هل جدّية الحركة النقدية المغربية وعدد الدارسين للنقد الأدبي من جامعيين وباحثين انطلاقاً من الحجم السكاني للبلد هي التي أتاحت وتتيح دراسة الكتابة العربية الحديثة بكل أجناسها وبهذا الثراء النادر والجميل. أذكر قبل سنوات أن الصديق الروائي المصري جمال الغيطاني قد باح لي باسم ناقد مغربي معتبراً أنه أهم من تناول تجربته الروائية بالنقد والتحليل، رغم أن أعماله قد حظيت بالحفاوة النقدية سواء في بلده مصر أو في بلدان عربية أخرى والمغاربية منها بشكل خاص. وعلى الرغم من أن القصة القصيرة ليست الاهتمام الوحيد للكاتب العراقي المقيم في المغرب الدكتور علي القاسمي، إلا أنه تماهى معها بحيث أصدر عدداً من المجاميع القصصية وخلال فترة ليست طويلة زمنياً، وزاد في تماهيه أن القصة القصيرة سهلة النشر في الصحف والدوريات بل وحتى في كتب. أقول هذا لأن القاسمي من المعجميين والمصطلحيين العرب الجادين، وقد أصدر عدة معاجم ربما كان أشهرها " المعجم العربي الأساسي " الذي هو منسِّق فريق مؤلفيه، و" معجم الاستشهادات الموسَّع"، وتعدّ كُتبه مراجع في مجالاتها، فكتابه " علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية" يجري تدريسه في عدد من الجامعات العربية في الوقت الحاضر. وقد أهّله اشتغاله المعجمي أن يكون عضوا في المجمعين اللغويين المصري والسوري. وقد اشتغل القاسمي على الترجمة فترجم مختارات من القصة القصيرة بعنوان " مرافئ على الشاطئ الآخر"، كما ترجم لهمنغواي يومياته الباريسية " الوليمة المتنقلة" وروايته الشهيرة " الشيخ والبحر". لكن تجربة القاسمي في القصة القصيرة أغرت الناقد المغربي إدريس الكريوي بقراءتها، فكانت ثمرة ذلك كتاباً كبير الحجم (416 صفحة) صدر مؤخراً عن دار الثقافة في الدارالبيضاء عنوانه " جماليات القصة القصيرة: دراسات في الإبداع القصصي لدى علي القاسمي". والمؤلِّف إدريس الكريوي مفتش في التعليم الثانوي وباحث في التربية ينشر أبحاثه ودراساته في المجلات المغربية والعربية مثل: علامات، جذور، عمّان، فكر ونقد، كتابات معاصرة، العلم الثقافي، وغيرها. وهو إضافة إلى ذلك شاعر ينشر قصائده في صحف ومجلات عربية ومحلية مثل " الشعر" المصرية، المشكاة، علامات، المعرفة السعودية، وغيرها. وعندما يتناول المؤلِّف في البحث تجربة قصصية، فإن عينَي المربّي حاضرتان في هذه القراءة التي بدأها بستة نصوص قصصية قبل أن يقدِّم تعريفاً بالمكتوب عنه. وربما كان اختياره لهذه النصوص دون غيرها، لأنه وجدها الأقرب إلى ذائقته، والأكثر قدرة على إيصال استنتاجاته عن مدوَّنة المكتوب عنه. أما كيف وزَّع بحثه الطويل هذا، فوجدناه يوزعه على النحو التالي: بوح النصوص وأبعادها، مفهوم الوطن لدى القاسمي، تقاطع التربوي والقصصي في إبداع القاسمي. وربما كان من زاوية المقارنة، يخصص فصلاً عن (اشتغال الحواس في قصص القاسمي ويحيى حقي) الكاتب المصري المعروف. وربما كانت هذه المقارنة التي وجدناها تشكّل مفاجأة، فاشتغال يحيى حقي الرائد في كتابة القصة والمعتمد على الحوار الدارج والاسم الدارج حتى في عناوين قصصه، فيه من الاختلاف أكثر مما فيه من التطابق، خاصة أن القاسمي لا تعنيه التقنيات بقدر ما تعنيه الحكاية (دائماً هناك حكاية في قصصه. وكذلك مفهومه للقصة بأنها حكاية تُروى وتُكتب). ثم يتحوّل فصل لاحق إلى ما سمّاها (مقومات القصة النفسية لدى القاسمي)، وصولاً إلى الفصل الأخير من كتابه المسهب هذا (أسلوب الكتابة وتقنياتها عند القاسمي). وبدا لي أن انشداد الكريوي لقصص القاسمي هو أنه حتى في نقده لم يبتعد عن كونه مربّياً، حيث وجد فيها قصصاً من الممكن أن يقرأها الجيل الشاب ويجد فيها ما هو مهم بالنسبة له. فهي قصص وليدة خبرة حياتية ووليدة تنقُّل جغرافي، ووليدة وفاء وحنين للوطن ولمسقط الرأس. كما أن قصص القاسمي بعيدة عن معظم النصوص القصصية السائدة التي تتجاوز كل الضوابط لتقول ما تريده بصراحة قد يجدها البعض كما وصفوها " خادشة للحياء" !! وربما كان هذا مردّه إلى أن القاص نفسه عمل مدرساً في المدارس الثانوية وأستاذاً في الجامعات، أي أنه مربٍّ مثل ناقده، فكان هذا التطابق الجميل بين القاص والناقد. وأعتقد أن هذه القراءة الجدية التي اشتغل عليها الأستاذ الكريوي تستحق التحية، فهي بشكل أو آخر تحتفي بالقصة العراقية، وتحتفي بالأديب العراقي، وسط هذه المحنة الجائرة التي يعيشها العراق كله وبكافة فئاته. كتاب جدير بالقراءة والتكريم.