلمون، ويفقهون، ويدركون حقائق الأمور. والمفكرون المبدعون المجدّدون يعلمون أنهم يخرجون على المألوف السائد، ويفقهون مقاصد ما يرومون تحقيقه والوصول إليه، ويدركون أن القلة من الناس هم الذين يعرفون مغزى ما يقولونه وما يكتبونه وما ينشرونه وما يبشرون به ويدعون إليه. ولذلك يشعر المفكرون المجدّدون بالغربة في محيطهم، وغالباً ما يضطهدون، ويقاسون، ويعانون، ويعيشون ظروفاً مضطربة، ويلازمهم القلق الخلاق، ذلكم القلق الذي يذكي الفكر، ويغني العقل، ويغذي الوجدان، ويفجر طاقات الإبداع والابتكار، ويدفع بالمرء نحو السير في دروب المستقبل. لقد كان التفكير على هذا النحو في النصف الأول من القرن العشرين في البلاد العربية، نوعاً من الجهاد مع النفس، وضرباً من المغامرة، وشكلاً من المخاطرة بكلّ شيء. ولذلك كان المفكر المبدع المنتج للأفكار البناءة الهادفة إلى التغيير والتطوير والتجديد، غريباً في مجتمعه، محاصراً من قبل قوى الجهل والبطش والقهر والعدوان، التي كانت تتمثل في واجهتين اثنتين؛ الاستعمار الأوروبي بسطوته وجبروته وقمعه للحريات وإجهاضه للأفكار الجديدة التي تدعو إلى التحرير من سلطانه، والطبقة المتخلفة من الأعيان، خاصة الطبقة التي كانت تنتمي بصلة إلى الثقافة الإسلامية، وتستحوذ على عقول الناس بالحق حيناً، وبالباطل في معظم الأحيان. وهذه الطبقة بطبيعتها تقاوم التفكير المبدع المجدّد الداعي إلى التغيير، وتحارب دعاته وأنصاره وتناصبهم العداء، ولا تقبل أي منافسة لها في ساحة العمل العام. وذلك مظهر مشرق من مظاهر الريادة الفكرية والعبقرية التجديدية والنبوغ المغربي الذي بلغ ذروته هذا المفكر المناضل الذي كان مثالاً راقيَ المستوى للجمع بين التفكير الحر، والتفكير التجديدي، والتفكير الإبداعي، وبين النضال المستميت من أجل تحرير الوطن وإعلاء شأنه، وفي سبيل بناء الدولة المغربية المستقلة على أسس الملكية الدستورية الاجتماعية، والإنسية المغربية، والخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية. لقد سبق الزعيم علال الفاسي عصره بمراحل طويلة، سواء على المستوى الوطني أو على المستوى العربي الإسلامي. ويشهد له بذلك ما نشره من مقالات (ومن قصائد أيضاً) قبل فترة النفي، كانت تدعو إلى التجديد الشامل، وإلى الخروج من دائرة الجمود والتخلف المغلقة، إلى فضاء الحرية في التفكير، والحرية في العمل والممارسة، والحرية في النضال من أجل الوطن. وبعد العودة من المنفى بثلاث سنوات فقط، بدأ يكتب كتابه الحجة (النقد الذاتي)، وينشره فصولاً أسبوعيةً في جريدة (رسالة المغرب) في المرحلة التي كان الأستاذ عبد الكريم غلاب رئيساً لتحريرها، وهي المرحلة الوسطى من عمر هذه المطبوعة. والجدير بالملاحظة هنا، أن الفترة القصيرة التي تفصل بين عودة الزعيم علال من المنفى إلى الوطن (صيف 1946) وبين البدء في كتابة فصول (النقد الذاتي) في خريف سنة 1949، لا تكفي للاطلاع الواسع على الفكر الأوروبي في مصادره الأصلية. فلقد تعمَّق علال في هذه الفصول المبتكرة، في تحليل الأفكار الإنسانية الكبرى، وغاص في بحار المذاهب السياسية والاقتصادية والنظم القانونية والدستورية، وخرج من ذلك بحصيلة مدهشة صاغها في أفكار تجديدية كانت مثار إعجاب النخبة من المفكرين في المشرق والمغرب، ولا تزال إلى اليوم. ولكنه علال المفكر المجدّد الجسور الذي اقتحم العقبة، وكان رائداً في كل مجال خاض فيه. تلك كانت خلاصة تأملاتي في الكلمة البليغة الضافية للأخ الأستاذ عباس الفاسي، الأمين العام لحزب الاستقلال، الوزير الأول، التي ألقيت بالنيابة في منتدى فاس.